اقتباس
والخلاصة: أنه لا بد لنا أن نسعى في الدنيا؛ لكن طلبًا للآخرة.. نسعى في الدنيا نتزود منها الحسنات ونحصِّل منها مهر الجنة، لكن وكلنا حذر من أن تسحرنا الدنيا بسحرها أو تأسرنا بفتنتها فنغفل عما نجمع من زاد الآخرة، ونخلد إليها ونركن لها! فنندم حين لا ينفع الندم...
عندما ننطق بكلمة: "الدنيا" تتداعى علينا معان كثيرة جدًا؛ فالدنيا هي الخداع والغفلة والغرور، والدليل هو قول الله -عز وجل-: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)[آل عمران: 185]، وهي دار التزيين والتزييف والتمتع بما يفني: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ...)[التوبة: 14]، وهي دار اللعب واللهو والتكاثر: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ)[الحديد: 20].
ثم بعد ذلك كله فإن الدنيا هي الانقطاع والدمار والفناء، فكم صوَّر لنا القرآن الكريم مشاهد من نهايتها، يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين فليقرأ: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ)[التكوير: 1]، و(إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ)[الانفطار: 1]، و(إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ)[الانشقاق: 1]"(رواه الترمذي، وصححه الألباني).
ومن آيات عديدة ربما نفهم أن الدنيا هي نقيض الآخرة، وذلك كقوله -تعالى-: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)[الأنعام: 32]، وكقوله -عز وجل-: (وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ)[الرعد: 26]، وكقوله -عز من قائل-: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)[الأعلى: 16-17]... وكقول علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "ارتحلت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا.."(ذكره البخاري).
ولو استطلعنا رأي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الدنيا لوجدناه شبهها عدة تشبيهات؛ فمرة بأنها أحقر من جناح بعوضة: "لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء"(رواه الترمذي، وصححه الألباني)، ومرة شبهها بشاة صغيرة ميتة وملقاة على قارعة الطريق، فقد أتى -صلى الله عليه وسلم- على سخلة منبوذة فقال: "أترون هذه هانت على أهلها" قيل: يا رسول الله من هوانها ألقوها، قال: "فوالذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله من هذه على أهلها"(رواه الترمذي، وصححه الألباني).
ومر -صلى الله عليه وسلم- بجدي أسك (قصير الأذنين) ميت، فتناوله فأخذ بأذنه، ثم قال: "أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟" فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟ قال: "أتحبون أنه لكم؟" قالوا: والله لو كان حيًا، كان عيبًا فيه، لأنه أسك، فكيف وهو ميت؟ فقال: "فوالله للدنيا أهون على الله، من هذا عليكم"(رواه مسلم)... وفي هذا المعنى يقوا ابن القيم:
لو ساوت الدنيا جناح بعوضة *** لم يسق منها الرب ذا الكفران
لكنها والله أحقر عنده *** (من) ذا الجناح القاصر الطيران
***
لكن هل معنى هذا كله أن الدنيا -حقًا- نقيض الآخرة؟
أجيب بملء الفم: لا، أبدًا... أجيب بلا شك ولا تردد: كلا، بل الدنيا هي الطريق الموصل إلى الجنة؛ فالدنيا هي مكان جمع الزاد والحسنات الموصلة إلى الجنة، وإنني لا أعلم بشرًا سيدخل الجنة إلا وقد مر قبلًا على الدنيا، ولهذا يقولون: "الدنيا مزرعة الآخرة".
يروى عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنه قال: "الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار نجاة لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزود منها، مهبط وحي الله، ومصلى ملائكته، ومسجد أنبيائه، ومتجر أوليائه، ربحوا فيها الرحمة، واكتسبوا فيها الجنة..."(المجالسة، للدينوري).
وحين أمرنا القرآن الكريم بالتزود للآخرة قائلًا: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)[البقرة: 197]، فأين يكون الزاد الأخروي؟ أليس من الدنيا؟!... ولقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعمرو بن العاص: "يا عمرو، نعم المال الصالح مع الرجل الصالح"(رواه ابن حبان، وصححه الألباني).
وهؤلاء الذين مدحهم القرآن الكريم قائلًا: (كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)[الذاريات: 17-18]، أين هذا السَحَر الذي فيه يستغفرون، أليس جزء من ليل الدنيا؟!
وكذلك عندما "قال الله -تعالى- لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ)[الشرح: 7-8]، قال أهل التأويل: فإذا فرغت من أمور دنياك، فانصب في عبادة ربك"(أدب الدنيا والدين، للماوردي)، ولا يخفى أن موطن ومحل هذه العبادة هو الدنيا.
ولقد قيل: "ليس خيركم من ترك الدنيا للآخرة، ولا الآخرة للدنيا، ولكن خيركم: من أخذ من هذه وهذه"، وقيل أيضًا: "نعم المطية الدنيا؛ فارتحلوها تبلغكم الآخرة"، بل هذا الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول: "يا معشر القراء! لا تلقوا كَلَكم على إخوانكم، ولا تدعوا دنياكم لآخرتكم، ولا آخرتكم لدنياكم، واستعينوا بهذه على هذه"(بهجة المجالس، لابن عبد البر)... وما أصدق ما قال محمود الوراق:
لا تتبع الدنيا وأيامها *** ذمًا وإن دارت بك الدائرة
من شرف الدنيا ومن فضلها *** أن بها تستدرك الآخرة
(أدب الدنيا والدين، للماوردي)
***
لكن -إذا كان الأمر كذلك- فما معنى النصوص التي تذم الدنيا وتحذر منها وتعدها عائقًا في سبيل الآخرة؟!
المعنى -والله العليم-: أن الذم ليس على الإطلاق؛ وإنما يُذم من الدنيا خداعها للعباد وإلهاؤها لهم بزخارفها وتزينها، ويُمدح منها كل ما يوصل إلى الآخرة، وعلى هذا المعنى يُفهم قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ألا إن الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه وعالم أو متعلم"(رواه الترمذي، وحسنه الألباني)؛ فبعد أن لعن الدنيا؛ أي فتنتها وغفلاتها، استثنى منها ما يقرب من الله -عز وجل-.
والخلاصة: أنه لا بد لنا أن نسعى في الدنيا؛ لكن طلبًا للآخرة.. نسعى في الدنيا نتزود منها الحسنات ونحصِّل منها مهر الجنة، لكن وكلنا حذر من أن تسحرنا الدنيا بسحرها أو تأسرنا بفتنتها فنغفل عما نجمع من زاد الآخرة، ونخلد إليها ونركن لها! فنندم حين لا ينفع الندم.
والحذر الحذر أن نكون كذلك الرجل الذي أدخلوه قصرًا مليئًا بالذهب والجواهر، وقالوا له: أمامك مهلة ست ساعات تتزود فيها من الذهب والجواهر قدر استطاعتك فإياك أن تغفل، فلما دخل القصر انبهر ببسطه ومصابيحه وفرشه، ووجد الذهب والجواهر أمامه فبدلًا من أن يتزود منها قال لنفسه: "ما زالت المهلة طويلة، أتمتع حينًا بهذه المتع ثم أجمع الزاد"، ففتح باب غرفة من غرف القصر فوجد مائدة عامرة بأصناف الطعام والشراب، فأكل حتى أتخم، ثم خرج ففتح غرفة أخرى فإذا بفراش ناعم وثير فقال: أنام ساعة واحدة ثم أقوم فأجمع الزاد، فنام واستغرق في النوم، وما راعه إلا جنود القصر ينتزعونه من الفراش ليلقوه خارج القصر قائلين: "لقد انتهت ساعاتك"، وهو يصرخ مستجديًا: أمهلوني دقائق أجمع فيها زادي، وهم يقولون: "لقد انقضت مهلتك"! فألقوه خارج القصر نادمًا متحسرًا أنْ خرج بغير زاد!
فالقصر هو الدنيا، والساعات الست هي العمر، والذهب والجواهر هي الأعمال الصالحة، والزخارف والفرش والطعام هي فتن الدنيا وشهواتها..
إنما الدنيا شتات *** فتأهب لشتاتك
واجعل الدنيا كيوم *** صمته عن شهواتك
واجعل الفطر إذا ما *** صمته يوم وفاتك..
إنما الدنيا كحلم *** فانتبه من غفلاتك
(بهجة المجالس، لابن عبد البر).
ولتجلية كل هذه المعاني وغيرها عقدنا هذا الملف العلمي بغرض إزالة اللبس وتجلية الغموض، وإعانة السالكين على الموازنة بين الدنيا والآخرة... والله نسأل أن ينفع به من يطالعه، وأن يجعله في ميزان حسنات من تعاونوا سويًا على إخراجه.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم