عناصر الخطبة
1/ ثقة المؤمنين ببعضهم البعض 2/ تحريم الظنون السيئة وذم أهلها 3/ بعض آثار الظنون السيئة ومفاسدها 4/ آفة الاستعجال في الحكم على الآخرين والتحذير منهااقتباس
أيها المسلمون: لقد قطعت الظنون الصلات، وفرقت الشكوك الأخوة والأحبة، وباعدت الريب بين الخلان، لقد فتح الكثير من الناس الباب لنفسه، وأرخى لها الحبل تتجول في الظنون فيما يرى أمراً إلا وحمله على الشك السيء والظن السوء، واعتمد هذا الظن، وبناءً...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الموفق لكل خير ومعروف، الهادي إلى الصراط المستقيم، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، -صلى الله عليه وسلمَ- وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه وسار على نهجه إلى يوم الدين.
وبعد:
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله -تعالى- وأطيعوه ولا تعصوه، حافظوا على أعمالكم الصالحة، وأخلصوا النية لله، واحذروا مفسدات الأعمال من الظنون والشكوك والريب: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ) [الحجرات: 12].
عباد الله: يعيش الناس في مجتمعاتهم آمنين غانمين بفضل الله ورحمته، يثق بعضهم ببعض، ويطمئن بعضهم إلى بعض، ويرحم بعضهم بعضاً، وهذه حياة يربي الإسلام عليها أتباعه ليعبدوا الله -تعالى- في طمأنينة وأمن وسلامة وعافية.
وإن شر ما يفرق جمع المسلمين ويكدر صفوهم ويستجلب القلق لهم: الظن السيء بهم، فإذا نزل الظن السيء في قوم فقد نزلت بهم المحن والفتن، فتقطع الأرحام، ويتباعد الخلان، وتعطل المصالح، وتسوء المعاملة، ويتوقف البناء الخلقي، وتفسد الطباع حتى يكون الخراب والهدم والدمار، وحق المسلم أن يوثق به ويصدق ويؤتمن، ولا يخون ولا يظن به شراً أو سوءًا ما دام الخير ظاهراً عليه، وأمارات الثقة بادية على محياه، وعلامات الأمانة ترفرف على أخلاقه وطبائعه.
وللعواقب الوخيمة والنتائج المدمرة على الناس ومجتمعاتهم؛ حرم الله -سبحانه- اتباع الظن، ونهى عن إرخاء الحبل للنفس الأمارة بالسوء حتى لا تعثوا في الأرحام فساداً وتقطيعاً، وفي الأوصال إبعاداً وحروباً، فقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) [الحجرات: 12]، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً كما أمركم"، وقال عليه الصلاة والسلام: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره".
والظن معناه التهمة التي لا سبب لها، أو التي لم يتأكد صاحبها إنما حمل نفسه على الشك ولم يتيقن ولم يتحقق.
وحرم الظن حتى لا يقع المرء في أعراض الناس فيأثم؛ لأنه إذا ظن وطاوع ظنه، وأطاع نفسه كما هو حال كثير من الناس فسوف يبني على هذا الظن أحكاماً وتصرفات وسلوكيات من المقاطعة والمخاصمة والطعن والاغتياب... إلخ.
ولهذا أمر الله -تعالى- بالتحقيق أو التحقق من الأمر قبل التصرف، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات: 6]، ويا سبحان الله! كم من غافل عن هذه الآية لا يعمل بها قد وقع فيما حذر الله منه من الوقوع في أعراض الآخرين بجهالة دون تحقيق؟! بل قد تبين له بعد ذلك أنه مخطئ في ظنه وتصرفه!
أيها المسلمون: لقد ذم الله -تعالى- الظن ذاته وزجر عباده من الاتصاف به كما بين أن أكثر العباد بظنونهم خاسرون قد أخذهم ظنهم السيء حتى ألقي بهم في الظن السيء بالله -جل وعلا-، يقول تعالى: (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ) [الأنعام: 116]، وقال: (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ) [يونس: 36]، وقال: (يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ) [آل عمران: 154].
ونادى رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- أصحاب الظنون الذين يؤذون المسلمين بظنونهم وشكوكهم وريبهم مهددهم ومتوعدهم، فقال: "يا من أسلم بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإن من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته" (رواه أبو داود والترمذي وحسنه).
أيها المسلمون: لقد قطعت الظنون الصلات وفرقت الشكوك الأخوة والأحبة، وباعدت الريب بين الخلان، لقد فتح الكثير من الناس الباب لنفسه وأرخى لها الحبل تتجول في الظنون فيما يرى أمراً إلا وحمله على الشك السيء والظن السوء، واعتمد هذا الظن، وبناءً عليه اتخذ الحكم، وقرر المقاطعة والعداوة، وملأ قلبه ضغينة وبغضاءً، وشنّ الحرب الضروس، وشرق وغرب في الغيبة، وفساد النية والطويّة، وكل ذلك بناه على الظنون والشكوك.
إن المرء العجول في حكمة وتصرفه يقع في كثير من الأخطاء الفادحة، ولذلك مثل هذا يمتلئ أخطاء بسرعة، ويفيض عداوة وبغضاء على إخوانه المسلمين، فهو يكاد يقاطع المجتمع كله، ويعادي الناس جميعاً، يمتطى مطيّة الظن ليلاً ونهاراً، رضي أن يبيع دينه وعمله وإيمانه بالظنون، فقاطع وحارب وعادى واتهم وأبغض واغتاب وطعن بالظن.
فهل ترون هذا -عباد الله- ناج بين يدي الله، فالح ناجح في هذه الدنيا؟ كيف يستطيع المرء أن يتعايش مع الناس وهو يظن بهم سوءًا ويحملهم على محامل السوء؟ كيف يمكن لمثل هذا أن ينجح في حياته الدنيا؟ ألم تروا كيف يفتك الظن بالأسر والعائلات والأخوة والأخوات؟ كم من زوجة ذهبت ضحية الظن والشك؟ وكم من زوج أو أب يتم أبناءه وهو حي؟ وكم من ظالم ظلم العباد فآذاهم وأساء إليهم وهضم حقوقهم وسبب لهم أذية دائمة ملازمة لهم مدى الحياة حتى الممات بمتابعة أبنائهم وذرياتهم عندما اعتمدهم ظناً فقط دون التأكد من جرمهم وخطئهم؟
إن صاحب الظن السوء يأتي يوم القيامة مفلساً مع أعماله الصالحة يأتي معتدياً وشاتماً، وسفاكا للدم، كما صور رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- حاله فقال: "إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار" (رواه مسلم).
في الدنيا أقوام يقاطعون إخوانهم بلا سبب أو مناسبة، فتراه يعرض وينأ ويعبس بوجهه إذا قابله زيداً أو عمروا، وإذا ذكر زيد عنده هال عليه من السباب والشتائم أو ذكره بسوء، وتراه يتوق إلى اغتيابه وذكره بالسوء لحرقة في قلبه أشعلتها الظنون السيئة، والشكوك، والنفس الأمارة بالسوء.
أيها المسلمون: إذا علمتم ذلك فاعلموا أن الذين يعتمدون الظن في أحكامهم على الناس كثير جداً وقل من يتريث، ويتحقق ذلك؛ لأن النفوس مستولية على الناس تقودهم إلى السوء والفساد، وقد أثر هذا في صلات الناس وأرحامهم وأخوتهم، حتى إن البعض من شدة ما استولت عليه نفسه وأحاطت به شكوكه وظنونه لم يعد يشعر بشيء أو لا يكاد يفهم شيئاً اسمه: التحقق والتريث.
إن الاستعجال في الحكم على الناس بالظن علامة على قلة الإيمان أو ضعف الديانة؛ لأن الإيمان القوي حصن حصين لصاحبه من كل ما يخل بسلوكياته ومعتقداته، وخاصة مثل هذا الاخلاق السيئة، وصاحب الظنون ينفر منه الناس ويجتنبونه ويحذرونه فيبقى معزولاً عن المجتمع والناس، وإن الواجب على المبتلى بمثل هذا البلاء أن يبادر لإصلاح نفسه والتخلص من هذا المرض الذي سيقضي على دينه وحاله، وذلك بمعالجة نفسه بمشاورة أهل العلم، والنصح، والبحث على التزين بالثقة ومخالطة الناس، وحملهم على ظواهرهم، فإنه لا يجوز وليس من العقل أن ترى رجلاً يقول الخير ويسعى فيه، ثم تحمله على السوء والظن السيء.
ويحاول أن يدرب نفسه على عدم الاستعجال في الحكم على الناس ومنحهم الثقة، فهم إخوانه المسلمون، وأن يجعل التحقيق والتثبيت مطيته في ذلك حتى لا ينفلت زمام نفسه، فكم وجد أهل التحقيق من السلامة والعافية والأجر؟ وكم سلموا من الشرور وحفظوا من الآثام والأوزار؟ وكم وجدوا من الخير والمعروف لما حققوا في أمورهم وتبينوها فإن في التحقق الخير والفلاح والفوز إن شاء الله -تعالى-، ولذلك أمر الله -تعالى- به: (فَتَبَيَّنُوا) [الحجرات: 6].
فو الله لقد خسر البعض من الناس الكثير من إخوانهم وأرحامهم وأصدقائهم لما ركبوا مطية الظن السيء، واعتمدوه مقياساً يقيسون به عباد الله.
فاتقوا الله -تعالى- وتخلصوا من الظن السيء، وظنوا بإخوانكم خيراً فإن كثيراً من الظنون لا أساس لها، ولا محل عند من ظن بهم السوء، واحرصوا على بناء الصلات بينكم وبين الناس، ووثقوا أخوتكم، و(لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ) [النور: 21].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم