عناصر الخطبة
1/الاعتبار برحيل شهر رمضان 2/فضل العشر الأواخر من رمضان 3/فضل ليلة القدر 4/هدي النبي في العشر الأواخر من رمضان 5/ فضل الدعاء 6/مسائل متعلقة بزكاة الفطراقتباس
هذا هو شهركم وهذه نهاياته، كم من مستقبلٍ له لم يستكملهُ، وكم من مؤمل بعود إليه لم يدركهُ، هلا تأملتم الأجل ومسيرَهُ، وهلا تبينتم خداع الأمل وغرورَهُ. أيها الإخوة: إن كان في النفوس زاجر وإن كان في القلوب واعظ فقد بقيت من أيامه بقية، بقيةٌ وأيُّ بقيةٍ، إنها عشره الأخيرة التي مضى شيء منها، بقيةٌ كان يحتفي بها....
الخطبة الأولى:
أما بعد:
فأوصيكم -عباد الله- ونفسي بتقوى الله؛ فإنها عروة ليس لها انفصام، وجذوة تضيء القلوب والأفهام، وهي خير زاد يُبلِّغ إلى دار السلام، من تحلى بها بلغ أشرف المراتب، وتحقق له أعلى المطالب، وحصل على مأمون العواقب، وكُفي من شرور النوائب.
معاشر المسلمين: هذه أيامُ شهركم تتقلص، ولياليه الشريفةُ تنقضي، شاهدةٌ بما عملتم، وحافظةٌ لما أودعتم، هي لأعمالكم خزائن محفوظة، ينادي ربكم يوم القيامة: "يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه" [رواه مسلم].
هذا هو شهركم وهذه نهاياته، كم من مستقبلٍ له لم يستكملهُ، وكم من مؤمل بعود إليه لم يدركهُ، هلا تأملتم الأجل ومسيرَهُ، وهلا تبينتم خداع الأمل وغرورَهُ.
أيها الإخوة: إن كان في النفوس زاجر وإن كان في القلوب واعظ فقد بقيت من أيامه بقية، بقيةٌ وأيُّ بقيةٍ، إنها عشره الأخيرة التي مضى شيء منها، بقيةٌ كان يحتفي بها نبيكم محمد أيما احتفاء، في العشرين قبلها كان يخلطها بصلاة ونوم، فإذا دخلت العشر الأخيرة شمر وجدَّ وشدَّ المئزرَ، هجر فراشه وأيقظ أهله، يطرق الباب على فاطمة وعلي -رضي الله عنهما- قائلاً: "ألا تقومان فتصليان؟!" يطرق الباب وهو يتلو: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى)[طه: 132].
ويتّجه إلى حجرات نسائه آمرًا: "أيقظوا صواحب الحجر، فرب كاسية في الدنيا عاريةٍ يوم القيامة" [رواه البخاري].
أيها المسلمون: اعرفوا شرف زمانكم، واقدروا أفضل أوقاتكم، وقدموا لأنفسكم، لا تضيِّعوا فرصةً في غير قربة.
إحسانُ الظن ليس بالتمني، ولكنَّ إحسانَ الظن بحسنِ العمل، والرجاءُ في رحمةٍ مع العصيان ضربٌ من الحمق والخذلان، والخوفُ ليس بالبكاءِ ومسحِ الدموع، ولكنَّ الخوفَ بترك ما يُخَافُ منه العقوبةَ.
معاشر الصائمين: هذه العشر الأواخر من رمضان كأني بها واقفة تناديكم فتقول: أنا العشر الأواخر من رمضان، قد حللت بكم فهل عرفتم ماذا يعني قدومي؟! إن أول معنًى لقدومي هو إنذار لكل ذي بصيرة ولب بأن شهركم هذا قد آذن بالرحيل، وحق لكل من أحب هذا الشهر أن يحزن على فراقه لما وجد فيه من لذة العبادة وشفافية القلب وصفاء وارتقاء الروح. أعرفتم معنى الأواخر؟! أي: خاتمة الشهر، وقد أخبر نبيكم وحبيبكم بأن الأعمال بالخواتيم، وذلك فيما أخرجه الإمام البخاري حيث قال: "إن العبد ليعمل عمل أهل النار وإنه من أهل الجنة، ويعمل عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار، وإنما الأعمال بالخواتيم" [رواه البخاري].
فعجبًا لقوم من بني الإيمان اجتهدوا في أول الشهر ثم لما اقتربت نهاية الشهر وخاتمته شغلوا بملابس العيد وبحلوى العيد وببرنامج العيد، فما لهم نسوا أن الأعمال بخواتيمها؟!
معاشر المؤمنين: إن من رحمة الله بكم أن اختصني من بين سائر ليالي وأيام العام بليلة القدر، أتدرون ما ليلة القدر؟! إنها ليلة اختصها الله من بين ليالي السنة، وشرفها بأن أنزل فيها كتابكم، أنزل فيها قرآنكم الذي بين أيديكم من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، وأخبركم بذلك في قوله: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ)[الدخان: 3].
وفي هذه الليلة المباركة العظيمة يحدث أمر عظيم، يقول عنه الخبير اللطيف: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ)[الدخان: 4]، أي: في هذا الليلة يفصل من اللوح المحفوظ إلى الكتبة مقادير العام وما يحدث فيه، وما يكون فيه من الآجال والأرزاق والأحداث، قال بذلك ابن عمر ومجاهد والضحاك وغير واحد من السلف.
فعجبًا لعبد تكتب مقاديره وما يحدث له طوال العام وهو في حالة غفلة عن الله، وما أسعد عبدا كان في تلك الليلة مقبلا مناجيا لربه ومولاه.
هذه الليلة أكرمكم الله فيها بالأجر المضاعف العظيم، يقول سبحانه: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ)[القدر: 3].
فما أعظمها من منحة، وما أكرمها من عطية، ليلة واحدة تقومها لله تكون خيرًا لك من عمرك كله، خير لك من ثلاثة وثمانين عامًا وربع العام، فأنت قد لا تعمر حتى تصل الثمانين، وإن وصلت فهل ستنفق عمرك كله في العبادة؟!
عباد الله الصالحين: دعونا نقترب بالمثال أكثر من الواقع، فلو قيل لأحدنا في عمله: لو عملت شهرًا كاملاً متواصلاً سوف تعطى رواتب ثلاث وثمانين عامًا، ألا ينظر إليها بأنها صفقة رابحة؟! ألا يحاول أن يكيف ظروفه ووضعه وحياته ليتفرغ لأداء عمل ذلك الشهر ليحصل على المقابل؟! والمقابل هنا لا يتطلب جهدًا كبيرًا، فربكم لم يطلب منكم إلا عشر ليالي فقط، ويضمن العبد بذلك أنه قام ليلة القدر، وأنه قد حصل -بإذن الله - على أجر يزيد على عبادة ثلاث وثمانين عامًا، أفلستم معي بأنها صفقة رابحة من الكريم -سبحانه-؟! وليس هذا فقط ولكن استمعوا معي إلى ما أخبركم به نبيكم وحبيبكم بقوله: "من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" [رواه البخاري].
الله أكبر، ليلة واحدة تقومها يغفر لك ما فعلت من ذنوب وخطايا طوال عمرك الذي مضى، فأين أصحاب القلوب الحية الذين استشعروا كثرة ذنوبهم وعظيم خطاياهم من هذا العرض الرباني السخي؟! وما أشد غبن من فرط في ترصد هذه الليلة وقيامها.
أيها الأحبة في الله: إن هذا الأجر العظيم لا يلزمه أن يعرف المرء أي ليلة هي ليلة القدر، فمن قام ليالي العشر كاملة فهو بالتأكيد قد قام ليلة القدر، ويحصل أجر القيام لمن قام مع الإمام حتى ينصرف، لحديث أبي ذر قال: صمنا مع رسول الله فلم يصل بنا حتى بقي سبع من الشهر، فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل، ثم لم يقم بنا في السادسة، وقام بنا في الخامسة حتى ذهب شطر الليل، فقلنا له: يا رسول الله، لو نفلتنا بقية ليلتنا هذه، فقال: "إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة" [رواه الترمذي].
لكن البلية يوم أن يقوم عباد مع الإمام القيام الأول ثم هم بين القيامين يرتكبون المنكرات والمعاصي من تدخين ونظر في القنوات ونحوها، ثم يعودون مرة أخرى ليقفوا خلف الإمام في القيام الثاني حتى إذا انتهى القيام الثاني وعادوا لمنازلهم وفي الثلث الأخير من الليل ذلك الوقت الفاضل يعودون لمنكراتهم -والعياذ بالله-.
فنقول لهم: ألا تستطيعون التخلي عن تلك المنكرات ولو لمدة العشر الأواخر من رمضان؟!
ومن الناس من يدخل عليه عدوه مدخلاً عجيبًا ليفوت عليه هذا الأجر العظيم؛ بحيث إنه يقوم الليلة الأولى من ليالي العشر ثم يقنعه بأنها هي ليلة القدر، فيتكاسل المسكين ويجلس أو ينشغل عن قيام بقية العشر، وقد تكون ليلة القدر أمامه فيخسر ويحرم من هذا الأجر العظيم.
وقد رجح أهل العلم جمعًا بين النصوص أن ليلة القدر هي ليلة متنقلة في العشر الأواخر من رمضان، وهي في ليالي الوتر آكد.
فتحروا -معاشر المؤمنين - هذه الليالي من هذا الشهر، وإن كان فات من العشر ما فات فما يدريكم قد تكون فيما بقي منه.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يبلغني وإياكم تلك الليلة، وأن يوفقنا لقيامها، وأن يتقبل منا ومنكم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)[القدر: 1-5].
نسأل الله -عز وجل- أن يتقبل منا جميعًا صيامنا وقيامنا ودعاءنا، وأن يمن علينا بالقبول والمغفرة والعتق من النار بمنّه وكرمه، وأن يجبر كسرنا على فراق شهرنا، ويعيده علينا أعوامًا عديدة وأزمنة مديدة، وعلى الأمة الإسلامية وهي ترفل في حلل العز والنصر والتمكين، وقد عاد لها مجدها وهيبتها بين العالمين، إنه خير مسؤول وأكرم مأمول.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله أهل الحمد والشكر والإحسان والبر، أحمده سبحانه فضَّل شهر رمضان وخص أيام العشر، وعظم فيها ليلة القدر، وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، نعمه تجل عن الحصر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، أكرم رسول نزل عليه أشرف ذكر، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الحشر.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله-، واعرفوا للعشر الأواخر من رمضان قدرها، ولكم في نبيكم وقدوتكم أسوة حسنة، فقد كان صلوات ربي وسلامه عليه شديد التحري لهذه الليلة وهو من غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقد كان يتفرغ لها تفرغًا تامًا؛ حيث كان يعتزل أهله وبيته ويعتكف في المسجد، وقد اعتكف مرة من شدة تحريه شهر رمضان كاملا، فقد أخرج البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: "اعتكف رسول الله العشر الأول من رمضان واعتكفنا معه، فأتاه جبريل، فقال: إن الذي تطلب أمامك، فاعتكف العشر الأوسط، فاعتكفنا معه، فأتاه جبريل فقال: إن الذي تطلب أمامك، فقام النبي خطيبا صبيحة عشرين من رمضان، فقال: "من كان اعتكف مع النبي فليرجع؛ فإني أريت ليلة القدر وإني نسيتها، وإنها في العشر الأواخر في وتر، وإني رأيت كأني أسجد في طين وماء".
وكان سقف المسجد جريد النخل، وما نرى في السماء شيئًا، فجاءت قزعة فأمطرنا، فصلى بنا النبي –صلى الله عليه وسلم- حتى رأيت أثر الطين والماء على جبهة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وأرنبته تصديق رؤياه.
وها هي زوجه الحبيبة أمنا أم المؤمنين تحكي لنا حاله بقولها: "كان النبي –صلى الله عليه وسلم- إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله".
فأقبلوا على ربكم، وأحيوا ليلكم، وأيقظوا أهلكم؛ تأسّيا بسنة نبيكم، وقدِّموا لأنفسكم، وجِدُّوا وتضرعوا، تقول عائشة أمُ المؤمنين -رضي الله عنها-: يا رسول الله، أرأيتَ إن علمتُ ليلة القدر ماذا أقول فيها؟ قال قولي: "اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني" [رواه الترمذي وصححه الألباني].
نعم -أيها الأخوة-، الدعاءَ الدعاءَ، عُجُّوا في عشركم هذه بالدعاء؛ فقد قال ربكم عز شأنه: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)[البقرة: 186].
أتعلمون من هؤلاء العباد؟! إن الخلائق كُلَّهم عبادُ الله، ولكنَّ هؤلاء عبادٌ مخصوصون، إنهم عُبّاد الدعاء، عُبادُ الإجابة، إنهم السائلون المتضرعون مع عظم رجاءٍ وفي رغبة وإلحاح: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ).
إنَّ للدعاءِ -أيها الإخوةُ- شأنًا عجيبًا، وأثرًا عظيمًا، في حسن العاقبةن وصلاحِ الحال والمآل، والتوفيقِ في الأعمال، والبركةِ في الأرزاق.
أرأيتم هذا الموفق الذي يلجأ إلى الله في كل حالاته، ويفزعُ إليه في جميع حاجاته؟! يدعو ويُدعى له، نال حظه من الدعاء بنفسه وبغيره، والداه الشغوفانِ وأبناؤه البررةُ والناس من حوله كلهم يحيطونه بدعواتهم، أحبه مولاه فوضع له القبول، فحسن منه الخُلُق، وزان منه العمل، فامتدت له الأيدي وارتفعت له الألسن تدعو له وتحوطه، ملحوظٌ من الله بالعناية والتسديد وإصلاح الشأن مع التوفيق.
أين هذا من محرومٍ مخذولٍ لم يذق حلاوة المناجاة، يستنكف عن عبادة ربه ويستكبر عن دعاء مولاه، محرومٌ سدَّ على نفسه باب الرحمة، واكتسى بحجب الغفلة.
أيها الإخوة: إن نزعَ حلاوةِ المناجاةِ من القلب أشدُّ ألوان العقوبات والحرمان، ألم يستعذ النبي من قلب لا يخشع، وعين لا تدمع، ودعاء لا يسمع؟!
إن أهل الدعاء الموفقين حين يعُجون إلى ربهم بالدعاء يعلمون أن جميع الأبواب قد توصد في وجوههم إلا بابًا واحدًا هو بابُ السماء، باب مفتوح لا يغلق أبدًا، فتحه من لا يرد داعيًا ولا يُخيِّب راجيًا، فهو غياثُ المستغيثين وناصر المستنصرين ومجيب الداعين.
أيها المجتهدون: يجتمع في هذه الأيام أوقات فاضلة وأحوال شريفة: العشرُ الأخيرة، جوفُ الليل من رمضان، والأسحارُ من رمضان، دبُرُ الأذان والمكتوبات، أحوالُ السجود، وتلاوةُ القرآن، مجامعُ المسلمين في مجالس الخير والذكر، كلها تجتمع في أيامكم هذه، فأين المتنافسون في هذه العبادة العظيمة؟! ألظّوا بالدعاء رحمكم الله، لا تسأموا ولا تعجزوا، ولا تستبطئوا الإجابة، فيعقوب -عليه السلام- فقد ولده الأولَ ثم فقد الثاني في مددٍ متطاولة، ما زاده ذلك بربه إلا تعلقًا: (عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)[يوسف: 83].
ونبي الله زكريا -عليه السلام- كبرت سنه، واشتعل بالشيب رأسه، ولم يزل عظيم الرجاء في ربه حتى قال محققًا: (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيًّا)[مريم: 4].
لا تستبطئ الإجابة -يا عبد الله-؛ فربك يحب تضرعَك ويحب صبرَك ويحب رضاك بأقداره، رضًا بلا قنوط، وقد قال: "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي" [متفق عليه].
أيها المسلمون: أيامكم هذه من أعظم الأيام فضلاً وأكثرِها أجرًا، تصفو فيها لذيذ المناجاة، وتسكب فيها غزير العبرات، كم لله فيها من عتيق من النار، وكم فيها من منقطع قد وصلته توبته.
المغبون من انصرف عن طاعة الله، والمحروم من حُرِم رحمة الله، والمأسوف عليه من فاتت عليه فُرص الشهر وفرط في فضل العشر، وخاب رجاؤه في ليلة القدر، مغبونٌ من لم يرفع يديه بدعوة، ولم تذرفْ عينُه بدمعة، ولم يخشع قلبه لله لحظة.
أيها المسلمون: لقد شرع الله لكم في ختام هذا الشهر المبارك أعمالاً تفعلونها، من ذلك: إخراج زكاة الفطر، وتسمى صدقة الفطر، ويقال للمخرَج: فطرة، وهي المقصودة في قوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى)[الأعلى: 14].
وقد أضيفت إلى الفطر لأنها تجب بالفطر من رمضان، وهي صدقة عن البدن والنفس.
زكاة الفطر يخرجها المسلم قبل صلاة العيد شكرًا لله -تعالى- على نعمة التوفيق لصيام رمضان وقيامه، يختم بها المسلم عمل رمضان.
زكاة الفطر يخرجها المسلم من غالب قوت البلد، والأصل فيها ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "فرض رسول الله زكاة الفطر من رمضان صاعًا من تمر، أو صاعًا، من أقط، أو صاعًا من شعير، على كل حر وعبد، ذكر أو أنثى، على الصغير والكبير.".
ويستحب إخراجها عن الجنين فقد كان السلف -رضي الله عنهم- يخرجونها عنه.
ويجب أن يخرجها عن نفسه، وكذلك عمن تلزمه مؤونته من زوجة أو قريب، إذا لم يستطيعوا إخراجها عن أنفسهم، فإن استطاعوا فالأَولى أن يخرجوها عن أنفسهم لأنهم المخاطبون بها أصلاً.
أما عن وقتها: فإن زكاة الفطر تجب بغروب الشمس ليلة العيد؛ لأنه الوقت الذي يكون به الفطر من رمضان، وزمن دفعها له وقتان: وقت فضيلة ووقت جواز، فأما وقت الفضيلة فهو صباح العيد قبل الصلاة، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- أمر بزكاة الفطر قبل خروج الناس إلى الصلاة[رواه البخاري ومسلم].
وأما وقت الجواز فهو قبل العيد بيوم أو يومين لما ثبت عن نافع قال: كان ابن عمر يعطي عن الصغير والكبير، حتى إنه كان يعطي عن بنيّ، وكان يعطيها الذين يقبلونها، وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين.
ولا يجوز تأخيرها عن صلاة العيد، فإن أخرها فهي صدقة من الصدقات.
والواجب في زكاة الفطر صاع من غالب قوت أهل البلد من بر، أو شعير، أو أرز، أو تمر، أو زبيب، أو أقط، وكلما كان أجود فهو خير وأفضل.
فعلى كل مسلم ذكر أو أنثى، صغير أو كبير، حر أو عبد، أن يخرج صاعًا من طعام بصاع النبي أو ما يعادله، كيلاً أو وزنًا، ولا يجزئ أقل من ذلك، والصاع بمقاييسنا الحالية يساوي بالوزن المتعارَف اثنين من الكيلو ومائتين غرامًا بالاحتياط.
أيها المسلمون: وزكاة الفطر تدفع إلى فقراء المكان الذي هو فيه وقت الإخراج، سواء كان محل إقامته، أو غيره من بلاد المسلمين، وإذا كان الشخص لا يعرف فقراء البلد فيسلمها للجمعية الخيرية، ويقومون بتوزيعها نيابة عنه.
ولا يجوز إخراج زكاة الفطر نقودًا، وقد شرع هو صلوات الله وسلامه عليه زكاة الفطر بما ثبت عنه في الأحاديث الصحيحة: صاعًا من طعام، أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من زبيب، أو صاعًا من أقط، روى هذا الحديث البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمر.
وبناء عليه، فلا يجوز إخراج القيمة في زكاة الفطر، وإنما يجب أن تكون من غالب قوت أهل البلد، يقول العلماء: "إن إخراج القيمة لا يجزئ؛ لأنه مخالف لأمر النبي، ولأنه مخالف لعمل الصحابة -رضي الله عنهم-، فإنهم كانوا يخرجونها صاعًا من طعام".
ثم إن هذا ما عليه الفتوى من علماء هذه البلاد، فمخالفة رأي العلماء أيضا أمر صعب؛ فإنا لم نصل إلى ما وصلوا إليه من العلم الشرعي حتى نخالفهم.
تقبل الله منّا ومنكم صالحَ الأعمال، وجعلنا وإيّاكم وإخوانَنا المسلمين مِن عتقائه من النّار، إنّه سميع مجيب.
هذا واعلموا -رحمكم الله- أن من خير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، كثرة صلاتكم وسلامكم على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، نبيكم محمد بن عبد الله، كما أمركم بذلك ربكم جل في علاه، فقال تعالى قولاً كريمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم