الدَّين

ناصر بن محمد الأحمد

2013-08-24 - 1434/10/17
التصنيفات: أخلاق وحقوق
عناصر الخطبة
1/حكم الدين 2/خطر الدين لغير حاجة 3/خطر المماطلة في قضاء الدين 4/الدين بقصد القضاء 5/الدَّين مهانة ومذلة 6/فضل المدين وفضل إنظار المعسر 7/حكم قضاء الدين بأكثر منه

اقتباس

عباد الله: ليس كل الدَّين مفسدة، فكم في الدَّين من تفريج للكربات، وكم في الدَّين من قضاء للحاجات، وكم للرجل الذي يُديّن الناس والمحتاجين، ويحتسب ذلك عند الله -عز وجل-، كم له من أجر، وكم ينال من دعاء في ظهر الغيب، فهناك من هو محتاج إلى زواج، وهو غير قادر عليه، فيأتي من يعينه على ذلك بالدَّين، ويصبر عليه حتى السداد، فكم لمثل هذا العمل من ...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله...

 

أما بعد:

 

عباد الله: يقول الله -عز وجل- في محكم كتابه العزيز: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ)[البقرة: 282].

 

وقال عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: "من مات وعليه دينار أو درهم، قُضي من حسناته ليس ثم دينار ولا درهم".

 

أيها المسلمون: إن هذا الدِّين الذي ندين الله -عز وجل- به، دين شامل كله رحمة، وكله خير لنا في دنيانا وفي أخرانا.

 

ومن الأمور التي سهلها الله -عز وجل- لنا أمور المعاملات، ولكن هناك كثير من الناس -عافانا الله وإياهم- استغلوا هذا الجانب، فظلموا أنفسهم وظلموا غيرهم.

 

ومن بين هذه المعاملات التي أجازها الشرع الحنيف: الدَّين، ولكن أين الذي يأخذ خذا الدَّين بحقه، ويعرف في ذلك حق الله، وحق عباد الله؟.

 

أيها المسلمون: إن هذا التساهل الذي نشاهده ونسمع به في شأن الدَّين، جعلنا نتكلم في هذا الموضوع، لأهميته وخطورته في نفس الوقت.

 

عباد الله: الذي يتديَّن من الناس وهو لا ينوي ردها، أو الذي يتديَّن لحاجة ثم يرزقه الله مالاً بعد ذلك ولكنه يماطل في حقوق الناس ويؤخرها لغير ضرورة، هذا الرجل على خطر عظيم.

 

اسمعوا -يا عباد الله- لهذا الحديث العظيم في هذا الشأن؛ عن جابر بن عبدالله -رضي الله عنه- قال: "مات رجل فغسلناه وكفناه وحنطناه، ووضعناه لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث توضع الجنائز عند مقام جبريل، ثم آذنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالصلاة عليه، فجاء معنا فتخطى، ثم قال: لعل على صاحبكم ديناً، قالوا: نعم ديناران، فتخلف، قال: صلوا على صاحبكم، فقال له رجل منا، يقال له أبو قتادة: يا رسول الله هما عليّ، فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: هما عليك، وفي مالك، والميت منهما بريء، فقال: نعم، فصلى عليه، فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا لقى أبا قتادة، يقول: "ما صَنَعَت الديناران؟"، قال: يا رسول الله إنما مات أمس، حتى كان آخر ذلك، ثم لقيه من الغد، فقال: "ما فعل الديناران؟ " قال: قد قضيتهما يا رسول الله، قال: "الآن حين برد عليه جلده"[أخرجه الحاكم وقال: صحيح الإسناد ووافقه عليه الذهبي].

 

فاتقوا الله -عباد الله-: يامن في ذممكم ديوناً لعباد الله، وأنتم ميسوري الحال، وتماطلون بها، أين أنتم من هذا الحديث؟ أين أنتم من قوله عليه الصلاة والسلام: "الآن حين برد عليه جلده"؟ أين أنتم من تأخره صلى الله عليه وسلم وقوله: "صلوا على صاحبكم"؟.

 

كل هذا لعظم هذا الأمر وخطورته، فلنتق الله -أيها المسلمون-، وأن نحاول أن نوفّي ما علينا من ديون لعباد الله قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، ولكن حسنات وسيئات، فيؤخذ من حسناتك إن كان لك حسنات ويعطى غيرك الذي أخذت حقه في الدنيا.

 

عباد الله: وهناك أناساً يفعلون أشد من هذا، وهو أنه يذهب الى المحكمة ويكون معه شاهدان زور -والعياذ بالله-، ويشهدان أمام القاضي بأنه معسر، ويحصل على صك إعسار، كل هذا لكي لا يؤدي ما عليه من حقوق للمسلمين.

 

فلا أدري ماذا نقول لمثل هؤلاء؟

 

إنهم جنوا على أنفسهم جناية مركبة، فهم ظلموا الناس بأخذ أموالهم، وظلموا أنفسهم بالكذب وبشهادة شاهدين زور.

 

نذكّر هؤلاء بعظم الموقف الذي هم فيه، وسوف يكون وراءهم قبر لا يُدرى ماذا يفعل بهم، ثم الوقوف أمام رب السموات والأرض في يوم كان مقداره خمسون ألف سنة، والفضيحة أمام الخلائق، فلينقذوا أنفسهم مادام في الأمر متسع قبل أن يضيق بهم المقام، ويندمون ولكن حين لا ينفع الندم.

 

أيها المسلمون: ومن كان عليه دين لكنه لم يماطل وهو يريد أن يقضي هذا الدَّين، ولكن حالته لا تسمح، وهو لا ينوي أن يأكل حقوق الناس بغير وجه حق، وكان في نيته إذا ما سهّل الله عليه أن يبادر في أداء حقوق الناس، فإن مثل هذا الرجل قد تكلف الله ورسوله بأداء ما عليه من الديون ولا يحاسب؛ روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله".

 

وروى مسلم في صحيحه: أنه كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقوم فيخطب، فيحمد الله ويثني عليه بما هو أهل له، ويقول: من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، إن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وكان إذا ذكر الساعة احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه كأن منذر جيش، يقول: "صحبكم ومساكم، من ترك مالاً فلورثته، ومن ترك ضياعاً أو ويناً فعلي وإلي، وأنا ولي بالمؤمنين".

 

وفي رواية: "بكل مؤمن من نفسه".

 

وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها وعن أبيها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من حمل من أمتي ديناً ثم جهد في قضائه فمات ولم يقضيه فأنا وليه".

 

فما أرحم هذا النبي –صلى الله عليه وسلم- بأمته من أنفسهم.

 

الدَّين مهانة ومذلة للرجال، فكم ترون من أناس عظيمي القدر في مجتمعاتهم، ولهم مكانة مرموقة، ولكن ما أن تحيط به الديون لسبب من الأسباب حتى يُقهر، كان لا يُغلب أمام الرجال، لكن الدَّين يقهره ويغلبه.

 

عباد الله: ومن الأدعية الواردة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في شأن الدَّين؛ ما رواه الترمذي في جامعه من حديث أبي هريره -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمرنا إذا أخذ أحدنا مضجعه، أن يقول: "اللهم رب السماوات ورب الأرضين ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، ومنزل التوراة والإنجيل والقرآن، أعوذ بك من شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عني الدَّين وأغنني من الفقر".

 

وكان من دعائه عليه الصلاة والسلام ما جاء في صحيح البخاري: "اللهم إني أعوذ بك من الهمّ والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجبن، وضِلَعِ الدَّين وغلبة الرجال".

 

وضِلَعِ الدَّين هو: ثُقل الدين وشدته.

 

وقال بعض السلف: "ما دخل همّ الدَّين قلباً إلا أذهب من العقل مالا يعود إليه".

 

فنسأل الله -عز وجل- أن ييسر حالنا، ولا يحوجنا لأحد من خلقه، وأن يغنينا بحلاله عن حرامه.

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله...

 

أما بعد:

 

عباد الله: ليس كل الدَّين مفسدة، فكم في الدَّين من تفريج للكربات، وكم في الدَّين من قضاء للحاجات، وكم للرجل الذي يُديّن الناس والمحتاجين، ويحتسب ذلك عند الله -عز وجل-، كم له من أجر، وكم ينال من دعاء في ظهر الغيب، فهناك من هو محتاج إلى زواج، وهو غير قادر عليه، فيأتي من يعينه على ذلك بالدَّين، ويصبر عليه حتى السداد، فكم لمثل هذا العمل من أجر عند الله -عز وجل-، وأمثاله كثير، قال الله -تعالى-: (وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة: 280].

 

وهناك -يا عباد الله- الكثير من الآثار الواردة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيان شرعية الدَّين، وأن الذي يُديّن الناس ثم يصبر عليهم، له عظيم الأجر عند الله يوم القيامة؛ فمن ذلك ما رواه الطبراني عن أبي أمامة أسعد بن زرارة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من سرّه أن يظله الله يوم لا ظل إلا ظله فلييسر على معسر أو ليضع عنه".

 

وعن محمد بن كعب القرظي: أن أبا قتادة كان له دين على رجل، وكان يأتيه يتقاضاه فيختبئ منه، فجاء ذات يوم فخرج صبي فسأله عنه، فقال: نعم هو في البيت يأكل خُزيره، فناداه، فقال: يا فلان أخرج فقد أُخبرت أنك هاهنا فخرج إليه، فقال: ما يغيبك عني؟ فقال: إني معسر وليس عندي شيء، قال: آالله إنك معسر؟! قال: نعم: فبكى أبو قتادة، ثم قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من نفس عن غريمه أو محى عنه كان في ظل العرش يوم القيامة"[رواه مسلم في صحيحه].

 

وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من أراد أن تستجاب دعوته، وأن تكشف كربته فليفرج عن معسر".

 

وروى الإمام أحمد أيضاً في مسنده من حديث عمران بن حصين قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من كان له على رجل حق فأخّره، كان له بكل يوم صدقة".

 

وقد عدّ بعض العلماء ثلاث مندوبات أفضل من الواجبات: التطهر قبل الوقت، وابتداء السلام، وإنظار المعسر، ونظمها بقوله:

 

الفرض أفضل من تطوع عابد *** حتى ولو قد جاء منه بأكثر

إلا التطهر قبل وقت وابتداء *** للسلام كذلك إبراء المعسر

 

أيها المسلمون: يامن تديّنون الناس، إياكم وإياكم من اشتراط زيادة على الدَّين، بأن هذا هو عين الربا، وكل دين جر نفعاً فهو رباً.

 

إن عقد الدين -يا عباد الله- يقصد به الرفق بالناس، ومعاونتهم على شئون العيش، وتيسير وسائل الحياة، وليس هو وسيلة من وسائل الكبس، ولا أسلوباً من أساليب الاستغلال.

 

ولكن إن لم يشترط الدائن زيادة على دينه وأعطاه المدين من عند نفسه، وعن طيب نفس منه، فإن هذا لا بأس به؛ فعن أبي رافع قال: استلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من رجل بكراً، فجاءته إبل الصدقة، فأمرني أن أقضي الرجل بكراً، فقلت: لم أجد في الإبل إلا جملاً خياراً رباعياً، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أعطه إياه، فإن خيركم أحسنكم قضاءً".

 

وقال جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-: "كان لي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حق، فقضاني وزادني"[متفق عليه].

 

اللهم...

 

 

 

 

المرفقات
إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات