الراحة في ثلاث

محمد بن سليمان المهوس

2024-07-05 - 1445/12/29 2024-07-07 - 1446/01/01
عناصر الخطبة
1/بحث الناس عن الراحة والسعادة 2/أبرز أسباب الراحة في الحياة 3/أهمية التسامح في جلب الراحة 4/دور التفاؤل في الإحساس بالسعادة 5/أهمية التغافل في الإحساس بالراحة والطمأنينة

اقتباس

وَالنَّفْسُ الْمُتَسَامِحَةُ مِنْ أَصْفَى النُّفُوسِ وَأَسْعَدِهَا، فَهِيَ تَحْمِلُ رُوحًا مُحِبَّة لِلْخَيْرِ، تَبْذُلُ الْإِحْسَانَ لِلنَّاسِ، وَتَحْمِلُ قَلْبًا رَحِيمًا يُحِبُّ السَّعَادَةَ لِلْآخَرِينَ، وَيَرْجُو اَلْخَيْرَ لِكُلِّ الْمُسْلِمِينَ؛ يَتَأَلِّمُ لِآلَامِهِمْ، وَيَفْرَحُ لِفَرَحِهِمْ...

الخطبة الأولى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ؛ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71].

 

أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ، وَكُلَّ ضَلاَلَةٍ فِي النَّارِ.

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: كُلٌّ يَنْشُدُ السَّكِينَةَ وَالارْتِيَاحَ، وَرَاحَةَ الْبَالِ وَالِانْشِرَاحَ، بَلْ رُبَّمَا دَفَعَ الْإِنْسَانُ أَغْلَى مَا يَمْلِكُ لِتَحْصِيلِهَا وَتَكْمِيلِهَا؛ وَقَدْ يَجِدُهَا أَوْ لَا يَجِدُهَا؛ وَقَدْ قِيلَ: الرَّاحَةُ كُلُّ الرَّاحَةِ فِي ثَلَاثٍ: فِي التَّسَامُحِ وَالتَّفَاؤُلِ وَالتَّغَافُلِ.

 

فَالتَّسَامُحُ عِبَادَةٌ عَظِيمَةٌ، وَقُرْبَةٌ مِنْ الْقُرَبِ كَرِيمَةٌ؛ مَنْ وُفِّقَ لَهَا وُفِّقَ لِلْخَيْرِ؛ قَالَ -تَعَالَى-: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ)[الشورى: 40]، وَقَالَ -تَعَالَى-: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[ آل عمران: 133- 134].

 

فَالتَّسَامُحُ خُلُقٌ يَدُلُّ عَلَى رُوحِ الْحَيَاةِ فِي نَفْس صَاحِبِهَا، بَلْ هُوَ عُنْوَانُ صَفَائِهَا، وَبُرْهَانُ نَقَائِهَا.

 

وَالنَّفْسُ الْمُتَسَامِحَةُ مِنْ أَصْفَى النُّفُوسِ وَأَسْعَدِهَا، فَهِيَ تَحْمِلُ رُوحًا مُحِبَّة لِلْخَيْرِ، تَبْذُلُ الْإِحْسَانَ لِلنَّاسِ، وَتَحْمِلُ قَلْبًا رَحِيمًا يُحِبُّ السَّعَادَةَ لِلْآخَرِينَ، وَيَرْجُو اَلْخَيْرَ لِكُلِّ الْمُسْلِمِينَ؛ يَتَأَلِّمُ لِآلَامِهِمْ، وَيَفْرَحُ لِفَرَحِهِمْ.

 

وَقَدْ قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ"، قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ، فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟ قَالَ: "هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ لَا إِثـْمَ فِيهِ وَلَا بَغْيَ وَلَا غِلَّ وَلَا حَسَدَ"(والحديث صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِي).

 

وَأَمَّا التَّفَاؤُلُ فَهُوَ خَصْلَةٌ حَمِيدَةُ، وَخُلُق نَبِيلٌ يُعَبِّرُ عَنْ حُسْنِ الظَّنِّ بِاللَّهِ -تَعَالَى-، وَالثَّقَةِ بِهِ، وَيَجْلُبُ السَّعَادَةَ إِلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ؛ وَكَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يُعْجِبُهُ الْفَأْلُ الْحَسَنُ، وَيَكْرَهُ الطِّيَرَةَ؛ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ.

 

وَقَدْ غَمَرَ التَّفَاؤُلُ حَيَاةَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وَرَبَّى عَلَيْهِ صَحَابَتَهُ الْكِرَامَ، وَرَسَّخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، فَكَانَ إِذَا سَمِعَ اسْمًا حَسَنًا أَوْ كَلِمَةً طَيِّبَةً، أَوْ مَرَّ بِمَكَانِ طَيِّبٍ انْشَرَحَ صَدْرُهُ، وَاسْتَبْشَرَ بِمَا هُوَ عَازِمٌ عَلَيْهِ تَفَاؤُلاً وَأَمَلاً؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ حُسْنَ الظَّنِّ بِاللَّهِ -تَعَالَى-، وَالثَّقَةَ بِهِ -سُبْحَانَهُ-، وَهُوَ دَافِعٌ لِلْعَمَلِ، بَلْ وَلِإِحْسَانِهِ وَإِتْقَانِهِ.

 

فَالْمُتَفَائِلُ ذَكِيُّ الْعَقْلِ، وَافِرُ الْحَظِّ، عَظِيمُ الرِّبْحِ، وَاسِعُ الْفَرَحِ؛ يُحْسِنُ الظَّنَّ وَلَا يَتَشَاءَمُ، يَتَمَتَّعُ بِطَاعَةِ رَبِّهِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ مِنْ لَحَظَاتِ حَيَاتِهِ، وَيَتَقَلِّبُ بَيْنَ شُكْرٍ وَصَبْرٍ فِي أَقْدَارِ اللَّهِ عَلَيْهِ.

 

وَقَدْ قِيِلَ:

الْفَأْلُ نُورٌ لِلْفَتَى وَسَعَادَةٌ *** فَاهْنَأْ بِدَرْبٍ يَسْتَضِيءُ بِفَالِكَا

مَا الشَّوْمُ إِلَّا ظُلْمَةٌ وَشَقَاوَةٌ *** مَنْ نَالَ مِنْهُ الشَّوْمُ أَصْبَحَ هَالِكَا

 

اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا مِنْ الْعَافِيَةِ أَكْمَلَهَا، وَمِن الدُّنْيَا خَيْرَهَا، وَمِن الْآخِرَةِ نَعِيمَهَا، يَا رَبَّ الْعَالَمِين؛ أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشَّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَأنِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيِّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

 

أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى-، وَاعْلَمُوا أَنَّ مِنْ رَاحَةِ النَّفْسِ وَانْشِرَاحِهَا: خُلُقَ التَّغَافُلِ، وَهُوَ مِنْ الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ، وَزَخَرَتْ بهَا السُّنَّةُ النَّبَوِيَّة تَطبيقًا وَعَمَلاً؛ قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)[الأعراف: ۱۹۹].

 

وَالتَّغَافُلُ خُلُقُ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ؛ قَالَ -تَعَالَى-: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا)[الفرقان: 63].

 

وَالتَّغَافُلُ دَلِيلٌ قَوِيٌّ عَلَى حُسْنِ خُلُقٍ صَاحِبِهِ، كَمَا قَالَ مُعَاوِيَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "الْعَقْلُ مِكْيَالٌ، ثُلُتُهُ الْفِطْنَةُ، وَثُلُثَاهُ التَّغَافُلُ".

 

وقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ -رَحِمَهُ اللهُ-: "تِسْعَةُ أَعْشَارِ حُسْنِ الْخُلُقِ فِي التَّغَافُلِ".

وَقَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: "الْكَيِّسُ الْعَاقِلُ هُوَ الْفَطِنُ الْمُتَغَافِلُ".

 

وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ-: "مَا يَزَالُ التَّغَافُلُ عَنِ الزَّلْاتِ مِنْ أَرْقَى شِيَمِ الْكِرَامِ، فَإِنَّ النَّاسَ مَجْبُولُونَ عَلَى الزَّلْاتِ وَالْأَخْطَاءِ، فَإِنِ اهْتِمَّ الْمَرْءُ بِكُلِّ زَلَّةٍ وَخَطِيئَةٍ تَعِبَ وَأَتْعَبَ، وَالْعَاقِلُ الذَّكِيُّ مَنْ لا يُدَقِّقُ فِي كُلِّ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ، مَعَ أَهْلِهِ، وَأَحْبَابِهِ، وَأَصْحَابِهِ، وَجِيرَانِهِ، وَزُمَلائِهِ، كَيْ تَحْلُو مُجَالَسَتُهُ، وَتَصْفُو عِشْرَتُهُ".

 

وَاعْلَمُوا -يَا عِبَادَ اللَّهِ- أَنَّ التَّغَافُلَ وَالْحَثَّ عَلَيْهِ لا يَعْنِي تَرْكَ النَّصِيحَةِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى الْمُخَالَفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، وَإِنْكَارهَا؛ لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ وَاجِبٌ لِمَنْ يَسْتَطِيعُهُ؛ فَعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "الدِّينُ النَّصِيحَةُ"، قُلْنَا لِمَنْ؟ قَالَ: "لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

 

هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ؛ فَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: ٥٦]، وَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاَةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

 

اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَأَهْلِ بَيْتِهِ الطَّاهِرِينَ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَعَنِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، وَعَنِ التَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنَّا مَعَهُمْ بِمَنِّكَ وَإِحْسَانِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.

 

 

المرفقات

الراحة في ثلاث.pdf

الراحة في ثلاث.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات