الدلال المفرط

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: التربية
عناصر الخطبة
1/ مظاهر الدلال للأبناء 2/ ضرورة الاعتدال في التربية 3/ عواقب الدلال الزائد على الابن 4/ معالجات وحلول

اقتباس

التدليل الزائد يفسد مستقبل الطفل، ويقضي على مستقبله، لذا يحذّر رجال التربية الآباء والأمهات من العواطف الجياشة، والدلع الزائد الذي يجعل الطفل عاجزاً عن الارتباط بأقرانه؛ لأنه يشعر بتشبع شديد من عاطفة الأسرة، فلا يميل إلى الآخرين، ويتربى في ..

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الذي من علينا بنعمة الأولاد، وفتح لنا من أسباب الهداية كل باب، ورغب في طرق الصلاح وحذر من طرق الفساد، أحمده -سبحانه- وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو الكريم الوهاب، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفضل الخلق بلا ارتياب.

 

أما بعد:

 

عباد الله: حديثنا اليوم عن ظاهرة مرضية خطيرة، منتشرة في كثير من بيوتنا، وموجودة بقوة في مجتمعنا، ويتربى عليها بعض أبنائنا، إنها ظاهرة الدلال الزائد المتجاوز عن حده والمبالغ فيه.

 

إن بعض الآباء -أصلحنا الله وإياهم- يدللون أبناءهم بشكل مفرط، ويدلعونهم أكثر من اللازم، ويعطونهم أكثر مما ينبغي، فلا يردون لهم طلباً، ولا ينكرون عليهم في شيء، ولا يقبلون من أحد كائناً من كان أن ينكر عليهم أو ينصحهم، مهما كان الجرم الذي عملوه، ومهما كان الخطأ الذي ارتكبوه، وكأن أولادهم فوق النقد، والسبب هو الدلال المفرط.

 

نحن لا ننكر التدلل للأبناء، ولا ننهى الآباء عن ذلك بشكل مطلق؛ فالطفل بحاجة إلى مشاعر حانية ودلال معتدل، ولكن كل شيء له حده ومقداره، فإذا زاد الشيء عن حده انقلب إلى ضده.

 

والمصيبة أن بعض الأسر -أصلحها الله- يستمرون في التدلل لأطفالهم، ويستمر هذا الدلع معهم حتى وهم كبار، ويشتهر ذلك عنهم، حتى يقال أن آل فلان مدلعين أبناءهم، أو أبناء فلان مدللون، وترى آثار التدلل ظاهرة عليهم بشكل واضح وملفت.

 

تجدهم لا يردون لأبنائهم طلباً، فإذا طلب الابن شيئاً وربما قبل أن يطلب قاموا بتوفيره له، وشراء الحاجة التي يريدها مهما كان ثمنها، بل وربما مهما كان ضررها؛ يشترون لأبنائهم ألعاباً هم يعلمون ضررها عليهم، ومساهمتها في إفسادهم، أو يشترون لهم ممتلكات خاصة كالسيارة مثلاً وهم يعلمون أنهم لن يستفيدوا منها إلا في المهازل واللعب، والتفحيط والضياع.

 

بل حتى لو طلب الابن المدلل من قبل أهله ووالديه شيئاً وفروه له؛ ولو كان هذا الشيء محرماً يعلمون حرمته، ولكن طلب ابنهم عندهم أرفع من كل شيء، وأمره غير قابل للنقاش.

 

إننا نرى أطفالاً يظهر على سيماهم الدلع الزائد مع أنهم كبار في السن، ويظهر عليهم بشكل واضح أنهم لا يزالون يتربون على التدلل والدلع، مع أنهم قد تجاوزوا مرحلة التدلل، والسبب هم أهلهم عندما عودوهم على ذلك ولم يفطموهم عنه.

 

والمصيبة عندما يحدث الدلال للطفل من الأبوين؛ فالأب يدلعه والأم كذلك، فيتربى على هذا، ويرى نفسه أنه فوق كل الناس، ويتصور في ذهنه أنه يجب على كل الناس أن يعاملوه بهذه المعاملة الخاصة، وإذا لم يعاملوه بذلك فإنهم قد أخطأوا في حقه وقصروا معه.

 

وأحياناً يحدث الدلال من قبل طرف واحد من الوالدين، وغالباً يكون من قبل الأم، وأحياناً وللأسف من قبل الأب نفسه، فتجد أن أحد والديه حازماً معه لا يعطيه أكثر مما يستحق، ولكن هذا الطفل قد عرف سرهم وكشف مخبرهم، ولهذا تجده إذا أراد شيئاً وأحس أن طلبه قد يقابل بالرفض من قبل أحد الطرفين ذهب للطرف الذي يدلعه، حتى يضغط على الطرف الآخر ليلبي له حاجته، فيكون في هذه الحال أذكى منهم وأدهى.

 

إن على الآباء والأمهات أن يعتدلوا في تربية أطفالهم، وأن لا يبالغوا في تدليلهم، ويعلموا أنهم عندما يمنعون عنهم بعض احتياجاتهم فليس معنى ذلك حرمانهم، بل على العكس من ذلك فإن في حرمانهم من بعض الأشياء تربية لهم على التحمل والصبر، حتى يخرج الطفل قادراً على مواجهة أعباء الحياة، عالماً أنه ليس كل شيء ميسر بالصورة التي يظنها، وليست كل الرغبات متاحة بالبساطة التي يتخيلها.

 

على الآباء والأمهات أن يعلموا علم اليقين أن محاولة إرضاء أبنائهم وتلبية طلباتهم على الفور قد يسعدهم ويسعد الأم أو الأب في الوقت نفسه، لكن هذه السعادة لن تدوم حينما تتعارض رغباته لاحقاً مع الممنوعات؛ فالدلال المبالغ فيه وإن كان مدفوعاً بالحب والعواطف الطيبة إلا أنه كثيراً ما ينقلب إلى عكس المراد.

 

إن التدليل الزائد يفسد مستقبل الطفل، ويقضي على مستقبله، لذا يحذّر رجال التربية الآباء والأمهات من العواطف الجياشة، والدلع الزائد الذي يجعل الطفل عاجزاً عن الارتباط بأقرانه؛ لأنه يشعر بتشبع شديد من عاطفة الأسرة، فلا يميل إلى الآخرين، ويتربى في داخله على الوحدة والانطواء، كما تسيطر على الطفل المدلل الأنانية وحب السيطرة على إخوته، والعنف في تصرفاته معهم؛ لإحساسه بالتميز عنهم، فضلاً عن أنه لا يستطيع الاعتماد على نفسه، ويبقى بعد ذلك كلاً على الآخرين.

 

بل يؤكد كثير من الأطباء والاختصاصيين النفسيين المتعاملين مع الأطفال؛ أن الكثير من الإزعاج أفضل من القليل من الدلال؛ لأنهم يرون أن مسألة التدليل سهلة وبسيطة، لكن عواقبها وخيمة، ليس على الطفل فقط، بل على كل المحيطين به، وعلى رأسهم الوالدان.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [التغابن:14-15]. ويقول -سبحانه وتعالى- في آية أخرى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [الأنفال:28].

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله العلي الوهاب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الرحيم التواب، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي الأواب، وعلى آله وأصحابه خير الأصحاب والأحباب، والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الحساب.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102] (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1].

 

أما بعد:

 

أيها المسلمون: نحن مصابون -إلا من رحم الله منا وهم قليل- بآفة كبرى، وهي آفة عدم التوازن، وعدم الاستقامة على الطريق العدل الوسط، فنكون دائماً على طرفي نقيض، ومن ذلك معاملتنا في تربية أبنائنا فدائماً ما نكون بين الدلع المفرط أو بين القسوة الشديدة، وفي كلا النقيضين يتحطم البناء نفسياً وعاطفياً، ويقع الأولاد في مشكلات تربوية عميقة بسبب الانحرافات التربوية الأبوية، وعدم التوازن التربوي، والحس والذوق التعليمي.

 

إننا بحاجة إلى أن ننتقل من الإفراط والتفريط في الحب والتدلل؛ إلى التوازن في الحب والود والمسؤولية فيه، فيجب علينا أن نعود أبناءنا على أن هذا صحيح وهذا غلط، وهذا ممكن وهذا غير ممكن، وهذا مقبول وهذا مرفوض، حتى يتربى الولد تربية صحيحة مستقيمة لا عنف فيها ولا تدلل.

 

كما أن على الوالدين أن يضعوا لأبنائهم أمورا واضحة ومعالم بارزة يمشون عليها، فيعلمون أن هذا الوقت هو وقت كذا وكذا، وهذا اليوم هو يوم كذا، وهذا الأمر لكذا، حتى يتعودوا على ذلك، ولا يفرضوا أنفسهم عليهم، أو يملون شروطهم على أهلهم فيضطر أهلهم للنزول على رغباتهم والتدلل لهم.

 

على الآباء أن يكونوا عقلاء، فلا تجترهم العواطف ولا تلعب بهم المشاعر فتؤدي بهم في النهاية إلى مهاوي سحيقة لا يريدونها ولا يرضون بها لأنفسهم ولا لأبنائهم؛ فإن الشخصية المدللة تكون ضعيفة التحمل، معدومة المسؤولية، مستهترة بمن يربيها ويشرف عليها، ليس لها رادع ولا ضابط، بل تكون مضطربة المزاج غير متوازنة في شيء، سريعة الغضب، سريعة الاستسلام، كثيرة التهرب من الأزمات والمواقف الجادة، بمعنى أنه لن ينفع أهله في يوم من الأيام، وسيكون عبئاً عليهم وحملاً ثقيلاً لهم.

 

(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [النحل:76]. هذا هو الرجل الأبكم، الرجل السلبي الخامل الذي لا يحرك ولا يتحرك، ولا يؤثر ولا يتأثر، بدلاً من أن يحمل همّ الأمة إذا به ينتظر من الأمة أن تحمل همه، وبدلاً من أن يخدم أهله إذا به ينتظر من أهله ومن الآخرين أن يخدموه، (وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [النحل:76].

 

بعض الآباء -هدانا الله وإياهم- إذا قيل له كف عن هذا الدلع الزائد عن حده لأبنائك تعذر بأن هذا هو الابن الوحيد الذي عنده، أو قال: إن هذا أصغر أبنائي وآخر العناقيد، أو أنه الذكر الوحيد الذي معي والبقية إناث أو العكس، أو أنه مريض ويعاني من شيء، لذلك يرى أنه لابد من تدليله والتذلل له.

 

وكل هذه مجرد أعذار لو علم مالآتها ونتائجها المرة لما استسلم لها أو تعذر بها، ولكنه ينسى نفسه، وينسى القيم التربوية التي يجب أن يتربى عليها أمثال هؤلاء الأطفال، وينسى أن تدليل الأسرة للطفل يفسده في الحقيقة أكثر مما يصلحه.

 

فأوصي نفسي وإياكم بالتوسط مع أبنائنا في جانب الدلال؛ فلا إفراط ولا تفريط وخير الأمور الوسط الوسيط، روى البخاري عن أبي هُرَيْرَةَ، -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَبَّلَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وَعِنْدَهُ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ جَالِسًا فَقَالَ الأَقْرَعُ: إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا. فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ قَالَ: "مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ" [البخاري (5997)].

 

صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم ربكم بالصلاة والسلام عليه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].

 

اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.

 

اللهم ارزقنا التوسط في تربية أبنائنا، واجعلنا من المحسنين إليهم، وجنبنا الدلال المفرط معهم يارب العالمين.

 

 

------

المرجع: 13 خللا في التربية لفضيلة الشيخ محمد المحيسني

 

 

المرفقات

المفرط

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات