عناصر الخطبة
1/الهدي النبوي في الثبات على الطاعة 2/مدار الثبات حفظُ القلب واللسان 3/من وسائل الثبات على دين الله 4/ثمرات الثبات على الدين 5/من قصص الصالحين في ثباتهم.اقتباس
والثَّبَاتَ عَلَى الدين عَزِيزٌ وَعَظِيمٌ، لاَ سِيَّمَا مَعَ فَسَادِ الزَّمَانِ، وَكَثْرَةِ المُغْرِيَاتِ، وَتَتَابُعِ الشَّهَوَاتِ، وَكَثْرَةِ الشُّبُهَاتِ، وَضَعْفِ المُعِينِ، وَكَثْرَةِ الفِتَنِ التِي أَخْبَرَ عَنْهَا المُصْطَفَى -صلى الله عليه وسلم- بِقَولِهِ: "بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَو يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا؛ يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا"...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:
أيها المسلمون: إِنَّ من دَلِيلُ صِدْقِ الإِيمَانِ الثَّبَاتَ عَلَى دِينِ اللهِ تَعَالَى، وَالمُدَاوَمَةَ عَلَى الطَّاعَةِ، وَالحَذَرَ مِنَ الوُقُوعِ فِي المَعَاصِي وَالمُحَرَّمَاتِ.
والثَّبَاتَ عَلَى الدين عَزِيزٌ وَعَظِيمٌ، لاَ سِيَّمَا مَعَ فَسَادِ الزَّمَانِ، وَكَثْرَةِ المُغْرِيَاتِ، وَتَتَابُعِ الشَّهَوَاتِ، وَكَثْرَةِ الشُّبُهَاتِ، وَضَعْفِ المُعِينِ، وَكَثْرَةِ الفِتَنِ التِي أَخْبَرَ عَنْهَا المُصْطَفَى -صلى الله عليه وسلم- بِقَولِهِ: "بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَو يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا؛ يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا" رواه مسلم.
أيها المؤمنون: لَقَدْ كَانَ مِنْ دُعَاءِ المُصْطَفَى -صلى الله عليه وسلم- فِي صَلاَتِهِ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الأَمْرِ وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ"(النسائيُ وَأحمدُ), وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ-صلى الله عليه وسلم- المُدَاوَمَةُ عَلَى الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ, قالت عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: "كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً", وَيَقُولُ -صلى الله عليه وسلم-: "أَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللهِ تَعَالَى أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ"(متفقٌ عليه).
قَالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ: "مَا المُؤْمِنُ بالذِي يَعْمَلُ الشَّهْرَ أو الشَّهْرَينِ، أو عَامًا أَو عَامَينِ، لاَ وَاللهِ! مَا جُعِلَ لِعَمَلِ المُؤْمِنِ أَجَلٌ دُونَ المَوتِ, ثُمَّ قَرأَ قَولَ الحَقِّ -سُبْحَانَهُ وتَعَالَى-: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)[الحجر:99]".
أيها الإخوة: مَدَارُ الثَّبَاتِ عَلَى دِينِ اللهِ وَالاسْتِقَامَةِ عَلَى طَاعَتِهِ عَلَى أَمْرَينِ عَظِيمَينِ: حِفْظُ القَلْبِ، وَحِفْظُ اللِّسَانِ؛ فَمَتَى اسْتَقَامَا اسْتَقَامَتْ سَائِرُ الأَعْضَاءِ، وصَلَحَ الإِنْسَانُ في سُلُوكِهِ, ومَتَى اعْوَجَّا وَفَسَدَا فَسَدَ الإِنْسَانُ، وضَلَّتْ أَعْضَاؤُهُ جَمِيعًا؛ فعِنْدَ الإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لاَ يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلاَ يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ".
وَالنَّفْسُ الثَّابِتَةُ عَلَى دِينِ اللهِ تَعَالَى قد تزل أو تضعف؛ وَلأَجْلِ هَذَا قال تَعَالَى: (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ)[فصلت: 6], وَهُوَ تَوجِيهٌ إِلَهِيٌّ لِجَبْرِ مَا قَدْ يَحْصُلُ مِنْ ضَعْفٍ أو زلل، وقَدْ أَرْشَدَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أُمَّتَهُ بِقَولِهِ: "اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا" رواه مسلم، وَبِقَولِهِ: "سَدِّدُوا وَقَارِبُوا" متفق عليه، ومعنى سددوا أي "افعلوا الشيء على وجه السداد والإصابة, فإن لم يتيسر فقاربوا والواو هنا بمعنى أو يعني: سددوا إن أمكن وإن لم يمكن فالمقاربة"(ابن عثيمين).
أيها الأحبة: وَإِنَّ للثَّبَاتِ عَلَى دِينِ اللهِ، وَالاسْتِقَامَةِ عَلَى شَرْعِهِ أَسْبَابًا، مَتَى مَا أَخَذَ بِهَا المُسْلِمُ وَحَرِصَ عَلَيهَا ثَبَّتَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى دِينِهِ؛ فَمِنْها:
الإِيمَانُ الصَّادِقُ باللهِ تَعَالَى، وَالاعْتِصَامُ بالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالتَّمَسُّكُ بِهِمَا عِلْمًا وَعَمَلاً؛ فَإِنَّهُمَا النُّورُ الذَي يُهْتَدَى بِهِمَا فِي الظُّلُمَاتِ، وَيُرْجَعُ إِلَيهِمَا عِنْدَ المُلمَّاتِ، وَيُعْتَصَمُ بِهِمَا وَقْتَ الفِتَنِ، مِصْدَاق مَا كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُذَكِّرُ أُمَّتَهُ بِهِ قَائِلاً: "تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَينِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللهِ، وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ"(رواه مالكٌ والحاكمُ).
وَلَقَدْ كَانَ مِنَ الحِكَمِ العَظِيمَةِ التِي نَزَلَ بِهَا القُرْآنُ مُفَرَّقًا التَّثْبِيتُ عَلَى الحَقِّ (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَولا نُزِّلَ عَلَيهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً)[الفرقان:32]، (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)[النحل:102].
وَمِنْ وَسَائِلِ الثَّبَاتِ: كَثْرَةُ العِبَادَةِ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَالمُدَاوَمَةُ عَلَى الطَّاعَةِ وَلَو قَلَّتْ، وَالاقْتِصَادُ فِي السُّنَّةِ، وَالحَذَرُ مِنَ المَعَاصِي وَالمُبْتَدَعَاتِ، وَالاسْتِجَابَةُ للهِ تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ -عَلَيهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ-، وَالعَمَلُ بِمَا يُوعَظُ بِهِ المَرْءُ مِنْ خِلاَلِ آيَاتِ القُرْآنِ وَنُصُوصِ السُّنَّةِ (وَلَو أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا)[النساء:66].
وَمِنْ وَسَائِلِ الثَّبَاتِ: الثِّقَةُ بِنَصْرِ اللهِ تَعَالَى وَوَعْدِهِ لِعِبَادِهِ, وَعَدَمُ الاغْتِرَارِ بالبَاطِلِ وَكَثْرَةِ أَهْلِهِ وَشَوكَتِهِم (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ)[آل عمران:196-197]، وَمَعْرِفَةُ زَيفِ البَاطِلِ وَسُرْعَةِ زَوَالِهِ مَهْمَا عَلاَ وَارْتَفَعَ.
وَبِمِثْلِ هَذَا كَانَ -صلى الله عليه وسلم- يُثَبِّتُ المُسْلِمِينَ عَلَى الحَقِّ فِي أَشَدِّ الظُّرُوفِ، وَأَصْعَبِ المَواقِفِ؛ فَالصَّحَابَةُ يُعَذَّبُونَ أَشَدَّ العَذَابِ وَهُمْ مُسْتَضْعَفُونَ مُطَارَدُونَ, قِلَّة يُنَكِّلُ بِهِمُ المُشْرِكُونَ، وَمَعَ ذَلِكَ يَتَنَزَّلُ القُرْآنُ عَلَى رَسُولِ اللهِ يُبَشِّرُ المُسْلِمِينَ بِالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ، وَهَزِيمَةِ المُشْرِكِينَ (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)[البقرة:214]، (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ)[القمر:45]، (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ)[الصافات:171-173].
وَمِنْ أَعْظَمِ وَسَائِلِ الثَّبَاتِ: الدُّعَاءُ وَالإِلْحَاحُ عَلَى اللهِ فِي الثَّبَاتِ عَلَى الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ (وَمَا كَانَ قَولَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَومِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[آلعمران:147-148].
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ أَكْثَرَ دُعَاءِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ"، فَقَالَتْ لَهُ زَوجُهُ أُمُّ سَلَمَةَ -رضي الله عنها- فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: "يَا أُمَّ سَلَمَةَ، إِنَّهُ لَيسَ آدَمِيٌّ إِلاَّ وَقَلْبُهُ بَينَ أُصْبُعَينِ مِنْ أَصَابِعِ اللهِ؛ فَمَنْ شَاءَ أَقَامَ، وَمَنْ شَاءَ أَزَاغَ"(رواه الترمذيُّ).
وَمِنْ وَسَائِلِ الثَّبَاتِ عَلَى دِينِ اللهِ: المُدَاوَمَةُ عَلَى ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى؛ فَإِنَّهُ الصِّلَةُ العُظْمَى بِاللهِ تَعَالَى، وَمَنْ كَانَ اللهُ تَعَالَى مَعَهُ فَمَعَهُ الفِئَةُ التِي لاَ تُغْلَبُ، وَتَأَمَّلْ -أَخِي المُسْلِمُ- كَيفَ قَرَنَ اللهُ تَعَالَى الذِّكْرَ بِالثَّبَاتِ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ، وَفِي مَوقِفٍ مِنْ أَشَدِّ المَواقِفِ وَأَخْطَرِهَا؟! (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[الأنفال:45].
أيها المؤمنون: وللثبات على دين الله تعالى ثمرات كثيرة يقطفها العبد المؤمن في حياته وبعد مماته؛ فمن هذه الثمرات:
أنها سبب للهِدَايَةِ، حُصُولِ الخَيرَاتِ، وَتَنَزُّلِ الرَّحَمَاتِ، وَبِهِ يَحْصُلُ اليَقِينُ، وَمَرْضَاةُ رَبِّ العَالَمِينَ، وَيَجِدُ المُسْلِمُ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ، وَرَاحَةَ البَالِ، (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)[الزمر:22].
والثَّبَاتَ عَلَى دِينِ اللهِ هُوَ الضَّمَانُ -بِإِذْنِ اللهِ- للحُصُولِ عَلَى الجَنَّةِ وَالمَغْفِرَةِ؛ وَلِذَلِكَ اسْتَحَقَّ الثَّابِتُونَ المُسْتَقِيمُونَ أَنْ تَتَنَزَّلَ عَلَيهِم المَلاَئِكَةُ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا، لِتَطْرُدَ عَنْهُمُ الخَوفَ والحَزَنَ، وَتُبَشِّرَهُم بالجَنَّةِ، (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ *نَحْنُ أَولِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ)[فصلت:30-32].
أيها الأحبة: عَلَى البَاحِثِ عَنِ الثَّبَاتِ أَنْ يَحْرِصَ عَلَى مُرَافَقَةِ الصَّالِحِينَ، وَالالْتِفَافِ حَولَ العُلَمَاءِ الرَّبَانِيِّينَ، الذِينَ يُثَبِّتُونَ النَّاسَ عِنْدَ الفِتَنِ، وَيُؤَمِّنُونَهُم فِي أَزْمِنَةِ الخَوفِ وَالرَّهْبَةِ؛ فَإِنَّ مُجَالَسَتَهُم تَزِيدُ الإِيمَانَ، وتُثَبِّتُ الأَقْدَامَ.
هذا الصِّدِّيقِ -رضي الله عنه- له موقف لاَ يُنْسَى عِنْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فقد ثَبَتَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا مُذَكِّرًا النَّاسَ بِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى الذِي أَخْبَرَ عَنْ وَفَاةِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَحِينَ ثَبَتَ عَلَى الحَقِّ فِي وَجْهِ المُرْتَدِّينَ وَحَارَبَهُم، حتَّى نَصَرَ اللهُ بِهِ الدِّينَ، وَقَمَعَ فِتْنَةَ الرِّدَّةِ.
وَمِنْ أَعْظَمِ مَوَاقِفِ الصَّالِحِينَ فِي تَثْبِيتِ الذِينَ آمَنُوا مَا وَقَعَ للإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ الذِي نَصَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ دِينَهُ فِي فِتْنَةِ القَولِ بِخَلْقِ القُرْآنِ؛ فإنه لَمَّا صَارَ إِلَى رَحْبَةِ طَوقٍ بِالشَّامِ عَرَضَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الأَعْرَابِ، فَقَالَ: يَا هَذَا إِنَّكَ وَافِدُ النَّاسِ، فَلاَ تَكُنْ شُؤْمًا عَلَيهِم، وَإِنَّكَ رَأْسُ النَّاسِ اليَومَ؛ فَإِيَّاكَ أَنْ تُجِيبَهُم إِلَى مَا يَدْعُونَكَ إِلَيهِ! فَيُجِيبُوا فَتَحْمِلَ أَوزَارَهُم يَومَ القِيَامَةِ، وَإِنْ كُنْتَ تُحِبُّ اللهَ فَاصْبِرْ عَلَى مَا أَنْتَ فِيهِ؛ فَإِنَّهُ مَا بَينَكَ وَبَينَ الجَنَّةِ إِلاَّ أَنْ تُقْتَلَ. قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ: "فَكَانَ كَلاَمُهُ مِمَّا قَوَّى عَزْمِي عَلَى مَا أَنَا فِيهِ مِنَ الامْتِنَاعِ عَنْ ذَلِكَ الذِي يَدْعُونَنِي إِلَيهِ. فَكَانَ لِهَذِهِ الكَلِمَاتِ أَثَرٌ عَظِيمٌ فِي ثَبَاتِ الإِمَامِ أَحْمَدَ عَلَى قَولَةِ الحَقِّ".
وَيَقُولُ الإِمَامُ ابنُ القَيِّمِ وَاصِفًا شَيخَهُ ابْنَ تَيمِيَّةَ: "وَكُنَّا إِذَا اشْتَدَّ بِنَا الخَوفُ، وَسَاءَتْ بِنَا الظُّنُونُ، وَضَاقَتْ بِنَا الأَرْضُ، أَتَينَاهُ، فَمَا هُوَ إِلاَّ أَنْ نَرَاهُ، وَنَسْمَعَ كَلاَمَهُ، فَيَذْهَبَ ذَلِكَ كُلُّهُ، وَيَنْقَلِبَ انْشِرَاحًا وَقُوَّةً وَيَقِينًا وَطُمَأْنِينَةً".
وَهَكَذَا يَكُونُ دَورُ الأَخْيَارِ وَالصَّالِحِينَ فِي تَثْبِيتِ المُسْلِمِينَ عِنْدَ الفِتَنِ، وَتَقْوِيَةِ قُلُوبِهِم وَنُفُوسِهِم عِنْدَ المِحَنِ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ عَلَى الحَقِّ ظَاهِرِينَ.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي ولَكُمْ وَلِسَائِرِ المُسْلِمِينَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ
الخطبة الثانية:
الحَمْدُ للهِ وَكَفَى، وَالصَّلاَةُ والسَّلاَمُ عَلَى عِبَادِهِ الذِينَ اصْطَفَى، وبَعْدُ:
أيها المسلمون: ومن قصص الثبات على الدين ما حَدَّثَ به الرَسُولُ اللهِ-صلى الله عليه وسلم-: "لَمَّا كَانَتْ اللَّيلَةُ الَّتِي أُسْرِيَ بِي فِيهَا أَتَتْ عَلَيَّ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، مَا هَذِهِ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ؟ فَقَالَ: هَذِهِ رَائِحَةُ مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَونَ وَأَولاَدِهَا، قُلْتُ: وَمَا شَأْنُهَا؟ قَالَ: بَينَا هِيَ تُمَشِّطُ ابْنَةَ فِرْعَونَ ذَاتَ يَومٍ إِذْ سَقَطَتْ الْمِدْرَى -يَعْنِي المِشْطُ- مِنْ يَدَيهَا، فَقَالَتْ: بِسْمِ اللهِ، فَقَالَتْ لَهَا ابْنَةُ فِرْعَونَ: أَبِي؟ قَالَتْ: لاَ، وَلَكِنْ رَبِّي وَرَبُّ أَبِيكِ اللهُ. قَالَتْ: أُخْبِرُهُ بِذَلِكَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَأَخْبَرَتْهُ.
فَدَعَاهَا فَقَالَ: يَا فُلاَنَةُ، وَإِنَّ لَكِ رَبًّا غَيرِي؟! قَالَتْ: نَعَمْ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللهُ، فَأَمَرَ بِبَقَرَةٍ مِنْ نُحَاسٍ فَأُحْمِيَتْ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا أَنْ تُلْقَى هِيَ وَأَولاَدُهَا فِيهَا، قَالَتْ لَهُ: إِنَّ لِي إِلَيكَ حَاجَةً، قَالَ: وَمَا حَاجَتُكِ؟ قَالَتْ: أُحِبُّ أَنْ تَجْمَعَ عِظَامِي وَعِظَامَ وَلَدِي فِي ثَوبٍ وَاحِدٍ وَتَدْفِنَنَا، قَالَ: ذَلِكَ لَكِ عَلَينَا مِنْ الْحَقِّ.
قَالَ: فَأَمَرَ بِأَولاَدِهَا فَأُلْقُوا بَينَ يَدَيهَا وَاحِدًا وَاحِدًا، إِلَى أَنْ انْتَهَى ذَلِكَ إِلَى صَبِيٍّ لَهَا مُرْضَعٍ، وَكَأَنَّهَا تَقَاعَسَتْ مِنْ أَجْلِهِ، قَالَ: يَا أُمَّهْ اقْتَحِمِي؛ فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الآخِرَةِ؛ فَاقْتَحَمَتْ"(رواه أحمدُ).
اللهُ أَكْبَرُ! مَا أَعْظَمَ إِيمَانِ هَذِهِ المَرْأَةِ! وَمَا أَشَدَّ ثَبَاتِهَا! لَقَدْ كَانَتْ تَعِيشُ فِي قَصْرِ المَلِكِ مُكَرَّمَةً مُعَزَّزَةً، فَأَخْرَجَهَا الإِيمَانُ، وَمَلَكَ عَلَيهَا أَمْرَهَا، وَفِي سَبِيلِ اللهِ يَسْتَرْوِحُ المُؤْمِنُونَ العَذَابَ (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَو كَانُوا يَعْلَمُونَ)[العنكبوت:64].
ثم صلوا وسلموا على الهادي البشير؛ (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
المصدر: الثبات على دين الله تعالى؛ للشيخ د. : ناصر بن محمد الغامدي
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم