عناصر الخطبة
1/ غنى الشباب بالطاقات المادية والأدبية 2/ نماذج لقيادات إسلامية شبابية عسكرية وعلمية 3/ انتصار النبي الكريم بالشباب 4/ هجرة الشباب 5/ حاجة الشباب لرعاية أولياء ومشرفين أمناءاقتباس
شاب عمره ثمانية عشر عاماً يُوَلَّى القيادة، ويتولاها بجدارة... ثم من باب إعطاء القائد حرمة القيادة، ومكانة الرياسة، يقول أبو بكر لأسامة: "هل تأذن لي في "عمر" ليبقى معي؟" عمر بن الخطاب مجند في الجيش!... عندما أتصوره... أقول في نفسي: طبيعة الإيمان، تربية القرآن! لو كان هذا في إحدى العواصم العربية لرأيناه يتسكع في الطريق سادلاً شعره على رأسه كأنما هو امرأة..
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً رسول الله، الرحمة المهداه، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد: فنحن نعلم أن القوة البدنية من نعمة الله على الإنسان؛ كي يؤدي واجبه، ويبلِّغ أهدافه، ويؤدي الحقوق الأدبية المكتوبة عليه.
ولهذا رأيت القرآن الكريم نوه بها في الوظائف القيادية، وفي الوظائف العامة، فأما في الوظائف القيادية، فإن اليهود لما اعترضوا على أن بعث الله فيهم من يقودهم ويربيهم (... قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا؟ وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ، وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ...) [البقرة:247].
كانت طبيعة القوم في تقدير الأشخاص بالمال تهيمن عليهم، ويطل من ورائهم حكمهم على الأمور، فأفهمهم الله جل شأنه أن الرجال الكبار يكونون كباراً بالمعادن التي يصاغون منها، والمواهب التي يُرزَقونها، والقوة العلمية والبدنية التي تجعلهم يستطيعون أن ينهضوا بما يحملون من أعباء؛ قال تعالى موضحاً هذه الحقائق: (... إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ...) [البقرة: 247]. والبسطة في العلم: أن يكون القائد حكيماً فقيهاً مدركاً للأمور، واضعاً كل شيء موضعه، دون مغالاة أو تفريط. والبسطة في الجسم: أن يستطيع الإنسان أن يؤدي ما عليه، وأن ينطلق في الوجه الذي يبتغيه، دون أن يغلبه إعياء، أو يقف به داء.
ومعروف في تاريخ الرجال أن الهمم الكبيرة تدوِّخ أصحابها، وأن القلوب الحية تكلف الأجساد ما لا تطيق، ولذلك قال المتنبي:
وإذا كانَت النُّفُوسُ كِبَاراً *** تَعِبَتْ في مُرادِهَا الأجْسَامُ
ولأمر ما وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- بعض نعم الله على خلقه، فقال في عد هذه النعم: "وبدناً على البلاء صابراً". والبلاء: التكاليف التي يختبر الإنسان بها. فإذا كان الإنسان صاحب طاقة على تحمُّل الأعباء، كان ذلك من نعم الله عليه، هذا موضعٌ ذكَر القرآن فيه خصائص الرجال الذين يقودون.
ثم في موضع آخر أُجري على لسان بنت شعيب هذا الوصف الذي قال الفقهاء فيه: إنه جمع الكفايات والمواهب والمؤهلات التي لابد منها في كل وظيفة. قالت البنت لوالدها: (يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ. إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) [القصص:26]. قال العلماء: القوة يقصد بها الطاقة المادية على الوفاء بما يُطلب؛ والأمانة يقصد بها الرقابة الروحية، ويقظة الضمير التي تجعل الإنسان يدرك مسئولياته، ويؤرقه خوف التفريط فيها؛ فهو أمين، وهو قوي، فأمانته تجعله يؤدي ما عليه بدقة، وقدرته تجعله ينهض بما عليه دون عجز.
ولأن القوة بهذه المثابة في جميع الوظائف القيادية والعامة، كانت مرحلة الشباب من أخطر المراحل في حياة الناس، وكان لها حساب خاص عند الله، لم؟ لأنها مرحلة القوة، فإن الإنسان يبدأ وبه ضعف الطفولة، وينتهي وبه ضعف الشيخوخة، يبدأ ضعيف القوى المادية والأدبية، وينتهي وقواه المادية ضعيفةٌ وإن كان واسع التجربة أو كثير المعرفة. قال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ، ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً، ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً. يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ، وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) [الروم:54].
هذه القوة بين ضعفين جعلت لفترة الشباب حساباً خاصاً، وجعلت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا تزول قدماً ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه، وماذا عمل فيما علم؟".
والشباب من العمر، وسيسأل الإنسان عنه ما دام جزءاً من عمره، لكن الله أراد أن يبين أن للشباب حساباً خاصاً، دون فترة الشيخوخة، ودون فترة الصبا الباكر أو المراهقة، فإن فترة الشباب تعتبر فعلاً أعمَرَ الفتَراتِ بالقُوَّة، وأملأها بالخيال، وأغناها بالطاقات المادية والأدبية على سواء، وهذه الخواص التي حفت بفترة الشباب جعلت لهذه الفترة ولأصحابها مكانة خاصة.
قال المؤرخون: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعرف بأنه يحف دائماً بهذا الزهر المتفتح من الشباب الذين وهبوا لله أعمارهم، وكرَّسوا له قواهم، واستطاعوا أن يكونوا قذائف الحق التي دمر بها الباطل، ومشاعل النور التي أضاءت بها الظلمة؛ واستطاعوا أن يكونوا طلائع الفجر الذي طلع على الدنيا بحضارة الإسلام، فأغناها روحياً ومادياً عن ليالٍ طحنت البشرية، وأسقطت قدرها، وجعلت همتها خسيسة، وحركتها كليلة. فلما ظهر هذا الشباب المؤمن حول محمد -عليه الصلاة والسلام- بدأ الإسلام يؤدي رسالته تأدية رائعة جليلة.
النبي نفسه -صلى الله عليه وسلم- بعث في اكتمال شبابه، على سن الأربعين، وإن كانت خصائص الشباب من قوة، وسعة ورحابة، وعاطفة حارة، وإقبال عارم، كل ذلك بقى في الكيان النبوي حتى لحق بالرفيق الأعلى، وسنرى فيما نعرض من نماذج أن الشباب موهبة قد تمتد مع العمر وقد تنكمش، لكن الذي لا شك فيه أن شباباً في أعمارهم نضارة، وفي سنهم بكورة، هم الذين بذلوا الجهود المضنية في تأديب الباطل، وقمع غروره، وفي رفع راية الحق، وإعلان مبادئه.
وأنا أنظر إلى الرجال المقاتلين فأرى الثلاثة الذين قتلوا في مؤتة: زيد ابن حارثة، جعفر بن أبي علي طالب، عبد الله بن رواحه. كانوا شباباً تقريباً في الثلاثين من أعمارهم، ومع ذلك فإن زيد بن حارثة تلاشى في رماح الرومان، وجاء بعده جعفر فقاتل بضراوة، وكان رجلاً فيه كبرياء الإيمان، واعتزاز أهل اليقين بما وهبوا من معادن وشرف، فلما قاتل سمع منه:
يا حبَّذا الجنَّةُ واقْتِرَابُها *** طيِّبَةٌ وبَاردٌ شَرَابُها
والرُّومُ رُومٌ قدْ دَنَا عَذَابُها *** كافِرَةٌ بَعِيدةٌ أنْسَابُها
عليَّ إنْ لاقَيْتُهَا ضِرَابُها
والروم يومئذ كانوا هم الدولة الأولى في العالم، ولكن جعفر -وهو تلميذ من تلامذة محمد عليه الصلاة والسلام- كان يحتقر الكفر وأهله، وكان يرى أن القوة البدنية والطاقة المادية إن ساندت الضلال والشرك فما تساوى شيئاً، ولا تعلي خسيسة أحد، ولا ترفع قدر مبدأ؛ ولذلك قاتل الروم باحتقار، احتقار الشرك، احتقار الوثنية والمظالم، قاتل وقُتل، وجاء بعده عبد الله بن رواحة فقاتل وقتل.
زيد بن حارثة خلَّف ولداً اسمه أسامة بن زيد، أسامة بن زيد جعله النبي -صلى الله عليه وسلم- قائداً على الجيش لمقاتلة الرومان، وليدرك ثأر أبيه، شاب عمره ثمانية عشر عاماً يولى القيادة، ويتولاها بجدارة، ويشعر الشاب وهو يتمطى فرسه وينطلق إلى وجهه أن خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسِنه واحد وستون عاماً يمشي إلى جانبه! فيخجل أسامة ويقول: يا خليفة رسول الله! إما أن أنزل... فيقول الخليفة له: "والله لا أركب ولا تنزل. وما عليَّ أن أغبِّرَ قدميَّ ساعة في سبيل الله؟!".
ثم من باب إعطاء القائد حرمة القيادة، ومكانة الرياسة، يقول أبو بكر لأسامة: "هل تأذن لي في "عمر" ليبقى معي؟" وعمر بن الخطاب مجند في الجيش! فيأذن أسامة بن زيد في أن يبقى عمر، ويصدر أمراً ببقاء عمر مع خليفة رسول الله –صلى الله عليه وسلم-!.
عندما أتصوره شاباً في الثامنة عشر من عمره، أقول في نفسي: طبيعة الإيمان، تربية القرآن! لو كان هذا في إحدى العواصم العربية لرأيناه يتسكع في الطريق سادلاً شعره على رأسه كأنما هو امرأة! لا تعرف ماذا يصنع؟ ولا يدري هُوَ أَلَهُ في الحياة رسالة أم لا؟.
بهؤلاء الرجال مضي الإيمان في طريقه لم يتوقف، والغريب أن ضريبة العمل صاحبت كل إنسان مهما كانت مكانته، المعروف في عالم اليوم، إذا نبغ فرد في أسرة تسلق من على أكتافه كثيرون، كلهم يدعي العبقرية، كلهم يطلب أن تكون له المكانة، لأن فرداً من أسرته نبغ، الغريب أن النبي الهاشمي -صلى الله عليه وسلم- رفض هذه القاعدة، ورفض أن تكون لها قيمة في حياته وسيرته وتقديره للأشخاص، وأبى الرجال أنفسهم من أسرته أن تكون قرابتهم هي التي تقدمهم.
ولذلك وجدناهم في غزوة "بدر" أول من يبرز، فكان عم النبي -صلى الله عليه وسلم- وابنا عمه أول الفرسان الذين يقاتلون، وأول قتيل سقط في "بدر" كان من بني هاشم، وأول شهيد عظيم في "أحد" كان حمزة بن عبد المطلب عم النبي -عليه الصلاة والسلام-، وجعفر الطيار نفسه ابن عم النبي -صلى الله عليه وسلم- مات شهيداً في "مؤتة".
كان الرجال الكبار وشباب هذا الدين يعلمون أن مكانتهم عند الله بمقدار ما يضحون، وبمقدار ما يؤدون؛ سمعوا في دينهم حديثاً عن الفتية أهل الكهف، كانوا شباباً، لكنه شباب زانه الإيمان، زانته المغامرة في سبيل الله، زانته المقاومة للضلال السائد، والرفض للشرك المستبد؛ كانوا شباباً ذكره القرآن فقال: (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) [الكهف:13]، وسمعوا القرآن يتحدث عن شباب "يوسف" كيف زانته العفة، عن شباب "موسى" كيف كان قوة وحكمة: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً) [يوسف:22]. أهذا له وحده؟ لا، (... وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) [يوسف:22].
لما غضب إبراهيم من مسلك أبيه تاجر الأصنام الذي يصنعها ويغري الناس بعبادتها، واستطاع إبراهيم أن يناوش الأصنام بلسانه، ثم بيده، كان حديث الناس: (... سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ) [الأنبياء:60].
فالفتى الذي حطم الأصنام كان شاباً، كانت له قدرة الشباب، وطاقته، وعواطفه، وأفكاره، وآماله؛ كانت كلها تدور حول قيم حقيقية، حول مثل رفيعة، حول أهداف نقية، فكان الشباب بحق نور أمته، وخيراً للدين الذي اعتنقه، وعاش به، وعاش له.
هذا من الناحية العسكرية، أما من الناحية العلمية، فعندما أنظر إلى الرجال الذين اعتبروا أئمة لهذه الأمة أرى أنهم كانوا من الشباب، عبد الله ابن عباس -رضي الله عنهما- الذي غار منه بعض كبار السن لأن عمر -رضي الله عنه- كان يجعله من مشيخة الأمة في استشارته والأخذ برأيه، كان شاباً! عبد الله بن الزبير، عبد الله بن عمرو، عبد الله بن عمر، العبادلة الأربعة الذين ورَّثوا الدين كانوا شباباً، أبو هريرة كان شاباً كثير الشكوى للنبي -صلى الله عليه وسلم- من العزوبة، وكان يرجوه أن يعينه على الزواج، وهذا الشاب شغل نفسه بالعلم حفظاً واستيعاباً، ورواية ودراية، ونشراً وانطلاقاً به في الآفاق، فكان المؤسس للحضارة العلمية في هذا الدين القيم.
ووجدنا الأئمة من بعده ناساً حلاوة العلم عندهم أذهلتهم عن حلاوة المادة والبحث وراءها، والاستكثار منها، وجدنا رجلاً "كالشافعي" الذي سعدت القاهرة بأنه كان يدرس في مسجدها هذا -مسجد عمرو بن العاص، رضي الله عنه- ومساجد أخرى هنا، هذا الإمام مات وعمره بضع وخمسون سنة! أي أنه كان يكوِّن علمه وهو شاب.
والشافعي هو الواضع لعلم أصول الفقه: فن التشريع في الإسلام، فن تقنين القوانين، واستخراج الأحكام، وتقعيد القواعد. الشافعي هذا مات في الخمسين من عمره، متى صنع هذا الفقه؟ في شبابه! وهو الذي يقول عن نفسه: إنه ما كان عبداً لمال، ولا لجاه، ولا يتبع نفسه شيئاً من هذا، يقول:
أَمْطِري لؤلؤاً جِبَالَ "سَرَنْدِيـ *** ـيبَ" وفِيضِي آبارَ "تكرُورَ" تِبْرا
أنا إنْ عِشْتُ لسْتُ أعْدَمُ قُوتَاً *** وإذا مِتُّ لَسْتُ أعْدَمُ قَبْرَا
هِمَّتِي هِمَّةُ الــمُلُوكِ وَنَفْسِي *** نَفْسُ حُرٍّ تَرَى المذَلَّةَ كُفْرا
هذا إمام من أئمة الفقه الإسلامي، هذا شاب من علماء المسلمين، يؤدي رسالة العلم بأمانة وقدرة، هذا النوع من الشباب هو الذي حرس الإسلام بقوته ونوره وضميره، هذا نوع من الشباب نحب أن نقف قيلاً عند مبادئ الإسلام التي كونته، وعند القضايا التي ينبغي أن نتعلمها منه، ونحن الآن نواجه شبابنا والجيل القائم بيننا الآن.
معروف أن فترة الشباب فترة قوة الغريزة الجنسية وعرامها، واشتداد أمرها، ومن قديم قال العلماء: إن هذه الغرائز عموماً تقوى مع كثرة الميراث، وتضعف مع قلة الميراث، ولا أعني بـ"تقوى وتضعف" أنها تصح وتعتل، بل أعني أن هناك ما يخرجها عن حد الاعتدال، وهناك ما يلزمها حد الاعتدال، من البيئة، والسلوك العام حولها.
قال علماء النفس: إن الغريزة يمكن تغيير الاتجاه السلوكي لها بما أسموه "الإعلاء أو التسامي" أو تبديل هدف لها بهدف يغني؛ ولذلك فإن الشباب أحوج أهل الأرض إلى مشرفين أمناء يدركون كيف يستغلون قوته في الخير، وكيف يهذبون غرائزه، ويجعلونها لا تتمرد ولا تنزلق ولا تنحرف؛ الأمر محتاج إلى أولياء أمور في المجتمع كله، وفي الأسرة خاصة، يؤمنون بالله، ويؤمنون بالقيم التي أودعها الله في دينه، وبالقواعد السلوكية والأخلاقية التي لابد أن يسير الشباب عليها حتى تؤمن عقباه، وينتظر الخير له.
معروف أن الغريزة الجنسية تستثار عندما تعرض المفاتن بشكل يهيج الكامن في طباع الناس، ولذلك أمر الإسلام بالاحتشام أمراً مشدداً، وكان في المدينة ناس من المنافقين، وناس من الجبناء، ومروجي الإشاعات، كانوا يمثلون حزب الشيطان في المدينة، ربما تسكعوا في الطرق ليروا امرأة فيقولوا لها كلمة رديئة، أو ينظروا إليها نظرة مريبة، فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن تحتشم المسلمات حتى لا يظن بهن الظنون، وحتى يدرك كل إنسان أن الفتاة التي تسير هي فتاة مؤمنة تعرف ربها، وتلزم حدوده، وتصون عرضها، وتعرف أن ذلك دينها. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً) [الأحزاب:59]،
ثم قال للمتسكعين: (لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً) [الأحزاب:60]. أي: إن لم ينته هؤلاء، فإن الله يكلف نبيه -صلى الله عليه وسلم- بشن حملة على أولئك الرقعاء تنظف أحياء المدينة منهم، وتجعلهم درساً لغيرهم، فلا يكون هناك بعد ذلك إلا من يغض بصره.
وغض البصر دين، وهو حصن يلجأ المرء إليه حتى لا يصاب بما يقول عنه علماء النفس: تداعي المعاني؛ فإن النظرة المجنونة تستتبع تصورات وأفكاراً كثيرة، ولذلك يقول أحد الناصحين:
والمَرْءُ مَادامَ ذَا عَيْنٍ يُقَلِّبُهَا *** فِي أعْيُنِ الغِيدِ مَوقُوفٌ عَلَى الخَطَرِ
يَسُرُّ مُقْلَتَهُ مَا ضَرَّ مُهْجَتَهُ *** لا مَرْحَبَاً بِسُرُورٍ عَادَ بِالضَّرَرِ
إن الإنسان ينبغي أن يلتزم آداب الإسلام، وفي الحقيقة إن المجتمع العربي الآن بالنسبة للشباب يفقد كثيراً من اتزانه، وإيمانه، وأخلاقه، ومثله، وشمائله، وفضائله، والأمر يحتاج إلى شيء من التوضيح.
تبدأ البطالة مع مواسم الإجازة، وانتهاء الامتحانات، والبطالة شيء رهيب، والنفس إذا لم يكن لها حق تكلف به، فإنها تبحث عن باطل تعمل فيه، ومن هنا، فإن عمل المربين دقيق، ينبغي أن يضعوا مشروعات كثيرة، وأن يخططوا لبرامج موصولة، ولو كان الأمر بيدي لصنعت معسكرات لا حصر لها للشباب، تبدأ مع الفجر، لأن اليوم الإسلامي يبدأ مع الفجر.
اليوم الإسلامي يبدأ مع قول المؤذن: الصلاة خير من النوم؛ فإذا كان بعض الناس يضيق بالنداء، ويكسل عن الصلاة، ويرغب في دفء الفراش، فهذا إنسان كما جاء في السنة قد بال الشيطان في أذنه، أي أصبح تافهاً حقيراً لا يرجى منه خير، ولا ينتظر منه أن يؤدي عملاً كبيراً في الدنيا، لكن الوقاحة بلغت في عصرنا أن الكسالى يريدون ألا يسمعوا قول المؤذن: الصلاة خير من النوم! إن الوقاحة بلغت بهم حد ألا يصلوا، ثم أن يقولوا: لا نريد أن يسمعنا المؤذنون هذا، شيء غريب! لكن اليوم الإسلامي يبدأ مع الفجر.
وعندما تقوم معسكرات للشباب فيجب أن تكون هذه المعسكرات مزدانة بالنداء خمس مرات يسمع فيها الأذان، وتقام فيها جماعات المصلين، لا تنتهي جماعة إلا لتبدأ جماعة أخرى، ثم تزود ببرامج الدراسة، وبرامج الإطلاع الواسع، فإني آسف إذ أقول: إن المسلمين في شؤون دينهم جُهَّال، وفي شئون دنياهم جهال، والفراغ العقلي والروحي بين أولادنا وشبابنا فراغ رهيب، وكما تحتاج الصحراء الكبرى إلى أنهار لا حصر لها كي تحول جدبها خصباً، فإن أمتنا بحاجة إلى أنهار من المعرفة بدينها ودنياها ترفع مستواها، وتبدل حالتها، وتجعلها أرقى مما هي الآن، فنحن بديننا جهال، وبتاريخنا جهال، حتى تندَّر قادة اليهود بأن العرب آخر من يقرأ!.
نحن نريد للشباب نهَماً علمياً، وعسكرياً، ورياضياً، واجتماعياً، يملأ حياتهم بالجديد الذي لابد منه؛ كي يؤدوا ما عليهم لأمتهم.
قرأت أن نحو أربعين ألف طالب من شباب الجامعات سوف يذهبون إلى الخارج، قلبي تألم، وأحسست وخزا فيه وأنا أقرأ الخبر، لماذا؟ إن الأربعين ألفاً الخارجين ما يعرفون عن دينهم شيئاً! ربما يوجد أفراد فيهم يصلون، ولكن الألوف منهم لا تصلي، هؤلاء يذهبون والنداء الذي يستمعون إليه في أعماقهم طلب المال، لا طلب العلم، ولا طلب الخبرة، ولا طلب المزيد من التجربة، وربما ذهبوا فيما يعرفون أين ينامون، ولا كيف يأكلون؟ بل ربما اشتغلوا -كما علمت- بغسل الأطباق، وحمل صناديق الزجاج الفارغة!.
وما السبب؟ قبح الله السبب! ومن كان فيه، ومن شارك بقليل أو كثير. لِمَ يذهب أولئك الشباب؟ وأنا أدري أن هناك دوراً تتربص، وأماكن في شتى العالم تنتظر هذا الشباب الفارغ، يريدون أن يملؤوا قلبه بمبادئ أخرى، يريدون أن يعيدوه إلى بلده ببعض المال، وبالكثير مما يفسده على أمته، وعلى تاريخه، وعلى دينه، وعلى يومه ومستقبله. إن الشباب يحتاج إلى رعاية، يحتاج إلى شيء جديد مِن تفكير مَن بيدهم الأمر.
اتصل بي بعض الشباب في الجامعات يريدون أن يقيموا لأنفسهم معسكرات دينية، كانوا في كثير من الحياء يقولون: أيمكن أن نُعان بالخيام؟ ووجدت أن هؤلاء من أصحاب المثُل، ومن أصحاب اليقين، كأنما يراغمون الزمن ويسبحون ضد التيار، ويعملون ما لا يطلب منهم، عندما يقيمون معسكرات مؤمِنة يسمع فيها الأذان خمس مرات كل يوم، ويذهب إليهم بعض الدعاة كي يربيهم وينمي قوى الخير فيهم، ويجعلهم شباباً يحسنون خدمة دينهم ودنياهم.
بينما هناك معسكرات أخرى يقيمها من لا يدين بالإسلام، ومن لا يعرف حق الله عليه، تُزَود بالكثير من أسباب القدرة، ومن أسباب المتعة، ومن أسباب التعاون على الشر لا على الخير.
إن شبابنا بحاجة إلى الرعاية، ولكني لا أقنط الشباب، أريد أن أقول لأي شاب مؤمن: كن رجلاً، اثبت مكانك، كن قوي الشخصية. أعجبني من أبي العلاء قوله:
تَثَاءَبَ عَمْرٌو إِذْ تَثَاءَبَ خَالِدٌ *** بِعَدْوَى، فمَا أعْدَتْنِيَ الثُّؤباء
كسول إلى جانب كسول، لكني حسمت أسباب الكسل من بدني وعقلي وقلبي، ويقول أبو العلاء موضحاً خطته:
خُذِي رَأْيي وحسْبُكِ ذاكَ مَنِّي *** على ما فيَّ مِن عِوَجٍ وأمْتِ
وماذا يبتغي الجُلَسَاءُ عِنْدِي؟ *** أرادوا مَنْطِقِي وَأَرَدْتُ صَمْتِي
ويُوجَدُ بَيْنَنَا أمَــدٌ قَصِــيٌّ *** فأمُّوا سَمْتَهُم وأمَمتُ سَمْتِي
أريد أن أقول لكل شاب مسلم: رسِّخ قدمك في الأرض، وامض في طريقك طالباً وجه ربك، ناشداً ثوابه، منتظراً عونه وتوفيقه، وإذا حاربتك الدنيا كلها فثق أنها لن تنال قلامة ظفر من أظافرك، وستصل إلى غرضك، وليكن ما يكفيك من ثواب الله وتقديره أنك أحد الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، شاب نشأ في طاعة الله، فإذا تعاون هذا الشاب مع غيره فهما أخَوان تعارفا على الله، تحابَّا بروحه، اجتمعا عليه، وتفرقا عليه.
هذا المعنى أرجو أن يكون في نفس كل شاب مؤمن، إن العالم تهب منه تيارات حمراء وصفراء، تريد أن تسرق من الإيمان أفخر ما فيه، تريد أن تسرق من الإسلام أحب ما لديه وأقوى، تريد أن تسرق الشباب! ونريد من الرجال المسؤولين، من أرباب الأسر أن يلتفتوا إلى الشباب، أن يقتربوا منهم، أن يعينوهم على الحق، أن يجتهدوا في أداء واجبهم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) [الشورى:25-26].
وأشهد أن لا إله إلا الله، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد: فإني أحب أن أصارح المسلمين بأمر ينبغي أن يصارحوا به، هذا الأمر أن مستقبلهم يجب أن يصنع في بلادهم وعلى أرضهم، وبأخلاقهم وكدحهم.
إن أخلاق التسول السياسي والاجتماعي التي هيمنت على الأمة العربية من أمد غير بعيد، جعلت أمتنا تنتظر أن يبت في مستقبلها زعماء البلاد الأخرى، وقد رأيت كثيرين ينتظرون اجتماع زعماء الملل الأخرى، ويتصورون أن ذلك قد يتأثر به مستقبلهم هنا، أو يبت في أحوالهم وشؤونهم.
أريد أن أقول: إن الأمم التي تبني مستقبلها على التسول لا تصلح للحياة. مستقبل الأمة الإسلامية لا يصنعه إلا المسلمون في القاهرة ودمشق، في مكة والمدنية، في بغداد، وأم درمان، ومراكش، وكل بلد إسلامي، وكل عاصمة إسلامية، نحن وحدنا الذين نصوغ مستقبلنا، نحن وحدنا.
وما يغيظ في الأمر كله أن أهل الأرض يذهبون حيث يذهبون بما عندهم من عقائد، الرجل الشيوعي ما فكر قط أن يقول: إنني متنازل عن الشيوعية، أو سأكفر بها، أو سأغير تطبيقها في بلدي. عميد الصليبية في العالم ما فكر قط أن يغير من تدينه، ولا من مسلكه ولا من حركته، ولا من وجهته، كل إنسان ينطلق، يتحرك أو يسكن، وهو صورة لدينه، إلا المسلمين! يسلخون دينهم جانباً ويحاولون أن يفكروا، كأنهم جنس آخر بعيد الصلة بالدين.
المعركة تدور على مستقبل الإسلام، على قتله! على اجتثاث جذوره! على قبر أمَّته! المعركة تدور على هذا! الحركة الأولى للنصر أن يعرف المسلمون هذه الحقيقة، وأن يتشبثوا بالإسلام، وأن يقولوا سنبقى بديننا وعليه، ونقاتل دونه حتى نلقى الله، هذه هي الخطوة الأولى في النصر، وهي الخطوة التي نحتاج أن نخطوها الآن.
أم أن كل ذي ملة يعتز بملته، والمسلمون وحدهم هم الذين ينكمشون عن عقائدهم، وعن شرائعهم، وعن مُثلهم العالية؟! فهذا ما لا يطاق، وما لا يمكن أن يُقبل، وما لا يمكن أن يحفظ به مستقبل، مستقبلنا مرتبط لا بلقاء الصغار والكبار هنا وهناك، بل مرتبط باصطلاحنا مع الله، وعودتنا إلى الإسلام، وتطبيقنا لتعاليمه، وكما قلت: إنني متفائل، وإن لتفاؤلي أسباباً حقيقية لا أوهاماً أتخيلها.
إن الشباب المؤمن يلقاني في كل مكان، وهو حريص على مرضاة ربه، يريد أن يؤدي واجبه، إن قوى الإيمان شعرت بخطر داهم يريد الإجهاز عليها، وذلك مما حرك خصائص المقاومة فيها، وجعلها تستيقظ من سباتها، وتستأنف في ثباتٍ أداء واجبها لإرضاء ربها.
أيها المؤمنون: إن الزمن جزء من العلاج، وربما طال الزمن أو قصر، ولكن المهم أن نثبت وأن نؤدي ما علينا، وإنه لمن دواعي السرور أن هذا المسجد الذي انطلقت منه أشعة الإسلام العلمية في العصر الأول، إن هذا المسجد الذي مرت به أيام عجاف، كانت الجمعة لا تقام فيه، إن هذا المسجد كان من توفيق الله له أن قيض الله له رجالاً يعملون لرد الحياة إليه، والانتعاش البنائي فيه، قد تكثر العوائق أو تطول ولكنهم ماضون في طريقهم، وعندما دخلت ووجدت جبل القمامة الذي يواجه الخطيب بدأ ينقص من أطرافه، وبدأ يتلاشى، وعندما شعرت أن إحدى الشركات الهندسية الكبرى قد بدأت العمل اليوم، أحسست بأن بلدنا إلى خير، وأن في رجالنا مَن يُطمأن إلى وفائهم.
"اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والغنيمة من كل بِر، والسلامة من كل إثم. لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرَّجته، ولا حاجة هي لك رضا إلا قضيتها" رواه الترمذي.
عباد الله: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم