عناصر الخطبة
1/التلازم بين العمل الديني والدنيوي 2/العمل شأن الأنبياء –عليهم الصلاة والسلام- 3/أهمية العمل في الإسلام وبعض فضائله 4/ذم الكسل وبعض أسبابه 5/معضلة صغر الهمة ودنوها 6/تربية الصحابة على الهمة العالية 7/الجدية صفة المؤمن واللا جدية سمة المنافقاقتباس
في القرآن حديث عن البناء، حديث عن الصناعة، حديث عن الصيد بنوعيه البحري والبري، حديث عن الحدادة والنجارة والدباغة، والصباغة والنحت. بل أكثر ثلاث مصطلحات يمكن أن تقف عليها في كتاب الله، هي مصطلح: الإيمان، والعلم، والعمل. ويوم القيامة لن يكون السؤال إلا عن...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونؤمن به، ونتوكل عليه.
وأشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه ومختاره من خلقه وخليله، أشهد أنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح للأمة، وكشف الله به الغمة، تركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلوات الله وتسليماته وتبريكاته عليه، وعلى أهل بيته.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
خطبة الجمعة -أيها الإخوة-: يصنعها حدث عام في المجتمع، أو موقف يستفز الخطيب أيضا من واقع المجتمع، في وسط هذا الأسبوع سارت شائعة كما هو معتاد دائما قبيل بدأ العودة إلى المدارس: أن الإجازة ستمدد إلى أسبوع، أو لأكثر من أسبوع.
هذه الإشاعة التي اعتدنا عليها، والتي يطلقها أحد العابثين بالرسائل النصية، لتصبح بعد أقل من عشر دقائق شائعة تروج في البلد، وتتناقلها كافة الهواتف.
في حوار إذاعي كان المذيع يسأل الناس بشتى ألوانهم وصنوفهم، وقعت أنا على طرف منه، وإذ بإحدى المتصلات تطالب: بتأجيل الدراسة أسبوعا! شهرا! عاما كاملا!.
ربما يبدو الأمر للوهلة الأولى أمرا يدعو للضحك والفكاهة، لكن هذا الإفراز العجيب في مجتمعنا حري بالدراسة، حري بالمتابعة.
أين هي الجدية والعمل من أولئك الذين لم يفصل بينهم وبين العمل الأخروي، والجدة فيه، إلا أياما معدودة؟!
ألم يكونوا أنفسهم الذين يطالبون بالتأجيل، أو الذين بدأوا وشرعوا في الأعمال كسالى، أو أشبه بالكسالى؟!
ألم يكونوا بالأمس القريب يسابقون إلى الصفوف الأول: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا)[السجدة: 16ٍ]؟!
ألم يكونوا أصحاب الهمم في البذل والإنفاق، والعمرة والاعتكاف، والاجتهاد والقيام، والصيام والتعليم، وقراءة القرآن؟!
هل تبدلت أشكالهم؟ أرواحهم؟ أجسادهم؟ ما الذي يجري؟
هناك فصل بين العمل والعمل؟!.
العمل الأخروي الموصل إلى مرضاة الله -عز وجل-؛ المتمثل في الطقوس العبادية المحضة، صلاة وجهاد وحجا!.
وفصل بين العمل الذي يثيب الله -عز وجل- عليه؛ ويؤجر فاعله؛ العمل المتمثل في المعول ضربا، وفي الزراعة حرثا، وفي الحديد صناعة، وفي التشييد والبناء: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)[الأنعام: 162-163]!.
فلم يفصل بين الصلاة والصيام والنسك وبين المحيا الذي فيه كافة هذه الأعمال!.
أرعني سمعك -أيها المبارك-: لأجول بك قليلا في نصوص الآي، لأتلمس أنا وإياك العمل، عند داود ونوح وعند محمد -عليهم وعلى نبينا أزكى الصلاة وأتم التسليم-.
أما القرآن العظيم الذي رددناه وقرآناه في رمضان كثيرا؛ فإنه يذكر العمل كثيرا.
مفردة العمل؛ قرينة الإيمان.
مفردة العمل؛ تكررت في القرآن في 300 موضعا، بتصريفاتها وتضاعيفها.
إذا كان القرآن ستمائة ورقة، فإن مفردة العمل قد تكررت في أكثر من ثلاثمائة موضع، حتى لا تمر صفحة من صفحات القرآن إلا والعمل مذكور فيها.
في القرآن حديث عن البناء، حديث عن الصناعة، حديث عن الصيد بنوعيه البحري والبري، حديث عن الحدادة والنجارة والدباغة، والصباغة والنحت.
بل أكثر ثلاث مصطلحات يمكن أن تقف عليها في كتاب الله، هي مصطلح: الإيمان، والعلم، والعمل.
ويوم القيامة لن يكون السؤال إلا عن العمل: (وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)[النحل:93].
والجزاء لن يكون إلا على العمل، قال الله -تعالى-: (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)[الزخرف: 72]ٍ.
أنبياء الله كانوا عمالا، كانوا يشتغلون في شتى صنوف العلم والعمل، لم يكونوا قاعدين، ولا كسالى، ولا بطالين -حاشاهم-.
داود -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- يقول الله في شأنه: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ)[سبأ:10-11].
قال الله: (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ)[الأنبياء:80].
قال - عليه الصلاة والسلام -: "ما أكل أحد طعاما خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده".
لماذا خص النبي –صلى الله عليه وسلم- نبي الله داود؛ دون سائر الأنبياء؛ مع أن الأبناء جميعا كانوا يأكلون من أعمال أيديهم؟
قال أهل العلم: "لأن كان خليفة في الأرض، ولو أراد أن يستغني بهذا المنصب عن العمل لحصل له ذلك، ولكن حاشا أنبياء الله ورسله".
نوح -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- يقول الله في شأنه: (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا)[هود:37].
قال القرطبي: "كان آدم حراثا، ونوح نجارا، ولقمان خياطا، وطالوت دباغا، وقيل: سقاءًا".
"ما من نبي إلا ورعى الغنم" فقال الصحابة: وأنت يا رسول الله؟ أي هل مر عليك رعاية الغنم؟ قال: "نعم" -عليه وآله الصلاة والسلام- "كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة".
لا يُذم أحد على العمل.
الكسالى والقاعدون، والذين لم يباشروا أعمالهم إلا بتثاؤب شديد، نقول لهم: لا يذم أحد على العمل، إنما يذم على تركه، والإعراض عنه.
الذم يلحق القول الفارغ عن العمل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ)[الصف: 2-3].
ثم قال بعدها: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ)[الصف: 4].
فإذا كان القعود، أو القول الفارغ، محل ذم، ومقت من الله، فإن الجد والعمل محل مدح من المولى -سبحانه وتعالى-.
والمجد لا يشرى بقولٍ كاذبِ *** إن كنت تبغي المجد يوماً فانصبِ
الأماني والأحلام بلا عمل ظل زائل، خيال لا حقيقة له.
تلك أمانيهم، جاء رجل إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- فقال له: يا رسول الله متى الساعة؟ فأعرض النبي –صلى الله عليه وسلم- عن هذا الجواب إلى جواب أحظ وأولى وأحرى، فقال له: "وما أعددت لها؟".
تريد التمر دون غراس نخلٍ *** ولا حتى لجذع النخل هزا
إذا رمت العلا من غير بذلٍ *** فنم واحلم وكل لحماً وأرزا
عمر -رضي الله عنه وأرضاه- يقول: "إني لأرى الرجل فيعجبني شكله، فإذا سألت عنه، فقيل: لا عمل له؛ سقط من عيني".
وروي عن لقمان الحكيم أنه قال لابنه: "يا بني استعن بالكسب الحلال، فإنه ما افتقر أحد إلا أصابته إحدى ثلاث خصال: رقة في دينه، وضعف في عقله، وذهاب مروءته، وأعظم من ذلك استخفاف الناس به".
"رقة في دينه" نعم، ألا ترون أن من المناظر المقيتة التي تمر علينا -نحن معاشر أئمة المساجد- ونحن همزات الوصل، بين أرباب البذل والعطاء، وبين السائلين والمحتاجين؟!
ألا ترون أن من الصور المقيتة: أن يصطف الشاب مفتول العضلات مع اليتامى مع الأيامى مع ضعاف الناس يطلب صدقة ليتم نكاحه، أو ليبني مشروعه؟!
هل احتطبت؟ هل أخذ فأسا أو معولا فذهب واحتطب؟
هل عمل عملا فكف نفسه عن سؤال الناس؟!.
الكسب -أيها الإخوة-: جهاد وعمل، لا يقل أبدا عن الجهاد في سبيل الله؛ عند الطبراني بسند صححه من المتأخرين الألباني -رحمه الله- أن المطيبة الأفواه بالصلاة والتسليم عليه، قال بعد أن مر عليه رجل فرآه الصحابة، رأى الصحابة قوته ونشاطه، فقالوا: يا رسول الله لو كان هذا في سبيل الله؟" قال صلى الله عليه وسلم: "إن كان خرج يسعى على ولده صغارا، فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين، فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها، فهو في سبيل الله".
أنا أقترح: أن يجعل هذا الحديث شعارا ودثارا، نجعله في مقدمة مدارسنا، حتى يتعلم الجيل الكسب والجهد والجدية في العمل؛ يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله-: "وقد أجمع عقلاء كل أمة أن النعيم لا يدرك بالنعيم، وأن من آثر الراحة فاتته الراحة، فلا فرحة لمن لا هم له، ولا لذة لمن لا صبر له، ولا صبر لمن لا تعب له، بل إذا تعب العبد قليلا استراح طويلا، وإذا تحمل مشقة الصبر ساعة قادته لحياة الأبد، وكل ما فيه أهل النعيم المقيم، إنما هو صبر ساعة".
على قدر أهل العزم تأتي العزائم *** وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتكبر في عين الصغير صغارها *** وتصغر في عين العظيم العظائم
الدعوة للعمل تلحق الصحيح، وغير الصحيح، علمنا النبي -صلى الله عليه وسلم- عند زيارة المريض: أن نضعها كفنا على كفه، أو على رأسه، ونقول: "اللهم اشف عبدك فلانا، ينكأ لك عدوًا، أو يمشي لك إلى الصلاة".
اللهم اشف عبدك فلانا حتى يعمل، وحتى يسعى في دولاب الحياة.
ما المجد زخرف أقوالٍ لطالبه *** لا يدرك المجد إلا كل فعال
كلٌ له غرضٌ يسعى ليدركه *** والحُر يجعل إدراك العلا غرضا
يقول الإمام ابن القيم: "كمال الإنسان بهمة ترقيه، وعلم يبصره ويهديه".
فمراتب السعادة والفلاح تتحقق للعبد من هاتين الجهتين: همة عالية، ونفس تواقة.
أمطري لؤلؤاً جبال سرنديب *** وفيضي آبار تكرور تبرا
أنا إن عشت لست أعدم قوتا *** وإذا مت لست أعدم قبرا
همتي همة الملوك ونفسي *** نفس حر ترى المذلة كفرا
الكسالى الذين يريدون إجازة طويلة بعد أن قضوا قريبا من 100 يوم من العطلة، هي أطول عطلات الدراسة في العالم، يريدون لها مزيدا، ولو أعطوا المزيد لطلبوا أكثر من ذلك، شأن ابن آدم: "لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى ثالثا، ولو كان له ثالثا لابتغى رابعا، ولا يملأ عين ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب".
حتى أرباب الأعمال الذين قضوا خمسة أيام، أو أربعة أيام، بين أهليهم وذويهم، ثم ذهبوا كسالى يضيعون الأوقات، لهؤلاء أقول لهم: إن الكسل في كتاب الله مذموم، بل الكسل في كتاب الله -أعاذني الله وإياكم- قرين النفاق، قال الله -تعالى-: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً)[النساء: 142].
لأجل ذلك؛ استعاذ النبي -صلى الله عليه وسلم- من الكسل، وقال في دعائه المأثور: "اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل".
قال الراغب الأصبهاني: "من تعطل وتبطل انسلخ من الإنسانية، بل من الحيوانية، وصار من جنس الموتى".
حتى الحيوان يذهب ويعمل! أتعلمون أن مملكة النحل لا تعترف بالكسالى؟!
ليس في خلية النحل بطال، أو كسول، يجني ما عليه من العسل.
لا، البطال والكسول يخرج من هذه المملكة، ولا يكون مصيره إلا الفناء والموت.
اطلب العلم ولا تكسل فما *** أبعد الخيرات عن أهل الكسل
أسباب الكسل -أيها الإخوة-: خور الهمة، ضعف العزائم، قلتها، الترف الزائد، الإفراط في الأكل والشرب والنوم، الأوهام والأحلام، تلك أمانيهم، مجالسة البطالين، وأهل الكسل، البيئات الفاسدة.
فلا تجلس إلى أهل الدنايا *** فإن خلائق خلائق السفهاء تعدي
(هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)[الزمر: 9].
يقول الشافعي:
أأبيت سهران الدجى وتبيته *** نوما وتبغي بعد ذلك لحاقي؟!
الهمة العالية، محل ثناء الله -عز وجل-، محل إطراء النبي -عليه الصلاة والسلام-، الهمة العالية هي التي أمر الله -عز وجل- بها الأنبياء والرسل، قال لنبيه وهو أعلى الناس همة -صلوات الله وسلامه عليه- قال له: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ)[الأحقاف:35].
وقال لنا جميعا: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ)[الحديد:21].
وحثنا جميعا على العمل، فقال: (لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ)[الصافات:61].
(وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ)[المطففين:26].
يقول عمر بن عبد العزيز: "إن لي نفسا توّاقة، لم تزل تتوق إلى الإمارة، فلما نلتها تاقت إلى الخلافة، فلما نلتها تاقت إلى الجنة".
اللهم إنا نسألك الفردوس الأعلى، وما قرب إليها من قول أو عمل.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والمواعظ والذكر الحكيم.
أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، يا طوبي للمستغفرين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إنعامه، والشكر له على تفضله وامتنانه، ولا إله إلا الله تعظيما لشأنه، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه محمد وعلى آله وصحابته وإخوانه.
أما بعد:
ايها الأكارم: إن صغر الهمة، ودنو العزائم وخورها؛ مصيبة المصائب.
إننا ما تأخرنا عن ركب الحياة إلا بعد أن أُصبنا بهذا الوهن، العجز والكسل، وخور الهمة، يقول عمر: "لا تصغرنَّ همتكم؛ فإني لم أرَ أقعد عن المكرمات من صغر الهمم".
فانهض بإقدام على الإقدام *** إن كنت للعلياء ذا مرام
الحياة كلها جهاد وعمل، ودولابها لا يتوقف أبداً، قد تتوقف أنت لكن العمل لا يتوقف.
جهاد المؤمنين لهم حياة *** ألا إن الحياة هي الجهاد
الهمة العالية -أيها الإخوة-: شيء بذره النبي -صلى الله عليه وسلم- في نفوس أصحابه، فأنبت نباتا حسنا، كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يعلمهم ذلك، حتى بالأماني والأدعية، قال صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة عند الطبراني: "إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن".
الجدية هي عمل الأنبياء، وهي قرينة الهمة؛ لأن همة بلا عمل فراغ، وعمل بلا همة شتات.
إذاً، الجدية في الحياة هي دأب الأنبياء -صلوات الله وسلامهم عليه-، وأعلاهم في ذلك النبي -عليه الصلاة والسلام-: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ)[مريم:12]..
(وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا)[الأعراف:145].
النبي -عليه الصلاة والسلام- يؤمر بالجدية في الوهلة الأولى عند بواكير الوحي: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا)[المزمل: 1-2].
ثم يأتيه في ثناياه: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)[الحجر: 99].
وفي آخره: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ)[الشرح: 7-8].
نعم الجدية ملازمة للإنسان، هي صفة المؤمن، قال الله -تعالى- عن المؤمنين: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ)[المعارج:32].
واللا جدية، فهي سمة المنافقين لا المؤمنين: (وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ)[التوبة: 65-66].
عدم الجدية ليس سرا إذا قلنا أن عدم الجدية كان سبب هبوطنا إلى الأرض، سبب انتقالنا من منازلنا الأولى، من جنة وارفة الظلال، ذات النعيم المقيم، قال الله -تعالى- في أول معصية: (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا)[طـه:115].
يقول ابن عباس وقتادة في التفسير: "لم نجد له صبرا عن أكل الشجرة، ومواظبة عن التزام الأمر".
عند الصباح يَحْمَد القوم السُّرى *** وتَنجلي عنهم عيابات الكَرى
الهمة الدنية، محل ذم، اللا جدية محل ذم.
إذا أصبح الإنسان من ذلك الركب فسيدخل في عموم: (رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ)[التوبة:87].
وما عجبي أنَّ النساءَ ترجّلتْ *** ولكنَّ تأنيثَ الرجالِ عجابُ
إذا لم تجد في الشباب الإباء *** ففضل عليهم ضعاف النساء
الكسالى الذين لا يريدون العودة إلى مدارسهم، ولا العودة إلى أعمالهم، نقول لهم:
خلق الله للحروب رجالاً *** ورجالاً لقصعةٍ وثريدِ
أسأل الله -عز وجل- أن يقوي عزائمنا، ونستعيذ بالله مما استعاذ منه النبي -صلى الله عليه وسلم.
اللهم إنا نعوذ بك من العجز والكسل.
اللهم ارزقنا همة شريفة، وعملا صالحا.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم