عناصر الخطبة
1/فضل السابقين من شباب الصحابة2/تربية النبي صلى الله عليه وسلم لهم على طلب الصدارة 3/مواقف خالدة لعلي وزيد وسعد والزبير4/حث شباب اليوم إلى قراءة سير شباب الصحابة والتأسي بهم.اقتباس
إِنَّ النَّاسَ دَائِمًا مَا يَمْدَحُونَ التَّرَيُّثَ وَالتُّؤَدَةَ وَالتَّأَنِّيَ، وَيَذُمُّونَ الْعَجَلَةَ وَالتَّسَرُّعَ، وَهَذَا فِي أُمُورِ الدُّنْيَا جَمِيلٌ، أَمَّا فِي عَمَلِ الْآخِرَةِ فَهُنَاكَ قَاعِدَةٌ أُخْرَى؛ هِيَ الْمُسَابَقَةُ وَالْمُسَارَعَةُ وَالْمُنَافَسَةُ...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
فَيَا عِبَادَ اللَّهِ: لَمَّا اخْتَارَ اللَّهُ لِرِسَالَتِهِ أَشْرَفَ الْخَلْقِ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، اخْتَارَ لَهُ وُزَرَاءَ صِدْقٍ يُعِينُونَهُ عَلَى أَدَاءِ تِلْكَ الرِّسَالَةِ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "إِنَّ اللَّهَ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَوَجَدَ قَلْبَ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَاصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ، فَابْتَعَثَهُ بِرِسَالَتِهِ، ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ بَعْدَ قَلْبِ مُحَمَّدٍ، فَوَجَدَ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَجَعَلَهُمْ وُزَرَاءَ نَبِيِّهِ، يُقَاتِلُونَ عَلَى دِينِهِ"(رَوَاهُ أَحْمَدُ)، وَإِنَّ مِنْ أَفْضَلِ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةِ: مَنْ حَازُوا قَصَبَ السَّبْقِ، وَسَلَكُوا طَرِيقَ الْحَقِّ، وَسَارَعُوا إِلَى الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ تَرَيُّثٍ، وَحَدِيثُنَا الْيَوْمَ عَنِ السَّابِقِينَ الْأَطْهَارِ مِنْ شَبَابِ الصَّحَابَةِ؛ الَّذِينَ هُمْ خِيَارٌ مِنْ خِيَارٍ مِنْ خِيَارٍ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ النَّاسَ دَائِمًا مَا يَمْدَحُونَ التَّرَيُّثَ وَالتُّؤَدَةَ وَالتَّأَنِّيَ، وَيَذُمُّونَ الْعَجَلَةَ وَالتَّسَرُّعَ، وَهَذَا فِي أُمُورِ الدُّنْيَا جَمِيلٌ، أَمَّا فِي عَمَلِ الْآخِرَةِ فَهُنَاكَ قَاعِدَةٌ أُخْرَى؛ هِيَ الْمُسَابَقَةُ وَالْمُسَارَعَةُ وَالْمُنَافَسَةُ، فَعَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "التُّؤَدَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ خَيْرٌ، إِلَّا فِي عَمَلِ الْآخِرَةِ"(رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ)، فَالْمُسَابَقَةُ إِلَى خَيْرِ الْآخِرَةِ مَمْدُوحَةٌ أَبَدًا.
وَلَقَدْ سَبَقَ شَبَابُ الصَّحَابَةِ إِلَى الْإِيمَانِ بِدَعْوَةِ الْحَقِّ وَالتَّصْدِيقِ بِنَبِيِّ الصِّدْقِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَتَنَزَّلَ مَدْحُهُمْ قُرْآنًا يُتْلَى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[التَّوْبَةِ: 100].
فَهَنِيئًا لَهُمْ مَا نَالُوهُ مِنْ شَرَفِ السَّبْقِ، وَالْمُسَارَعَةِ إِلَى قَبُولِ دَعْوَةِ الْحَقِّ مُنْذُ أَنْ سَمِعُوا قَوْلَ اللَّهِ -تَعَالَى-: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)[الْحَدِيدِ: 21]، فَاسْتَجَابُوا لَهُ؛ فَسَابَقُوا وَسَارَعُوا وَتَنَافَسُوا فِيهِ، وَهُمُ الْأَوْلَى بِقَوْلِ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ:
إِنْ سَابَقُوا النَّاسَ يَوْمًا فَازَ سَبْقُهُمُ *** أَوْ وَازَنُوا أَهْلَ مَجْدٍ بِالذُّرَى مَتَعُوا
إِنْ كَانَ فِي النَّاسِ سَبَّاقُونَ بَعْدَهُمُ *** فَكُلُّ سَبْقٍ لِأَدْنَى سَبْقِهِمْ تَبَعُ
وَفِي مِيزَانِهِمْ أُجُورُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ بَعْدِهِمْ عَلَى أَيْدِيهِمْ مِنْ بَقِيَّةِ الصَّحَابَةِ الْأَخْيَارِ، وَأَهْلِ وَالْأَمْصَارِ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: لَا تَعْجَبُوا مِنْ تِلْكَ الرُّوحِ الْوَثَّابَةِ الطَّمُوحَةِ السَّبَّاقَةِ عِنْدَ شَبَابِ الصَّحَابَةِ؛ فَإِنَّمَا هِيَ نِتَاجُ تَرْبِيَةِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَهُمْ، فَقَدْ رَبَّاهُمْ عَلَى طَلَبِ الصَّدَارَةِ وَالْمَعَالِي فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ، فَهَا هُوَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ يَرْوِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لَهُمْ: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأُمُورِ وَأَشْرَافَهَا، وَيَكْرَهُ سَفَاسِفَهَا"(رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ) فِي الْكَبِيرِ)، فَعَلَى مِثْلِ هَذَا تَرَبَّوْا.
وَيُدَرِّبُهُمْ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى طَلَبِ الصَّدَارَةِ وَالْمَعَالِي حَتَّى يَتَطَلَّعُوا جَمِيعًا إِلَيْهَا؛ فَقَدْ قَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ خَيْبَرَ: "لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يَفْتَحُ عَلَى يَدَيْهِ، يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ"، فَبَاتَ النَّاسُ لَيْلَتَهُمْ أَيُّهُمْ يُعْطَى، فَغَدَوْا كُلُّهُمْ يَرْجُوهُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، فَمَا أَعْطَاهَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَّا لِذَلِكَ الشَّابِّ الْقَوِيِّ الْفَتِيِّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.
وَيُمَجِّدُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كِفَاحَ شَابٍّ آخَرَ خَاضَ رِحْلَةً يَبْحَثُ فِيهَا عَنِ الْيَقِينِ، فَلَمْ يَرْضَ بِالدُّونِ، بَلْ تَطَلَّعَ إِلَى مَعَالِي الْأُمُورِ؛ لِيَقْتَدِيَ بِهِ كُلُّ شَابٍّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ إِنَّهُ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ الَّذِي وَضَعَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدَهُ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: "لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ عِنْدَ الثُّرَيَّا، لَنَالَهُ رِجَالٌ مِنْ هَؤُلَاءِ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
فَلَا عَجَبَ إِذَنْ -مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ- أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الصَّحَابَةِ شَبَابٌ طَمُوحٌ سَبَّاقٌ مُتَنَافِسٌ فِي الْخَيْرَاتِ، فَمِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ خَدِيجَةَ، وَأَوَّلُ مَنْ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (يُنْظَرُ: التِّرْمِذِيُّ وَأَحْمَدُ)، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ ابْنُ تِسْعِ سِنِينَ، وَقِيلَ: ابْنُ عَشْرٍ. (أَعْلَامُ النُّبُوَّةِ لِلْمَاوَرْدِيِّ)، لِذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: "السِّبَاقُ ثَلَاثَةٌ: سَبْقُ يُوشَعَ إِلَى مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَصَاحِبِ يَاسِينَ إِلَى عِيسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَعَلِيٍّ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-".
فَفِي مَعْرَكَةِ الْخَنْدَقِ حِينَ خَرَجَ قَائِدُ الْمُشْرِكِينَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدٍّ مُتَحَدِّيًا وَالَّذِي كَانَتْ تَعُدُّهُ الْعَرَبُ بِأَلْفِ رَجُلٍ؛ فَنَادَى: مَنْ يُبَارِزُ؟ فَقَامَ إِلَيْهِ الشَّابُّ الَّذِي لَمْ يُكْمِلِ الثَّامِنَةَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ عُمْرِهِ؛ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَهُوَ مُقَنَّعٌ فِي الْحَدِيدِ فَقَالَ: أَنَا لَهَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَقَالَ: "إِنَّهُ عَمْرٌو، اجْلِسْ"، يُكَرِّرُ ذَلِكَ ثَلَاثًا حَتَّى أَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَمَشَى إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: إِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُهْرِيقَ دَمَكَ، فَقَالَ عَلِيٌّ: لَكِنِّي -وَاللَّهِ- مَا أَكْرَهُ أَنْ أُهْرِيقَ دَمَكَ، فَغَضِبَ فَنَزَلَ وَسَلَّ سَيْفَهُ كَأَنَّهُ شُعْلَةُ نَارٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ نَحْوَ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مُغْضَبًا، وَاسْتَقْبَلَهُ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بِدَرَقَتِهِ فَضَرَبَهُ عَمْرٌو فِي الدَّرَقَةِ فَقَدَّهَا وَأَثْبَتَ فِيهَا السَّيْفَ وَأَصَابَ رَأْسَهُ فَشَجَّهُ، وَضَرَبَهُ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَلَى حَبْلِ الْعَاتِقِ فَسَقَطَ وَثَارَ الْعَجَاجُ، وَسَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- التَّكْبِيرَ، فَعَرَفَ أَنَّ عَلِيًّا -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَدْ قَتَلَهُ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْكُبْرَى).
يَقُولُ يَحْيَى بْنُ آدَمَ: "مَا شَبَّهْتُ قَتْلَ عَلِيٍّ عَمْرًا إِلَّا بِقَوْلِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ)[الْبَقَرَةِ: 251]"(رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ).
وَمِنَ السَّابِقِينَ مِنَ الشَّبَابِ: سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، "أَسْلَمَ وَهُوَ ابْنُ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً"، وَهُوَ كَمَا قَالَ عَنْ نَفْسِهِ: "إِنِّي لَأَوَّلُ الْعَرَبِ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ)، وَكَانَ ذَلِكَ فِي سَرِيَّةِ عُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ، فِي السَّنَةِ الْأُولَى مِنَ الْهِجْرَةِ، وَسَعْدٌ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- ثَالِثُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الشَّبَابِ الْأَحْرَارِ، وَهَذَا مَا قَرَّرَهُ بِنَفْسِهِ قَائِلًا: "لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَأَنَا ثُلُثُ الْإِسْلَامِ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ)، وَفِي لَفْظٍ لَهُ: "وَلَقَدْ مَكَثْتُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، وَإِنِّي لَثُلُثُ الْإِسْلَامِ".
وَمِنْ تَكْرِيمِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَهُ أَنْ جَمَعَ لَهُ أَبَوَيْهِ يَوْمَ أُحُدٍ، يَقُولُ سَعْدٌ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ أَحْرَقَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ارمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي"، قَالَ: فَنَزَعْتُ لَهُ بِسَهْمٍ لَيْسَ فِيهِ نَصْلٌ، فَأَصَبْتُ جَنْبَهُ فَسَقَطَ، فَانْكَشَفَتْ عَوْرَتُهُ فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى نَوَاجِذِهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
وَمِنْهُمْ: زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-؛ يَقُولُ ابْنُ إِسْحَاقَ: "ثُمَّ أَسْلَمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَكَانَ أَوَّلَ ذَكَرٍ أَسْلَمَ، وَصَلَّى بَعْدَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ"، وَلَقَدْ أَمَّرَهُ النَّبِيُّ الْكَرِيمُ -صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ وَفِي كَثِيرٍ مِنَ السَّرَايَا، تَقُولُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ: "مَا بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ فِي جَيْشٍ قَطُّ إِلَّا أَمَّرَهُ عَلَيْهِمْ، وَلَوْ بَقِيَ بَعْدَهُ لَاسْتَخْلَفَهُ"(رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي الْكُبْرَى).
وَمِنْهُمُ: الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، وَقَدْ أَسْلَمَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِي سِنِينَ، وَقِيلَ: ابْنُ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً، وَهُوَ حَوَارِيُّ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، بِهَذَا سَمَّاهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَنْ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ" يَوْمَ الْأَحْزَابِ؟، قَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا، ثُمَّ قَالَ: "مَنْ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ؟"، قَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حِوَارِيًّا، وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، وَالْحَوَارِيُّ: النَّاصِرُ وَالْخَاصَّةُ.
وَكَانَ الزُّبَيْرُ مِنَ الْأَبْطَالِ الشُّجْعَانِ الّذِينَ لَا يُشَقُّ لَهُمْ غُبَارٌ، فَعَنْ وَلَدِهِ عُرْوَةَ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالُوا لِلزُّبَيْرِ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ: أَلَا تَشُدُّ فَنَشُدُّ مَعَكَ؟ فَقَالَ: "إِنِّي إِنْ شَدَدْتُ كَذَبْتُمْ"، فَقَالُوا: لَا نَفْعَلُ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ حَتَّى شَقَّ صُفُوفَهُمْ، فَجَاوَزَهُمْ وَمَا مَعَهُ أَحَدٌ، ثُمَّ رَجَعَ مُقْبِلًا، فَأَخَذُوا بِلِجَامِهِ، فَضَرَبُوهُ ضَرْبَتَيْنِ عَلَى عَاتِقِهِ، بَيْنَهُمَا ضَرْبَةٌ ضُرِبَهَا يَوْمَ بَدْرٍ، قَالَ عُرْوَةُ: "كُنْتُ أُدْخِلُ أَصَابِعِي فِي تِلْكَ الضَّرَبَاتِ أَلْعَبُ وَأَنَا صَغِيرٌ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).
وَبِهَذَا مَدَحَهُ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ قَائِلًا:
هُوَ الْفَارِسُ الْمَشْهُورُ وَالْبَطَلُ الّذِى *** يَصُولُ إِذَا مَا كَانَ يَوْمٌ مُحَجَّلُ
لَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ قُرْبَى قَرِيبَةٌ *** وَمِنْ نُصْرَةِ الْإِسْلَامِ مَجْدٌ مُؤَثَّلُ
فَكَمْ كَرَّةٍ ذَبَّ الزّبَيْرُ بِسَيْفِهِ *** عَنِ الْمُصْطَفَى وَاللّهُ يُعْطِي وَيُجْزِلُ
إِخْوَانِي: هَؤُلَاءِ شَبَابٌ سَبَقُوا إِلَى الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ فَرَبَّاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى عَيْنَيْهِ، وَصَنَعَهُمْ بِيَدَيْهِ، فَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ:
أُولَئِكَ آبَائِي فَجِئْنِي بِمِثْلِهِمْ *** إِذَا جَمَعْتَنَا يَا جَرِيرُ الْمَجَامِعُ
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، أَمَّا بَعْدُ:
فَيَا أَيُّهَا الشَّبَابُ: أَمَا لَكُمْ فِي شَبَابِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قُدْوَةٌ وَمِثَالٌ يُحْتَذَى؛ فَهُمْ مَشَاعِلُ الْهُدَى، وَمَنَارَاتُ الْحَقِّ، إِنَّكُمْ لَوْ سَلَكْتُمْ سُبُلَ الْأَرْضِ كُلَّهَا مَا وَجَدْتُمْ مَنْ حَازَ عُشْرَ مِعْشَارِ شَرَفِهِمْ...
أَيُّهَا الشَّبَابُ: أَمَا تَرْغَبُونَ أَنْ تَكُونُوا مِنْ سَابِقِي زَمَانِكُمْ هَذَا كَمَا فَعَلُوا هُمْ؟! فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "فِي كُلِّ قَرْنٍ مِنْ أُمَّتِي سَابِقُونَ"(رَوَاهُ الدَّيْلَمِيُّ فِي الْفِرْدَوْسِ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ).
أَيُّهَا الشَّبَابُ: أَقُولُ لَكُمْ كَمَا قَالَ ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ لِشَبَابِ عَصْرِهِ: "لَا تُحَقِّرُوا أَنْفُسَكُمْ لِحَدَاثَةِ أَسْنَانِكُمْ؛ فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ- كَانَ إِذَا نَزَلَ بِهِ الْأَمْرُ الْمُعْضِلُ دَعَا الشُّبَّانَ فَاسْتَشَارَهُمْ؛ يَبْتَغِي حِدَّةَ عُقُولِهِمْ"(حِلْيَةُ الْأَوْلِيَاءِ، لِأَبِي نُعَيْمٍ).
فَاقْرَؤُوا -أَيُّهَا الشَّبَابُ- سِيَرَ شَبَابِ الصَّحَابَةِ، لِتَكُونُوا كَخَالِدٍ وَالزُّبَيْرِ وَأُسَامَةَ وَأَبِي عُبَيْدَةَ... فَإِنِ اقْتَدَيْتُمْ بِهِمْ أَفْلَحْتُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَتَشَبَّهُوا إِنْ لَمْ تَكُونُوا مِثْلَهُمْ *** إِنَّ التَّشَبُّهَ بِالْكِرَامِ فَلَاحُ
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ احْفَظْ شَبَابَ الْمُسْلِمِينَ، وَخُذْ بِأَيْدِيهِمْ إِلَى صَلَاحِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم