عناصر الخطبة
1/ المعروف إذا لم يؤمر به يضمحل 2/ صبر الرسل والسابقين على الأذى في سبيل المعروف 3/ نماذج من الأذى الذي تعرض له نبينا 4/ الصبر ثمن للجنةاقتباس
إن كثيرًا من الناس لا يشكون في فرضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يمترون في فائدته للأمة ولدينها في الحاضر والمستقبل، ولكنهم يتقاعسون عن ذلك إما تهاونًا وتفريطًا، وإما اعتمادًا على غيرهم وتسويفًا، وإما جبنًا يلقيه الشيطان في قلوبهم وتخويفًا، والله يقول: (إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)، وإما ..
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى ومروا بالمعروف وانهوا عن المنكر واصبروا على ما أصابكم، إن ذلك من عزم الأمور، إن المعروف إذا لم يؤمر به ولم يحيَ بالعمل به والتواصي فيه ضاع واضمحل، فانهدم بذلك جانب من دينكم، وصار العمل به بعد ذلك منكرًا مستغربًا بين الناس، وإن المنكر إذا لم يُنه عنه ويحذر الناس بعضهم بعضًا منه شاع وانتشر بين الناس، وأصبح معروفًا لا ينكر ولا يستغرب، وقيسوا ذلك بما انتشر من منكرات كنتم تنكرونها من قبل وتستغربون وجودها بينكم.
إن كثيرًا من الناس لا يشكون في فرضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يمترون في فائدته للأمة ولدينها في الحاضر والمستقبل، ولكنهم يتقاعسون عن ذلك إما تهاونًا وتفريطًا، وإما اعتمادًا على غيرهم وتسويفًا، وإما جبنًا يلقيه الشيطان في قلوبهم وتخويفًا، والله يقول: (إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 175]، وإما يأسًا من الإصلاح وقنوطًا.
أيها المسلمون ويا أيها المؤمنون: إن تخويف الشيطان إياكم أولياءه أو تسليطهم عليكم لا ينبغي أن يمنعكم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن ذلك أمر لا بد منه إلا أن يشاء الله، امتحانًا من الله وابتلاءً، إن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر قائم مقام الرسل كما قال الله تعالى في وصف خاتمهم وسيدهم محمد: (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ) [الأعراف: 157]، فإذا كان قائمًا مقام الرسل فلا بد أن يناله من الأذى ما يناله، كما قد لاقى الرسل.
ولقد لاقى الأنبياء والرسل من أقوامهم أشد الأذى وأعظمه، حتى بلغ ذلك إلى حد القتل قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنْ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) [آل عمران: 21]، فهذا أول الرسل نوح -عليه السلام- لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا يدعوهم إلى الله، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، فكان ملؤهم وأشرافهم يسخرون منه، ولكنه صامد في دعوته يقول: (إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ) [هود: 38، 39]، حتى قالوا متحدين له: (يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ) [هود: 32]، وقالوا مهددين له: (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنْ الْمَرْجُومِينَ) [الشعراء: 116]، أي من المقتولين رجمًا بالحجارة.
وهذا إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- خليل الرحمن وإمام الحنفاء، لبث في قومه ما شاء الله يدعوهم إلى الله تعالى، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر: (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ) [العنكبوت: 24]، فما ثنى ذلك عزمه ولا أوهنه عن دعوته، مضى في سبيل دعوته إلى ربه بعزم وثبات، وأزال منكرهم بيده، فغدا إلى أصنامهم فكسرها حتى جعلها جذاذًا إلا كبيرًا لهم لعلهم إليه يرجعون، فلما رجعوا إلى أصنامهم وعلموا أن الذي كسرها إبراهيم طلبوا أن يؤتى به ليوبخوه على أعين الناس، فيشهد الناس ما يقول، فهل جبن أن يقول قول الحق في هذا المقام العظيم؟! كلا بل قال لهم موبخًا: (أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [الأنبياء: 66، 67]، فعزموا على تنفيذ ما هددوه به: (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ) [الأنبياء: 68]، فأضرموا نارًا عظيمة وألقوا إبراهيم فيها، وهي أشد ما تكون اتقادًا، ولكن رب العزة قال لها: كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم، فكانت بردًا لا حر فيه، وسلامًا لا أذى فيه.
وهذا موسى ماذا حصل له من فرعون المتكبر الجبار؟! دعاه موسى إلى الله العلي الأعلى وقال: (إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الزخرف: 46]، فقال فرعون ساخرًا به: (وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ) [الشعراء: 23]، وقال لملئه: (إِنَّ رَسُولَكُمْ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ)، ثم توعد موسى قائلاً: (لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ)، فهل خاف موسى من ذلك؟! وهل وهنت عزيمته عن الدعوة إلى الله -عز وجل-؟! بل مضى في ذلك حتى بيّن لفرعون من آيات الله ما يهتدي به أولو الألباب، ولكن فرعون استمر في غيه واستكباره، وقال مهددًا موسى بالقتل ومتحديًا له أن يدعو ربه: (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ) [غافر: 26]، وقال لوزيره هامان ساخرًا بالله رب العالمين: (يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً) [غافر: 36، 37]، ولكن موسى صبر على كل ما لاقاه من فرعون وقومه حتى كانت العاقبة له، وكانت نتيجة فرعون وقومه ما ذكر الله: (إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ * كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ) [الدخان: 24- 28].
وهذا عيسى -عليه الصلاة والسلام- أوذي من جانب اليهود، فكذبوه ورموا أمه بالبغاء أي الزنى، وعزموا على قتله واجتمعوا عليه، فألقى الله شبهه على رجل، فقتلوا ذلك الرجل وصلبوه وقالوا: (إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ) [النساء: 157]، قال الله تعالى مكذبًا لما ادعوه من القتل والصلب: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) [النساء: 157، 158].
وهذا خاتم الرسل وأفضلهم وسيدهم، أعظم الخلق جاهًا عند الله، هل سلم من الأذى في دعوته إلى الله وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر؟! لا، بل ناله على ذلك من الأذى القولي والفعلي ما لا يصبر عليه إلا من كان مثله، ولم يثنه ذلك عن دعوته إلى الله -عز وجل-، دعاهم إلى عبادة إله واحد: (وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) [ص: 4، 5]، وكانوا إذا رأوا النبي اتخذوه هزوًا وقالوا ساخرين به: (أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً * إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا) [الفرقان: 41، 42]، (وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) [الحجر: 6]، (وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً) [الفرقان: 8]، (أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) [الطور: 30]، فآذوا النبي بكل ألقاب السوء والسخرية، ولم يقتصروا على ذلك فحسب، بل آذوه الأذى الفعلي، فكان أبو لهب -وهو عمه وجاره- يرمي بالقذر على باب النبي، فيخرج النبي فيزيله ويقول: "يا بني عبد مناف: أي جوار هذا؟!".
وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود قال: "بينما النبي قائم يصلي عند الكعبة وأبو جهل وأصحاب له جلوس، إذ قال قائل منهم: أيكم يذهب إلى جزور آل فلان أي ناقتهم فيجيء بسلاها ودمها وفرثها فيضعه على ظهر محمد إذا سجد؟! فذهب أشقى القوم فجاء به، فلما سجد النبي وضعه على ظهره بين كتفيه، قال ابن مسعود: وأنا أنظر لا أغني شيئًا لو كانت لي منعة، فجعل أبو جهل ومن معه يضحكون حتى يميل بعضهم إلى بعض من الضحك، ورسول الله ساجد لا يرفع رأسه، حتى جاءت ابنته فاطمة تسعى وهي جويرية حتى ألقته عنه، فلما قضى النبي الصلاة قال: "اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش". ثم سمى فلانًا وفلانًا.
وفي صحيح البخاري أيضًا عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "بينا رسول الله يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط، فأخذ بمنكب رسول الله ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقًا شديدًا، فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبي عدو الله ودفعه عن النبي قائلاً: "أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم؟!".
ولما اشتد به الأذى من قومه خرج إلى الطائف رجاء أن يؤوه ويمنعوه من قومه، فلقي منهم أشد ما يلقى من أذى وقالوا: اخرج من بلادنا، وأغروا به سفهاءهم يقفون له في الطريق ويرمونه بالحجارة، حتى أدموا عقبيه، قال النبي: "فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب".
أيها المسلمون: إن هذا الصبر العظيم على هذا الأذى الشديد الذي لقيه النبي وإخوانه لأكبر عبرة يعتبرها المؤمنون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، ليصبروا على ما أصابهم، ويحتسبوا الأجر من الله، ويعلموا أن للجنة ثمنًا: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) [البقرة: 214].
الخطبة الثانية:
لم ترد.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم