عناصر الخطبة
1/استيلاء الغفلة على القلوب 2/حياة القلوب بطاعة الله وذكره 3/حقيقة الخشية والخوف ومعناهما 4/أقوال السلف عن الخوف والخشية.اقتباس
كان النبي -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- أتقى الناس لربه وأشدهم خوفا, مع أنه غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر, فكيف بنا معاشر المقصرين؟. ولنعلم أن الرهبة: الخوف المثمر للهرب من المخوف, والخشوع: الذل والخضوع لعظمة الله بحيث يستسلم لقضائه الكوني والشرعي, قال الله تعالى في ذكر هذه الأنواع الثلاثة من العبادة...
الخطبة الأولى:
الحمد لله العظيم الجبار يُعز من يشاء بطاعته, ويُذل من يشاء بمعصيته, أحمده كفانا أنفسنا وشرورها, وأرشدنا طريق هدايته، وأشكره على تتابع نعمه وتباعد نقمه، وأشهد أن لا إله إلا الله واحدٌ في ألوهيته وربوبيته، متفردٌ ومُتنزهٌ في أسمائه وصفاته، جل عن الأشباه والأمثال والنظائر والأنداد, وأشهد أن محمد عبده ورسوله، خير من خاف ورجى، مرشد الناس لطريق أولي الحِجا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الكرام وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد: فأُوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، فهي النجاة من كل درك وحرج، والأمن يوم الخوف من اللُجج (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة: 281], (وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [الزمر: 61].
أيها المسلمون: انتشرت في السماء سُحب السواد، وغطى العيون الضباب، فصار الفجر متأخر، والليل مُتقدم، فسادَ الكون الظلام, وسُوِّدَ الطَّغَام واللئِامُ، وعُصي الملك العلام، وتيبست المهج، وتعطلت المُقل، ونامت الخشية، وسادت السطوة، وتسلط سُراق القلوب وخطفة العقول على الأرواح، فأفرغوها وأفسدوها، فأصبحت على عروشها خاوية، حتى تهيأت للانغماس في الفانية, وللحرام جالبة, ونُسي الجبار، وعُصي القهار، فحلَّت الْمَثُلاَت والعقوبات، فيضانات وانهيارات، وإفلاس وأسقام وآهات، فحُصدت الويلات، وتناست القلوب أوتاد الثبات.
أيها المؤمنون: إنَّ حياة القلوب بطاعة الله وذكره، وإنَّ أمنَ الأرواح وراحتَها؛ المراقبة والخوف والخشية من الله -عز وجل-, فبها تُستدرَّ النعم وبضدها تحل النقم، ولنعلم أن الخوف والخشية من الله عبادةٌ، لا تُصرف إلا لله -سبحانه وتعالى-, (فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 175], وقال: (فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي) [البقرة: 150].
أيها الموحدون: إن الخشية تألّم القلب بسبب توقع مكروه في المستقبل, يكون تارة بكثرة الجناية من العبد, وتارة بمعرفة جلال الله وهيبته, وخشية الأنبياء من هذا القبيل, والخوف: هو توقع حلول مكروه أو فوات محبوب. وقيل الخوف: وجل القلب من عذاب الله.
أيها الأحبة: كان النبي -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- أتقى الناس لربه وأشدهم خوفا, مع أنه غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر, فكيف بنا معاشر المقصرين؟.
ولنعلم -عباد الله- أن الرهبة: الخوف المثمر للهرب من المخوف, والخشوع: الذل والخضوع لعظمة الله بحيث يستسلم لقضائه الكوني والشرعي, قال الله تعالى في ذكر هذه الأنواع الثلاثة من العبادة: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) [الأنبياء: 90], الخشية: وهي الخوف المبني على العلم بعظمة من يخشاه وكمال سلطانه, قال الله تعالى: (فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي) [البقرة: 150].
وكل هذه الأنواع عبادة لله أمر بها وأوجبها على الناس, فمن لزمها نجح وأفلح ومن تركها خاب وخسر, لذا مدح أهل الخوف وأثنى عليهم فقال: (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) [المؤمنون: 57، 61].
وفي سنن الترمذي ومسند أحمد عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قلت يا رسول الله: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) [المؤمنون: 60] هو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق؟ قال: "لا, يا ابنة الصديق, ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه".
الخائفون من الله دارهم الجنة (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ) [فاطر: 34، 35] الحزن: يعني: الخوف، وذلك هو المذكور في هذه الآية، (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [يونس: 62].الخائفون أولياء الله وأحباؤه.
قوله تعالى: (فَلَا تَخْشَوْهُمْ) [البقرة: 150] قال بعضهم: "ذكر الخشية هنا ولم يذكر الخوف؛ لأن الخشية حذر من أمر قد وقع, والخوف حذر من أمر لم يقع". والذي تدل عليه اللغة والاستعمال أن الخشية والخوف مترادفان, وقال تعالى: (فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ) [آل عمران: 175], كما قال هنا: (فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي) [البقرة: 150].
أيها المتقون: تأملوا حال السلف كيف عرفوا الله وخافوه حق الخوف؟ عرفوا قدرته فقدروه حق قدره, فقاموا في ليلهم خائفين, وأصبحوا في نهارهم وجلين؛ ففازوا بعليين.
قال عمر بن الخطاب: "إن لله عبادا يميتون الباطل بهجره, ويحيون الحق بذكره, رغبوا فرُعبوا, ورهبوا فرُهبوا, خافوا فلا يأمنون, أبصروا من اليقين مالم يعاينوا فخلطوه بما لم يزايلوه, أخلصهم الخوف فكانوا يهجرون ما ينقطع عنهم لما يبقى لهم, الحياة عليهم نعمة والموت لهم كرامة ,فزوجوا الحور العين, وأخدموا الولدان المخلدين".
قال الحسن: "إن المؤمن يصبح حزينا ويمسي حزينا ولا يسعه غير ذلك؛ لأنه بين مخافتين: بين ذنب قد مضى لا يدري ما الله يصنع فيه, وبين أجل قد بقي لا يدري ما يصيب فيه من المهالك" وقال: "يحق لمن يعلم أن الموت مورده وأن الساعة موعده وأن القيام بين يدي الله تعالى مشهده؛ أن يطول حزنه".
قيل لفاطمة بنت عبد الملك -امرأة عمر-: ما ترين بدو مرض عمر الذي مات فيه؟ فقالت: "أرى جل ذلك أو بدوه الخوف". قال زياد النميري: "منتهى الخوف إجلال الله عند مقام السوءات, ومنتهى الرجاء قال تأمل الله على كل الحالات". وعن سفيان في قوله تعالى: (وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) [الأنبياء: 90] قال: "الخوف الدائم في القلب".
وقال حاتم الأصم: "أصل الطاعة ثلاثة أشياء: الخوف والرجاء والحسب, وأصل المعصية ثلاثة أشياء: الكبر والحرص والحسد", وقال: "المنافق ما أخذ من الدنيا أخذ بحرص ويمنع بالشك وينفق بالرياء, والمؤمن يأخذ بالخوف ويمسك بالشدة وينفق لله خالصا في الطاعة".
قال الفضيل: "الخوف أفضل من الرجاء ما دام الرجل صحيحا, فاذا نزل به الموت فالرجاء أفضل من الخوف". يقول: إذا كان في صحته محسنا عظم رجاؤه عند الموت وحسن ظنه, وإذا كان في صحته مسيئا ساء ظنه عند الموت ولم يعظم رجاؤه. وقال الفضيل بن عياض: "كل حزن يبلى إلا حزن التائب".
وقال أبو سليمان: "رد سبيل العجب بمعرفة النفس, وتخلص إلى إجماع القلب بقلة الخطأ وتعرض لرقة القلب بمجالسة أهل الخوف, واستجلب نور القلب بدوام الحزن والتمس باب الحزن بدوام الفكرة والتمس وجوه الفكرة في الخلوات".
وقال أحمد بن عاصم الأنطاكي: "أنفع اليقين ما عظم في عينك ما به قد أيقنت وصغر في عينك ما دون ذلك, وأثبت الخوف ما حجزك عن المعاصي وأطال منك الحزن على ما قد فات وألزمك الفكر في بقية عمرك وخاتمة أمرك, وأنفع الرجاء ما سهل عليك العمل لإدراك ما ترجو, وألزم الحق إنصافك الناس من نفسك وقبولك الحق ممن هو دونك, وأنفع الصدق أن تقر لله بعيوب نفسك, وأنفع الإخلاص ما نفى عنك الرياء والتزين, وأنفع الحياء أن تستحي أن تسأله ما تحب وتأتي ما يكره, وأنفع الشكر أن تعرف منه ما ستر عليك من مساويك فلم يطلع أحدا من المخلوقين عليك".
وقال ذو النون: "علامات الخوف: الورع عن الشبهات بملاحظة الوعيد وحفظ اللسان مراقبة للتعظيم, ودواء الكمد إشفاقا من غضب الحليم, وثلاثة من أعمال الإخلاص: استواء المدح ، والذم من العامة ، ونسيان رؤية الأعمال في الأعمال ، واقتضاء ثواب العمل في الآخرة".
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم