عناصر الخطبة
1/ اسم الله ( الآخر) 2/ من معاني ودلالات اسم الله ( الآخر ) 3/ (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) 4/ الآثار الإيمانية لحياة العبد في ظل آخرية الله.اقتباس
والآخر هو آخر ما يرتقي إليه العارفون، وكل معرفة تحصل قبل معرفته فهي مرقاة إلى معرفته، لذلك قالوا: نهاية العلم التوحيد، فمهما تعلمت ومهما درست، نهاية النهاية التوحيد، وأعلى مرتبة علمية أن تعرف الله, فهو آخر بالإضافة إلى السلوك، بالإضافة إلى الموجودات فهو أول، منه المبدأ أولاً, وإليه المرجع والمصير آخراً...
الخطبة الأولى:
الحمد لله العزيز الغفار، يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل, يعلم غيب السماوات والأرض, لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله المختار, الذي نصح الأمة بسنته وأنار, ومحا عنها لوثة الجاهلية والشنار, وأرشدها لطريق الجنة والبعد عن النار، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ما أدبر ليل وأقبل نهار.
عباد الله: الوصية المبذولة لي ولكم من رب العالمين، والتي أودعها كتابه الكريم، وحثنا عليها رسوله الأمين؛ هي تقوى السميع العليم، في السر والعلن، والسراء والضراء، والصحة والسقم، والحضر والسفر، فاتقوا الله أين ما كنتم، وكيف ما كنتم، يأتيكم الخير والفرج ما دمتم.
أما بعد: فلقد تكلمنا في جمعة سابقة عن الآثار الإيمانية لاسم الله "الأول" في حياة المسلم والمجتمع ككل، وبقى لنا أن نتحدث عن اسم الله "الآخر" الذي أجاز كثير من أهل العلم ارتباطه باسم الله "الأول"، وكلاهما لم يرد ذكره في القرآن والسنة إلا مقترنا بقرينه للدلالات الزمانية والمكانية والإيمانية المترتبة على ذلك، ورغم ذلك الارتباط يبقى أن لاسم الله "الآخر" دلالاته المتفردة والمميزة له عن اسمه "الأول" ور بما تكون أكثر أثرها وأعمق دلالة في حياة العبد والأمة.
فالآخر هو الباقي -سبحانه- بعد فناء خلقه، الدائم بلا نهاية، وهو الغاية والصمد الذي تصمد إليه المخلوقات بتألهها، ورغبتها، ورهبتها، وجميع مطالبها.
والآخر هو الذي ليس بعده شيء، فهو يدل على بقاء الله ودوامه، وهذا البقاء والدوام بذاته تعالى، لأنّ هناك من المخلوقات من لا يفنى كالعرش والجنة والنار وعجب الذنب، لكن عدم فناءها ليس بذاتها، بل بإبقاء الله لها، قال الله تعالى: (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الحديد:3] قال النووي في شرح مسلم: "وَأَمَّا تَسْمِيَته -سبحانه- بِالْآخِرِ، فَقَالَ الْإِمَام أَبُو بَكْر اِبْن الْبَاقِلَّانِيّ : مَعْنَاهُ الْبَاقِي بِصِفَاتِهِ مِنْ الْعِلْم وَالْقُدْرَة وَغَيْرهمَا الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا فِي الْأَزَل، وَيَكُون كَذَلِكَ بَعْد مَوْت الْخَلَائِق، وَذَهَاب عُلُومهمْ وَقَدَرهمْ وَحَوَاسّهمْ، وَتَفَرُّق أَجْسَامهمْ".
وقد ورد ذكر هذا الاسم مفسّرا في السنة الشريفة، كما في حديث سُهَيْلٍ بن أبي صالح قَالَ "كَانَ أَبُو صَالِحٍ يَأْمُرُنَا إِذَا أَرَادَ أَحَدُنَا أَنْ يَنَامَ أَنْ يَضْطَجِعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ وَرَبَّ الْأَرْضِ وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى وَمُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْفُرْقَانِ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ شَيْءٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ اللَّهُمَّ أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ وَأَغْنِنَا مِنْ الْفَقْرِ", كان يروي ذلك عن أبي هريرة عن رسول الله -عليه الصلاة والسلام-" [مسلم (4888)].
وهذا الحديث النبوي العظيم بين بأحسن بيان معاني هذه الأسماء الأربعة التي لم ترد في القرآن والسنة سوى مرة واحدة، وإذا ورد التفسير عن المعصوم -عليه صلوات الله وسلامه- فليس لأحد بعده مقال، فدلت هذه الأسماء على إحاطته -سبحانه- بجميع الأزمنة، والأمكنة، فالأول والآخر دالان على الإحاطة الزمانية، حيث إنه الأول قبل كل شيء والآخر بعد كل شيء.
فالآخر -سبحانه- هو المتصف بالبقاء والأخرية فهو الآخر الذي ليس بعده شيء, الباقي بعد فناء الخلق قال -سبحانه-: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) [سورة القصص 88], قال ابن كثير: "هذا إِخْبَارٌ بِأَنَّهُ الدَّائِمُ الْبَاقِي الْحَيُّ الْقَيُّومُ، الَّذِي تَمُوتُ الْخَلَائِقُ وَلَا يَمُوتُ" [ابن كثير 6/261]، وقد ثبت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ, كَلِمَةُ لَبِيدٍ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ" [البخاري(5681)].
إخوة الإسلام: من معاني اسم الله الآخر: الباقي -سبحانه-، أي الباقي الدائم بلا نهاية بعد فناء خلقه، (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) [الرحمن: 26، 27] والإنسان العاقل يربط مصيره بمصير الأزل الأبدي، الباقي الآخر, ولا يربط مصيره بأي شيء آخر موصوف بالفناء.
ومن معاني اسمه الآخر: الذي تنتهي إليه الأمور، وإليه تصير الأشياء ترجع الخلائق بالبعث والنشور، وإلى الله المنتهى في كل حال، فإليه ينتهي العلم والحكمة، والرحمة والقدرة، وسائر صفات الكمال: (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى) [النجم:42], تنتهي إليه الأمور، وإليه تصير الأشياء وجميع الخلائق بالبعث والنشور في أمرها وحكمها والفصل فيها وحسابها وجزائها وسكناها، وإلى الله المنتهى في كل حال، فإليه ينتهي العلم والحكم، والرحمة وسائر الكمالات.
كما ورد عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ, ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الْأَيْمَنِ, ثُمَّ قُلْ: اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ, اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ, وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ, فَإِنْ مُتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ فَأَنْتَ عَلَى الْفِطْرَةِ وَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ" [البخاري(239)], وقوله: (لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ) أي: لا مهرب ولا ملاذ, فلا حصنَ أعتصم به، ولا خلاص من عذابك إلا إلى رحمتك، وأخذك إلا إليك فأنت نهاية كل مطلوب ونهاية كل مقصود.
والآخر هو آخر ما يرتقي إليه العارفون، وكل معرفة تحصل قبل معرفته فهي مرقاة إلى معرفته، لذلك قالوا: نهاية العلم التوحيد، فمهما تعلمت ومهما درست، نهاية النهاية التوحيد، وأعلى مرتبة علمية أن تعرف الله, فهو آخر بالإضافة إلى السلوك، بالإضافة إلى الموجودات فهو أول، منه المبدأ أولاً, وإليه المرجع والمصير آخراً, وهذا المعنى له علاقة بحياتنا، والإنسان مهما سافر وتاجر وجمع مالاً، وأسس أعمالاً، ونجح، وتألق لكنه في المطاف مصيره إلى الله: (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ) [الغاشية: 25].
فالله -سبحانه- هو الآخر, اذهب أين شئت اتجه أنى شئت فستجد أن الله أمامك: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة: 148]. الله هو الآخر فلك أن تركن على من شئت؛ إلى جهة، تركن إلى جماعة، تركن إلى كبير, إلى قوتك، لكن في النهاية أنت مع الله، مصيرك إليه.
وصِف الله تعالى بأنه الآخر بعد وصفه بأنه الأول مع كون الوصفين متضادين يقتضي انفكاك جهة الأولية والآخرية، فلما تقرر أن كونه الأول متعلق بوجود الموجودات اقتضى أن يكون وصفه بالآخر متعلقا بانتقاض ذلك الوجود، أي هو الآخر بعد جميع الموجودات في السماء والأرض، وهو معنى قوله تعالى: ( إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ) [مريم: 40] وكقوله (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [القصص: 88]، فتقدير معنى اسمه الآخر أي في استمرار الوجود الذي تقرر بوصفه بأنه الأول وليس في هذا إشعار بأنه زائل ينتابه العدم, فآل معنى الآخر إلى معنى الباقي.
عباد الله: ولننظر إلى المثال الذي ضربه شيخ الإسلام ابن القيم في تفسير آخرية الله، فقد ذكر - رحمه الله - عند قوله تعالى: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا) [ الكهف 109]؛ لو جعل البحر ومعه سبعة أبحر، وبحور الدنيا ومعها سبعة أمثالها، وأشجار الدنيا من أولها إلى آخرها أقلام، فكتب بتلك الأقلام، وكتب بذلك البحار، لنفدت البحار وتكسرت الأقلام قبل أن ينفد - يعني كلام الله، وكيف يفني كلامُ الله، وهو لا بداية له ولا نهاية؟ والمخلوقات لها بداية ونهاية، فيعتقد المسلمون أن الله تعالى لم يسبق بعدم، وأنه المبدي بلا بداية، الذي هو المبتدئ للخلق، وهو لا بداية له، وأنه الآخر الباقي بلا انتهاء، وهو القيوم, القائم على جميع أرزاق خلقه، وهو الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون".
فهو -سبحانه- الأول الذي كان قبل الأسباب والمخلوقات كلها، وهو الآخر الذي يبقى بعد الأسباب والمخلوقات كلها، فكان الله ولم يكن شيء غيره، وكل شيء هالك إلا وجهه كما قال -سبحانه-: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) [الرحمن: 26، 27]. قال الطبري: "كلّ من على ظهر الأرض من جنّ وإنس فإنه هالك، ويبقى وجه ربك يا محمد ذو الجلال والإكرام".
ويدل على هلاك الخلق ما أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير عن عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أنه سَأَلَ كَعْبَ الأَحْبَارِ، عَنْ قَوْلِهِ: (فصعق مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ) مَنِ الَّذِينَ اسْتَثْنَى؟ قَالَ: "هُمْ ثَلاثَةَ عَشَرَ، جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ، وَإِسْرَافِيلُ، وَحَمَلَةُ الْعَرْشِ الثَّمَانِيَةُ، وَمَلَكُ الْمَوْتِ، وَرَبُّ الْعِزَّةِ، فَيَأْمُرُ مَلَكَ الْمَوْتِ فَيَقْبِضُ فُلانًا وَفُلانًا وَحَمَلَةَ الْعَرْشِ حَتَّى لَا يَبْقَى غَيْرُهُ، فَيَقُولُ رَبُّ الْعِزَّةِ: مُتْ يَا مَلَكَ الْمَوْتِ فَيَمُوتُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ)".
ويقول ابن تيمية في معرض حديثه عن فناء المخلوقات: "وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة والجماعة على أنّ من المخلوقات ما لا يعدم ولا يفنى بالكلية, كالجنة والنار والعرش وغير ذلك، ولم يقل بفناء جميع المخلوقات إلا طائفة من أهل الكلام المبتدعين كالجهم بن صفوان ومن وافقه من المعتزلة ونحوهم، وهذا -يعني القول بفناء جميع المخلوقات- قول باطل يخالف كتاب الله وسنة رسوله -صلّى الله عليه وسلّم- وإجماع سلف الأمة وأئمتها؛ لما في ذلك من الدلالة على بقاء الجنة وأهلها وبقاء غير ذلك مما لا تتسع هذه الورقة لذكره".
وليس بقاء أهل الجنة والنار أبدا متعارضا مع إفراد الله -عز وجل- بالبقاء وأنه الآخر الذي ليس بعده شيء، لأن ما سواه باق بإبقائه، إن شاء أبقاه وإن شاء أفناه، فبقاء المخلوقات في الآخرة لا لذاتها, ولكن بعطاء من الله لإكرام أهل طاعته وإنفاذ عدله في أهل معصيته، ومن ثم فإن الله -عز وجل- هو الآخر الموصوف بالآخرية المطلقة، والسلف الصالح البقاء عندهم ليس من طبيعة المخلوقات ولا من خصائصها الذاتية، بل من طبيعتها جميعا الفناء، فالخلود ليس لذات المخلوق أو طبيعته، وإنما هو بمدد دائم من الله تعالى وإبقاء مستمر لا ينقطع.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الظالمين، وهب المسيئين منا للمحسنين، إنك سميع قريب مجيب الدعوات يا أرحم الراحمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده وصلاة وسلاما على من لا نبي بعده، محمد بن عبد الله، وعلى من والاه، واهتدى بهداه، إلى يوم الدين.
وحياة العبد في ظل آخرية الله واليقين به والاعتقاد الراسخ بأحقيتها، وأنها من تمام التوحيد ولب الإيمان حياة طيبة رونقها الإخلاص، وعطرها اليقين، وثمارها التوكل الخالص والتوبة الصادقة ، والحياة في ظل اسم الله الآخر، لها العديد من الآثار والثمار منها:
أولا: التحقق بمعرفة اسم الله الآخر يوجب علينا قوة الاضطرار, وكمال الافتقار له -سبحانه-, وعدم ركون العبد ووثوقه بالأسباب والوقوف معها, فإنها تنعدم لا محالة, وتنقضي بالآخرية؛ فالتعلق بها تعلق بالعدم والزائل, والتعلق بالآخر -سبحانه- تعلق بالحي الذي لا يموت ولا يزول.
ثانياً: كما كان واحدا في إيجادك فاجعله واحدا في تألهك إليه لتصح عبوديتك, وكما ابتدأ وجودك وخلقك منه فاجعله نهاية حبك وإرادتك وتألهك إليه لتصح لك عبوديته باسمه الأول والآخر وأكثر الخلق تعبدوا له باسمه الأول, وإنما الشأن في التعبد له باسمه الآخر فهذه عبودية الرسل وأتباعهم فهو رب العالمين وإله المرسلين -سبحانه- وبحمده.
ثالثاً: يجعل المرجعية في فعله وحياته على وفق ما اختاره الآخر، لعلمه أن الله الذي بيده الأمور ابتداؤها وانتهاؤها, وهو -جل جلاله- مالك الإرادات ورب القلوب والنيات، يصرفها كيف شاء، فما شاء أن يزيغه منها أزاغه، وما شاء أن يقيمه منها أقامه، قال تعالى: (رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا)[آل عمران:8].
رابعاً: أن يُكثر من ذكر هذا الاسم والدعاء به حتى يتجلى لقلبه نور الظاهر، حيث كَانَ عليه -الصلاة والسلام- يدعو به: "اللَّهُمَّ أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ وَأَغْنِنَا مِنْ الْفَقْرِ " [مسلم (4888)], فيدرك العبد أن البقاء لله، مما يحمله على الفرار من دار الفناء إلى دار البقاء, وقد رثى أبو البقاء الرندي الأندلس:
وهذه الدار لا تبقي على أحد *** ولا يدوم على حال لها شان
خامساً: التوجه إليه وحده وعدم التفات القلب لغيره فكما أن كل الذوات فانية وزائلة إلا ذاته تعالى وتقدس, فكذا لن يبقى إلا ما أريد به وجهه وكل ما كان لغيره يضمحل وهو أحد التفسيرين في قوله: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) [القصص: 88], فكل الأعمال أخبر بأنها باطلة إلا ما أريد به وجه الله تعالى من الأعمال الصالحة المطابقة للشريعة, قال الكسائي:
أستغفر الله ذنبا لست محصيه *** رب العباد إليه الوجه والعمل
وأن تجعله وحده غايتك التي لا غاية لك سواه ولا مطلوب لك وراءه, وقد تمثل هذا الأثر الشاعر:
الله ربي لا أريد سواه *** هل في الوجود حقيقة إلا هو
الشمس والبدر من أنوار حكمته *** والبر والبحر فيض من عطاياه
والطير سبحه والوحش مجده *** والموج كبره والحوت ناجاه
والنمل تحت الصخر الصم قدسه *** والنحل تهتف حمدا في خلايا
والناس يعصونه جهرا و يسترهم *** والعبد ينسى وربي ليس ينساه
فكما انتهت إليه الأواخر وكان بعد كل آخر, فكذلك اجعل نهايتك إليه، فإن إلى ربك المنتهى، انتهت الأسباب والغايات فليس وراءه مرمى ينتهي إليه طريق.
سادساً: أن العبد إذا علم أنه من جملة من كتب الله عليهم الفناء دعاه ذلك إلى أن يبادر بالتوبة قبل أن ينزل به ما لا طاقة له على دفعه, ولا فرصة أخرى له مما يقوده ذلك إلى التسليم له -سبحانه- حين يقضي على العبد بفوات صفقة, وخسارة تجارة, ولأجل هذا دعا الله عباده للإنابة, وحذرهم مغبة التفريط, وعاقبة التسويف فقال تعالى: (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ..) [الزمر : 54 - 56].
ويتمثل قول الشاعر:
نفسي التي تملك الأشياء ذاهبة *** فكيف آسى على شيء إذا ذهبا
وقضاء الله -سبحانه- على موت حبيب لا ينبغي لعبد أن يسخط عليه أو يعترض على موت قد كتبه على الخلائق أجمعين, فالموت حتما مقضيا, والبقاء من صفة الآخر, فقد روى ابن أبي الدنيا في كتاب التفكر والاعتبار أن ابن عمر كان إذا أراد أن يتعاهد قلبه يأتي الخربة فيقف على بابها فينادى بصوت حزين فيقول: أين أهلك؟ ثم يرجع إلى نفسه فيقول: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [سورة القصص 88].
اللهم نور قلوبنا بحبك وحب طاعتك، وحب من يحبك يا رب العالمين، اللهم ارزقنا علما بأسمائك وصفاتك نافعا، يضيء لنا ظلمات الدروب، ويرفع عنا به ملمات الخطوب، واجعلنا من عبادك العالمين العاملين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم