موقع الفرقان
الفساد أصبح ظاهرة خطيرة تصيب جميع مجتمعات العالم، النامية والمتطورة والمتقدمة منها على حد سواء، وإن كان بدرجات متفاوتة ، ومن المؤسف أن معدلات الفساد آخذة في الازدياد، فضلًا عن تنوع المجالات التي يلحقها، كالفساد السياسي والاقتصادي والإداري والاجتماعي والأخلاقي، وغيره من أنواع الفساد.
والفساد ظاهرة اجتماعية وإدارية وسياسية واقتصادية، وهو نوع من العلاقة يتم فيها انتهاك القيم والمثل والمعايير والقوانين ، وللفساد درجات مختلفة، منه البسيط ومنه الواسع المعقد، والفساد قد ينال كل مظاهر الحياة وكل جوانبها من دون استثناء، وقد يمارس الناس الفساد دون أن يعترفوا بذلك، بل قد يدعون أنهم مصلحون كما في قوله تعالى: {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون}(البقرة:11)؛ لذا كان لابد من فتح هذا الملف حتى نقف على أبعاده ونفهم أنواعه وآثاره.
تعريف الفساد
معناه كما ذكر أهل اللغة: الفساد مصدر فَسَدَ يُفْسُدُ فَسادًا، وهو ضد الإصلاح، قال الليث: الفساد نقيض الإصلاح، وقال الراغب: الفساد خروج الشيء عن الاعتدال سواء أكان الخروج عليه قليلاً أم كثيرًا، وكل اعتداء على الدين، أو العقل، أو المال، أو العرض، أو النفس فهو إفساد.
وأما الإفساد في الاصطلاح: فقد ذكر أهل العلم: أنه إخراج الشيء عن حالة محمودة لا لغرض صحيح.
النهي عن الفساد والإفساد في القرآن
جاءت آيات كثيرة في كتاب الله -عز وجل- تنهى عن الإفساد في الأرض، قال تعالى: {وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا}(الأعراف : 56)، قال الإمام ابن القيم -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: “قال أكثر المفسرين: لا تفسدوا فيها بالمعاصي والدعاء إلى غير طاعة الله، بعد إصلاح الله إياها ببعث الرسل، وبيان الشريعة، والدعاء إلى طاعة الله؛ فإن عبادة غير الله ، والدعوة إلى غيره، والشرك به، هو أعظم فساد في الأرض، بل فساد الأرض في الحقيقة إنما هو بالشرك به، ومخالفة أمره، قال تعالى: {ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ}(الروم : 41).
وبالجملة فالشرك والدعوة إلى غير الله، وإقامة معبود غيره، ومطاع متبع غير رسول الله هو أعظم الفساد في الأرض، ولا صلاح لها ولا لأهلها إلا أن يكون الله وحده هو المعبود، والدعوة له لا لغيره، والطاعة والاتباع لرسوله ليس إلا، وغيره إنما تجب طاعته إذا أمر بطاعة الرسول، فإذا أمر بمعصيته وخلاف شريعته فلا سمع له ولا طاعة، فإن الله أصلح الأرض برسوله، ودينه، وبالأمر بتوحيده، ونهى عن إفسادها بالشرك به، وبمخالفة رسوله.
ومن تدبر أحوال العالم وجد كل صلاح في الأرض فسببه توحيد الله، وعبادته، وطاعة رسوله، وكل شر في العالم، وفتنة، وبلاء، وقحط، وتسليط عدو، وغير ذلك، فسببه مخالفة رسوله، والدعوة إلى غير الله ورسوله.
ومن الآيات التي جاءت في كتاب الله -عز وجل- تنهى عن الفساد والإفساد في الأرض قوله -جل وعلا-: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ}(البقرة: 205)، يقول ابن جرير الطبري -رحمه الله-: اختلف أهل التأويل في معنى الإفساد الذي أضافه الله -جل وعلا- إلى هذا المنافق الذي ذكره الله في الآية، فقيل: هو قاطع الطريق. وقيل: الذي يسفك دم المسلمين، إلى آخره. ويدخل في الإفساد جميع المعاصي.
يقول القرطبي -رحمه الله-: في قوله تعالى: {وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ}(البقرة: 205)، قَالَ الْعَبَّاسُ ابْنُ الْفَضْلِ: الْفَسَادُ هُوَ الْخَرَابُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: قَطْعُ الدَّرَاهِمِ مِنَ الْفَسَادِ في الأرض.
جزاء المفسدين في الأرض
بَيَّنَ الله -عز وجل- لنا في هذه الآيات أن من اعتدى على أموال الناس، وأعراضهم، ودينهم، أنه مفسد في الأرض، فما جزاء هذا الذي يفسد ويعتدي؟
بَيَّنَ الله -جل وعلا- الجزاء في كتابه فقال -جل وعلا-: ﴿ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ﴾(المائدة: 33)، هذا جزاء من أفسد في الأرض التي أمر الله -جل وعلا- بإعمارها بطاعته -جل وعلا-، والانشغال بذكره -جل وعلا-.
وقد صرح جمع من أهل العلم أنه بمجرد قطع الطريق، أو إخافة السبيل فهنا ترتكب الكبيرة، فكيف إذا أخذ المال، أو جَرَح، أو قَتَل، أو فعل كبيرة؟! فكل هذا لا يجوز.
صور الإفساد في الأرض
- الصورة الأولى: ما ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم -رحمهما الله- وهي: الشرك بالله -عز وجل-، والشرك هو مساواة غير الله بالله، فعبادة غير الله -عز وجل-، والذبح لغير الله، والنذر لغير الله، والدعوة للقبور، والمزارات أن تعبد من دون الله -عز وجل-، أن تُشَدَّ الرحال إليها، والتوكل عليها، والاستعانة بها ، والحلف بها، كل هذا من الإفساد في الأرض.
- الصورة الثانية: نشر البدعة: النبي صلى الله عليه وسلم حَذَّرَ من الابتداع في الدين، فقال في حديث عائشة -رضي الله عنها- عنه صلى الله عليه وسلم : «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ».
يقول ابْنُ الْمَاجِشُونِ: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: “مَنِ ابْتَدَعَ فِي الْإِسْلَامِ بِدْعَةً يَرَاهَا حَسَنَةً، زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم خَانَ الرِّسَالَةَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِينًا ﴾ (المائدة: 3)، فَمَا لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ دِينًا، فَلَا يَكُونُ الْيَوْمَ دِينًا.
فمن يدعو الناس إلى البدع، وأن هناك بدعة حسنة، فإن هذا من تنقص دعوته صلى الله عليه وسلم ، واتهام للنبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يؤد الرسالة كاملة صلى الله عليه وسلم .
- الصورة الثالثة : نشر المنكرات والدعوة إليها: ونشر الفاحشة بين الناس، وتحبيبهم لها، وتذليل الصعوبات التي تواجهها، والله -عز وجل- نهى عن ذلك فقال: ﴿ فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ ﴾ (هود: 116)، فمدح الله -عز وجل- من يأمر الناس بالمعروف وينهى عن المنكر، وأنهم يسعون في الأرض بالإصلاح .
- الصورة الرابعة: السحر: السحر سمى الله -عز وجل- فاعله مفسدًا فقال تعالى: ﴿ فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَىٰ مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ (يونس: 81)، وسمى الله عمل السحرة والسحر بأنه عمل المفسدين، فهم من المفسدين في الأرض.
وقد نهى الله – عز وجل- عن السحر، ونهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم ، قال الله -جل وعلا-: ﴿ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ﴾(البقرة: 102)، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن السحر، وبين أنه من السبع الموبقات فقال صلى الله عليه وسلم : «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟ قَال صلى الله عليه وسلم : «الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ الغَافِلاَتِ».
- الصورة الخامسة: قتل النفس التي حرم الله ، فإن من أعظم الحرمات الاعتداء على حرمة المؤمن؛ فإنه حرمته من أعظم الحرمات، وهي أعظم من حرمة البيت الحرام، يقول ابن عمر -رضي الله عنه وأرضاه- وهو ينظر إلى الكعبة: «مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ، وَالمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللَّهِ مِنْكِ».
إن قتل الأنفس المعصومة من كبائر الذنوب، ومن الإفساد الكبير في الأرض، ومن عِظَمِ منزلة المؤمن أن النبيصلى الله عليه وسلم أولى الناس به في الدنيا والآخرة، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه وأرضاه- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَأَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، اقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ ﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾ (الأحزاب: 6)، فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ تَرَكَ مَالًا فَلْيَرِثْهُ عَصَبَتُهُ مَنْ كَانُوا، فَإِنْ تَرَكَ دَيْنًا، أَوْ ضَيَاعًا فَلْيَأْتِنِي فَأَنَا مَوْلاَهُ».
إن زوال الدنيا وما فيها أهون عند الله -عز وجل- من قتل رجل مسلم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : «لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ»
وبَيَّنَ النبي صلى الله عليه وسلم أن مجرد ترويع المسلم لا يحل فقال صلى الله عليه وسلم - في الحديث: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا»
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَنْ يَزَالَ المُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا» رواه البخاري.
ليس فقط الاعتداء على المسلم أو على النفس المعصومة، بل حمل السلاح عليها وترويعها وإخافة الآمنين، كل هذا من الإفساد في الأرض يقول صلى الله عليه وسلم : «مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاَحَ فَلَيْسَ مِنَّا» رواه البخاري ومسلم
فهذه الأحاديث والأقوال تبين خطر الاعتداء على دماء المسلمين، بل إن أول ما يحكم بين الناس يوم القيامة في الدماء، كما ثبت ذلك عند البخاري ومسلم ، من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: «أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ»
فإن من صور الإفساد في الأرض ليس قتل نفس المؤمن المسلم، بل أيضًا يشمل ذلك المعاهد، والمستأمن، فإن الله -عز وجل- قد حفظ له حقه، فقد أخرج البخاري عن عبد الله بن عمر –رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا».
- الصورة السادسة: زعزعة الأمن ، إن الأمن في الأوطان مطلبٌ كلٌ يريده وكلٌ يطلبه؛ فإنه أول مطلب طلبه إبراهيم -عليه السلام- من ربه فقال -جل وعلا- في كتابه: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ ﴾(إبراهيم: 35)، ثم في الآية الثانية: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾(البقرة: 126)، فأول طلب طلبه لتحقيق العبادة أن يكون هناك أمن، ثم كرر الطلب في الآية الثانية .
فقريش أنعم الله عليها بنعمة الأمن، فأطعمها من جوع وآمنهما من خوف، هذه الآيات تبين وجوب الاهتمام بهذا الأمر، وأن من يسعى لزعزعة الأمن إنما يريد الإفساد في الأرض، وأن تعم الفوضى والشر بين عباد الله.
فمن زعزعة الأمن حمل السلاح على الناس، ونشر الأقوال الفاسدة، ونشر الطعن في ولاة الأمر، أو العلماء، أو الطعن في أصل من أصول الدين.
وهذه القنوات الفضائية التي تبث ليلاً ونهارًا، وتغزو الناس في دورهم وفي أماكن أعمالهم ليس خطرها فقط في الأخلاق وإنما خطرها الأكبر زعزعة الأمن، فيجب التنبه والحذر من هذا كله.
- الصورة السابعة: عدم السمع والطاعة لولاة الأمر ، الذين أمرنا الله -عز وجل- بالسمع والطاعة لهم في المنشط والمكره، وأمر بذلك النبي -صلى الله عليه وسلم-، فإن في السمع والطاعة تعاون الجميع واجتماعا للكلمة، وهذا أصل من أصول الدين، بعض الناس يعتقد أن الحديث في موضوع السمع والطاعة لولي الأمر من المسائل السهلة، إن جميع أهل العلم جعلوه في باب العقائد؛ لأن هذا أصل من أصول الدين يجب أن يعرفه كل واحد، وأن يهتم به.
يقول الإمام البربهاري -رحمه الله-: «من ولي الخلافة بإجماع الناس ورضاهم، فهو أمير المؤمنين، لا يحل لأحد أن يبيت ليلة، ولا يرى أن ليس عليه إمام برًّا كان أو فاجرًا».
- الصورة الثامنة: ارتكاب المعاصي والآثام، لقد أوجب الله علينا طاعته، وألزمنا بذلك، وبَيَّنَ لنا أن الاستقامة على طاعة الله سبب للتمكين في الأرض، وإذا حققنا التوحيد فإن التمكين والنصر من الله -عز وجل- آت لا شك، والدليل على ذلك قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ﴾(الأنعام: 82)، وقد حَثَّنَا النبي صلى الله عليه وسلم على كثرة العبادة، وعلى الابتعاد عن الفتن، فعن معقل بن يسار -رضي الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ»، فإذا رأيت الناس يُكْثِرُون في أمور لا فائدة منها فاعتزلهم.
ي قول النووي -رحمه الله-: «الْمُرَادُ بِالْهَرْجِ هُنَا: الْفِتْنَةُ، وَاخْتِلَاطُ أُمُورِ النَّاسِ، وَسَبَبُ كَثْرَةِ فَضْلِ الْعِبَادَةِ فِيهِ أَنَّ الناس يغفلون عنها، ويشتغلون عنها، ولا يتفرغ لها إلا أفراد»؛ فالانشغال بالعبادة وقت الفتن خير لك وأفضل.
- الصورة التاسعة: السعي إلى الفرقة والسعي إلى تحزب الناس؛ وقد نهى الله عن الفرقة والتحزب، وأمر بالاجتماع، ونهى عن الاختلاف: ﴿ ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ﴾(الأنفال: 46)، ويقول -جل وعلا-: ﴿ واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ﴾(آل عمران: 103)، فالله -عز وجل- أمر بالاجتماع ونهى عن الاختلاف، فنشر الفرقة بين الناس بسبب الْحَسَبِ، أو النَّسَبِ، أو تُوالي وتعقد الولاء من أجل الرجال، فإن هذا سبب من أسباب الفرقة، ومن يسعى إلى نشر الفرقة بين المجتمع ويسعى إلى الإفساد فيهم فيجب نصحه، وإلا حذرنا منه؛ لأنه يسعى للإفساد في الأرض.
فعلى المسلم أن يسعى لجمع الكلمة وإلى توحيدها؛ فإن الله -عز وجل- أمر به، وأمر به نبينا صلى الله عليه وسلم .
- الصورة العاشرة: الدعوة إلى إفساد المرأة ، ودعوتها إلى أن تعصي ربها -عز وجل-، وأن تفعل فعل نساء الكفر، فهذا أيضا من الإفساد في الأرض، وليحذر الإنسان من ذلك أشد الحذر، وليسع في كل أمر فيه خير وصلاح.
إن الفساد في الأرض ليس خاصًا بالرجال، فالمرأة عليها أن تسعى للإصلاح في الأرض لا أن تسعى للإفساد في الأرض، وذلك بتربية أبنائها على طاعة الله -عز وجل-، واتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، والمحافظة على بيتها، وعلى زوجها، وأن تؤدي ما أوجب الله عليها من أقوال وأفعال.
كُلٌّ يَدَّعِي الإصلاح
إن الفساد والإفساد شر وبلاء، فإن العبد قد يكون عبد سوء وفساد، وقد يكون عبدَ خير وتقوى، فإن تخلق بالدين، والخلق القويم، وامتلأ قلبه إيمانًا وتقوى، سعى في إصلاح البلاد والعباد، وإن انحرف معتقده، وساء سلوكه، سعى في إفساد البلاد والعباد.
والفساد والإصلاح أمران متناقضان، وكل يدعي لنفسه أنه المصلح، ولكن كما قال الله تعالى: {والله يعلم المفسد من المصلح}(البقرة:220)، قال الله عن المنافقين إنهم إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا: إنما نحن مصلحون {ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون}(البقرة: 12)، كانوا إذا نُهوا عن الفساد في الأرض بكفرهم بالله، وتكذيبهم لرسوله، وعملهم بخلاف ما يظهرون {قالوا إنما نحن مصلحون}(البقرة:11)، قال الله تعالى: {ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون}(البقرة: 12)، وأخبر ربنا عن فرعون أنه قال عن موسى -عليه السلام-:{إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأ{ض الفساد}(غافر: 26)، ففرعون يصف موسى -عليه السلام- بأنه يسعى في الأرض فسادًا، وفرعون أعظم المفسدين والمسرفين، فهذا فرعون الذي قال: {أنا ربكم الأعلى} (النازعات: 24)، يرى أنه مصلح، وهذا من انتكاس الفطر والعياذ بالله.
الآثار المترتبة على انتشار الفساد في المجتمعات
إنّ استفحال الفساد والإفساد في العالم يؤدّي إلى مساوئ وآثار سلبية كبيرة ومتنوعة: ومن هذه الآثار:
- آثار دينية: فإنّ الفساد سبب في نزول العذاب وحلول النِّقم من الله تعالى.
- وآثار اجتماعية: يزرع الفساد بذور التفرقة والعداوة والبغضاء بين النّاس ويحطّم كيان الأسر، وتتفاقم المشكلات الأسرية، وفيه إهدار لكرامة الفرد وعرضه، ويهدّد النّوع البشري.
- وأمّا الآثار النّفسية والصّحية، فالمُفسد فاقد للأمن النّفسي والاستقرار العقلي؛ حيث يسيطر القلق والاضطراب عليه.
- وأما آثاره الاقتصادية، فتترتّب عليه مضار كثيرة ويؤدّي إلى إهدار المال العام، ويعود على الدولة بالخسارة المالية، ويقف دون التقدّم الاقتصادي والرّقي الحضاري للمجتمع.
- وأمّا آثاره السّياسية، فيعدّ الفساد عدوّ التّنمية، فهو من أسباب فشل خطة التّنمية في الدول النامية، وهو مشجّع على كلّ مظاهر الفوضى والخروج على النّظام العام. - See more
الإسلام ومعالجة الفساد
إن الدين الإسلامي الحنيف حارب الفساد منذ اليوم الأول لبعثة النبي صلى الله عليه وسلم ، بدءًا من فساد العقيدة فقد جاء ليحرر الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد, وجاء ليقضى على الأخلاق الذميمة والعصبيات الجاهلية, وينشر بدلاً منها, الأخلاق القويمة الحميدة, وتكون العصبية للدين وحده, جاء ليقضى على كل مظاهر الفساد الاقتصادية والاجتماعية ويؤصل بدلاً منها كل ما هو حسن وكل ما من شأنه أن ينهض بالأمة ويجعلها رائدة العالم كله.
وقد انتهج الإسلام في محاربة الفساد نهجًا قويمًا, فالإسلام قد نظر إلى هذا الفساد بكل أنواعه, وأدرك أسبابه الخفية والظاهرة وعمل على علاجها علاجًا جذريًا حقيقيًا وليس علاجًا صوريًا كما هي المناهج العصرية التي ينتهجها الناس اليوم, ثم عالج الفساد بعد حدوثه، وحاربه بسبل وطرائق لا يستهان بها، بل لقد أثبت التاريخ أن النهج الإسلامي هو أنجع السبل في محاربة الفساد, وهذا ليس بالشيء الغريب؛ فالإسلام منهج حياة كامل متكامل صالح لكل زمان ومكان، ويصلح كل ما أفسده الناس في كل زمان ومكان.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم