عناصر الخطبة
1/ فضائل خُلق الرحمة 2/ أحق الناس بالرحمة 3/ مظاهر وصور الرحمة بالضعفاء 4/ أحوال الضعفاء اليوم في بلاد المسلمين وقلة الرحمة بهم 5/ إنما يرحم الله من عباده الرحماء.اقتباس
عباد الله, ها هم المستضعفون اليوم تُسفك لهم الدماء وتُقطع لهم الأشلاء والأعضاء ولا يعلم بحالهم إلا الله فاطر الأرض والسماء, وقفوا اليوم - عباد الله - ينتظرون منكم العون والمساعدة, ينتظرون منكم أن تغيثوهم بعد الله -جل جلاله-, فأنفقوا ينفق الله عليكم, وما يدريك فلعل هذا القليل من المال تداوي به جرح مسلم أو تفرج به كرب مسلم فيفرج الله عنك كربة من كرب يوم القيامة, وما يدريك فلعل هذا القليل من المال يكفكف الله به دمعة اليتيم ويجبر به الأرملة, فاحتسبوا عباد الله هُبُوا لنجدة إخوانكم ونصرتهم لله وفي الله، وها هي -عباد الله- قد يسرت الأسباب لمعونتهم ومساعدتهم فاحتسبوا البذل لوجه الله...
الخطبة الأولى:
أما بعد: فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-.
هذه قصة من قصص النبي –صلى الله عليه وسلم- حفظها أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر –رضي الله عنه وأرضاه-, وجعل أعالي الفردوس مسكنه ومثواه, حافظ الصحابة, وعالم من علمائهم, حفظ هذه القصة العظيمة التي إذا تأملها المسلم وجد فيها عبرة جليلة كريمة حفظها – رضي الله عنه وأرضاه- من رسول الله –صلى الله عليه وسلم-, أخبر بها صلوات الله وسلامه عليه, والله شهيد مطلع عليها, وكفى بالله شهيدًا, وكفى بالله حسيبًا.
حاصل هذه القصة الصحيحة التي ثبتت بأصح الأسانيد عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أن "امرأة كانت عاصية بعيدة عن الله -سبحانه وتعالى- خرجت ذات يوم فبينما هي تسير في الطريق إذ رأت ذلك الكلب الذي اكتوى بالظمأ والعطش, رأت كلبًا معذبًا قد أنهكه العطش والظمأ وقد وقف على بئر من الماء لا يدري كيف يشرب, يلهث الثرى من شدة الظمأ والعطش, فلما رأته تلك المرأة العاصية أشفقت عليه ورحمته, فنزلت إلى البئر وملأت خفها من الماء ثم سقت ذلك الكلب وأطفأت ظمأه وعطشه، فنظر الله إلى رحمتها بهذا المخلوق فشكر لها معروفها فغفر ذنوبها". (رواه البخاري: 5/50)
بشربة ماء غفرت ذنوبها, وبشربة ماء سترت عيوبها, وبشربة ماء رضي عنها ربها, إنها الرحمة التي أسكنها الله القلوب، فرج بها الغموم والهموم عن كل مهموم ومنكوب، إنها الرحمة التي يرحم الله بها الرحماء, ويفتح بها أبواب البركات والخيرات من السماء, بعث بها سيد الأولين والآخرين كما قال في كتاب المبين (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107].
هي شعار المسلمين ودثار الأخيار والصالحين وشأن الموفقين المسددين، كم فرّج الله بها من هموم!، كم أزال الله بها من غموم!، إنها الرحمة التي إذا أسكنها الله في قلبك فتح بها أبواب الخير في وجهك, وسددك وألهمك وأرشدك وكنت من المحسنين.
الرحمة عباد الله أحوج من يكون إليها أقرب الناس إليك، من هم أحوج الناس إلى رحمتك وشفقتك وإحسانك وبرك؟ أحق الناس برحمتك الوالدان: الأم والأب, ما أحوجهما إلى الرحمة, فارحمهما ولا تعذبهما, وسامحهما ولا تؤاخذهما ولا تُهنهما (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) [الإسراء: 24].
يحتاجان إلى رحمتك خاصة عند المشيب والكبر, إذا خارت قواهما وصار البياض في شعورهما, والتهبت بالأحاسيس مشاعرهما فهما عند ذلك أحوج ما يكونان إلى عطفك ورحمتك وحلمك, يحتاج الوالدان إلى رحمة الأولاد وهم بين القبور, ينتظران البعث بعد النشور, فما أحوجهما اليوم إلى دعوة صالحة منك, ترفعهما إلى الله -جل جلاله- أن يفسح لهما في قبريهما فقد صارا غرباء سفر لا يُنتظرون, ورهناء ذنوب لا يُفكون ولا يطلقون, فارفع الأكف الصادقة إلى الله أن يرحمهما, قال: يا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- هل بقي من بري لوالدي شيء أبرهما بعد موتهما؟ قال: "نعم, الصلاة عليهما والاستغفار لهما, وصلة الأرحام التي لا توصل إلا بهما"(رواه أحمد (3/498), وأبو داود في كتاب الأدب, باب في بر الوالدين عن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي).
أحوج الناس إلى رحمتك أولادك أبناؤك وبناتك, وزوجتك, وإخوانك وأخواتك وسائر الأقربين, أحوج الناس إلى رحمتك الأبناء والبنات, عن أنس -رضي الله عنه وأرضاه- قال: "ما رأيت أحدَا أشد رحمة بالعيال من رسول الله –صلى الله عليه وسلم-" (رواه مسلم في كتاب الفضائل, باب رحمته صلى الله عليه وسلم وتواضعه (15/75) بشرح النووي).
قبَّل رسول الله –صلى الله عليه وسلم- الحسن أو الحسين فقال له رجل: إني لي عشرة من الولد ما قبلت واحدًا منهم, قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-:
"أوَ أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك"(رواه البخاري: 10/440).
ولما دعي -صلوات الله وسلامه عليه- وقد حضر الموت لابنه إبراهيم فاضت عيناه بالدموع, فقيل: ما هذا يا رسول الله –صلى الله عليه وسلم-؟ قال: "هذه رحمة أسكنها الله في قلوب عباده" (رواه البخاري: 3/150).
الأولاد يحتاجون إلى العطف والإحسان, يحتاجون منك إلى البر والحنان, فارحمهم برحمة الله -جلا وعلا-.
أحوج الناس إلى رحمتك من قلدك الله أمره من العمال والمستضعفين والمستخدمين, قال –صلى الله عليه وسلم-: "إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم"( رواه البخاري: 1/106), فأمرنا أن نطعمهم مما نطعم, وأن نكسوهم مما نكتسي, فأحسنوا إليهم, أحسنوا إلى أمثال هؤلاء من المستضعفين, واجبروا خواطرهم طلبًا لرحمة الله رب العالمين, أحوج الناس إلى رحمتك من قلدك الله أمره من الموظفين والمستخدمين, فارحمهم ووسع عليهم, قال -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم من ولي من أمور أمتي شيئًا فرفق بهم فاللهم ارفق به" (رواه مسلم: 12/ 212).
فمن أراد أن تصيبه دعوة النبي –صلى الله عليه وسلم- فيكون مرحومًا من الله جل وعلا فليوسع على من قلده الله أمره فمن رحمة هؤلاء أن يوسع الإنسان صدره لمن يُسيء منهم ولمن يعتدي عليه من هؤلاء, فالعفو والصفح عن الزلات وستر الخطيئات شأن أهل المكرمات والرحمات.
أحوج الناس إلى رحمتك الضعفاء والفقراء, فمن شعائر الإسلام العظيمة إطعام الطعام والإحسان إلى الأرامل والأيتام والتوسيع عليهم طلبًا لرحمة الله الملك العلام قال -صلى الله عليه وسلم-: "الساعي على الأرملة واليتيم كالصائم الذي لا يفطر والقائم الذي لا يَفْتُر"(رواه مسلم: 1828), الذي يطعم الأرملة ويدخل السرور عليها ويرحم بُعد زوجها عنها حين يكون لها كزوجها إحسانًا وحنانًا كالصائم الذي لا يفطر من صيامه, والقائم الذي لا يفتر من قيامه, فهنيئًا ثم هنيئًا لأمثال هؤلاء الرحماء.
أحوج الناس إلى رحمتك الفقراء، فلعل القليل من المال تكفكف به دموعهم وتجبر به كسر قلوبهم, يكفكف الله به نار جنهم عنك يوم القيامة قال -صلى الله عليه وسلم- "فاتقوا الله ولو بشق تمرة" (رواه البخاري: 3/283).
وفي الصحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: إن امرأة دخلت عليها ومعها صبيتان فاستطعمت أم المؤمنين -رضي الله عنها وأرضاها- فأطعمتها ثلاث تمرات, فأعطت كل صبية تمرة, ثم رفعت التمرة الثالثة تريد أكلها فاستطعمتها إحدى البنتين فأطعمتها التمرة فعجبت عائشة رضي الله عنها من صنيعها, فلما دخل رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أخبرته فقال -صلى الله عليه وسلم-: "أتعجبين مما فعلت إن الله حرمها على النار بتمرتها تلك" (رواه مسلم: 16/179).
الصدقات والإحسان إلى المؤمنين والمؤمنات من أعظم الأمور التي تُفرج بها الغموم والكربات والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.
عباد الله: وتعظم حاجة المسلم إذا كان مظلومًا مخذولاً, فعند ذلك يجب عليك نصره, وتجب عليك معونته, ويجب عليك أن تُمدَّ له يد المساعدة لله جل جلاله.
عباد الله: وهؤلاء إخوانكم المسلمين وأخواتكم المسلمات يعانون ظلم الكافرين والكافرات, ها هم عباد الله تحت هدير المدافع والرصاص, لا يعلم كيف تمر عليهم الساعات واللحظات إلا الله جل جلاله وقع عليهم ذلك في ظلم واضطهاد لم يكن له من مثيل على مرأى ومسمع من الجليل والحقير.
عباد الله, ها هم اليوم تسفك لهم الدماء وتقطع لهم الأشلاء والأعضاء ولا يعلم بحالهم إلا الله فاطر الأرض والسماء, وقفوا اليوم - عباد الله - ينتظرون منكم العون والمساعدة, ينتظرون منكم أن تغيثوهم بعد الله -جل جلاله-, فأنفقوا ينفق الله عليكم, وما يدريك فلعل هذا القليل من المال تداوي به جرح مسلم أو تفرج به كرب مسلم فيفرج الله عنك كربة من كرب يوم القيامة, وما يدريك فلعل هذا القليل من المال يكفكف الله به دمعة اليتيم ويجبر به الأرملة, فاحتسبوا عباد الله هُبُوا لنجدة إخوانكم ونصرتهم لله وفي الله، وها هي -عباد الله- قد يسرت الأسباب لمعونتهم ومساعدتهم فاحتسبوا البذل لوجه الله.
اللهم إليك توجهنا، وببابك وقفنا يا منتهى كل شكوى، ويا سامع كل نجوى، ويا كاشف كل ضر وبلوى، أدنى شهيد وأقرب حفيظ يا من يحصى ويبدئ ويعيد, يا من يفعل ما يريد, يا ذا البطش الشديد والأمر الرشيد نسألك بعزتك يا ذا الجلال والكمال أن تدمر أعداء الدين، اللهم دمر أعداء الدين، واجمع قلوب عبادك المسلمين واجعلنا رحمة منك يا أرحم الراحمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الواحد القهار مقلب القلوب والأبصار، وأشهد أن لا إله إلا الله العزيز الغفار، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله المصطفى المختار صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الأطهار وعلى جميع أصحابه البررة الأخيار ومن سار على نهجهم واهتدى بهديهم إلى يوم الحشر والقرار.
أما بعد عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله -جل جلاله-.
عباد الله: ومن صفات الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم أنه أرحم الراحمين يرحم -سبحانه وتعالى- عباده رحمة عامة فيشملهم بها أجمعين، ويرحم رحمة خاصة بعباده المؤمنين, يرحم سبحانه عباده فيرحم المعذبين فيزيل عنهم العذاب, والضالين فيهديهم إلى رشدٍ وصوابٍ، يرحم ربك المذنبين فيغفر ذنوبهم ويستر عيوبهم ويقيل عثرات النادمين ويجود بإحسانه على التائبين.
ما أحوجنا - عباد الله - إلى رحمة الله جل جلاله بنا، فكم لله علينا من نعمة لا تعد ولا تحصى، ومنن لا تكافأ ولا تجزى، ولكننا إذا نظرنا إلى أعمالنا نشكو إلى الله عظيم تقصيرنا، ما أحوجنا إلى رحمة يغفر بها ذنوبنا ويستر بها عيوبنا، ويفرج عنها بها كروبنا.
فأكثروا - عباد الله - من سؤال الرحمة فقد كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يقول: "اللهم اهدني وارحمني وعافني واجبرني" (رواه أبو داود في كتاب الصالحين، باب الدعاء بين السجدتين، والترمذي في كتاب الصلاة، باب ما يقول بين السجدتين، وابن ماجه في كتاب الصلاة، باب ما يقول بين السجدتين).
وكان يسأل الله الرحمة في أكثر من دعاء، وكان يستعيذ برحمة الله من عذابه، نسأل الله -عز وجل- من واسع رحمته وأن يشملكم بعظيم حلمه وعفوه.
ألا وصلوا وسلموا على خير خلق الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة فقد أمركم الله بذلك....
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم