عناصر الخطبة
1/ خطورة التكبر على الفرد والمجتمع 2/ أسباب التكبر 3/ أقبح أنواع التكبر 4/ أهمية التواضع وأثره 5/ التواضع خلق الأنبياء والصالحين 6/ بين التواضع والهيبة 7/ تواضع النبي –صلى الله عليه وسلماقتباس
التكبر سبب للعناء والشقاء، وموجب للحرمان من رحمة الله تعالى ورضوانه، على ما فيه من التعالي على الخلق والحق؛ ما يسبب خراب المجتمع إذا فشا فيه، وأصحابُ التكبّر من أهمّ وسائل الهدم في كيان المجتمعات، ولا يزالون يتكبرون ويبحثون عن الأسباب الجالبة لهذا الداء المفسد حتى...
الخطبة الأولى:
أما بعد:
أيها المسلمون: من الأمراض الاجتماعية الخطيرة التي راجت بضاعتها وقامت سوقها وسرت في المجتمعات كسريان النار في الهشيم داء عضال، ومرض وبيل وشر مستطير، ما فشا في مجتمع إلا صدّع بنيانه وقوّض أركانه وقاده إلى الدمار والبوار، وما وقع فيه شخص إلا زعزع حياته وأورده موارد السوء والهلاك وجعله في أسفل السافلين، وإن بدا في نفسه أنه رفيع الجانب مهاب من الناس، ذلكم -يا معاشر المسلمين- هو داء التكبر والعظمة ومرض التعالي والعجب.
عباد الله: التكبر سبب للعناء والشقاء، وموجب للحرمان من رحمة الله تعالى ورضوانه، على ما فيه من التعالي على الخلق والحق؛ ما يسبب خراب المجتمع إذا فشا فيه، وأصحابُ التكبّر من أهمّ وسائل الهدم في كيان المجتمعات، ولا يزالون يتكبرون ويبحثون عن الأسباب الجالبة لهذا الداء المفسد حتى يخفضهم الله تعالى، فلا يبالي بهم في أي أوديته هلكوا. وهل كفر إبليس بربه وأُخرِج من الجنة وطُرِد عن الرحمة وحَقّت عليه اللعنة إلا بتكبّره وعناده وإعجابه بنفسه؟! وهل كَفَر من كَفَر وطَغَى من طَغَى إلا بتكبّرهم على الله تعالى وإعجابهم بما هم عليه من نعمة وصحة؟!
عن سلمة بن الأكوع قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يزال الرجل يذهب بنفسه -أي: يرتفع ويتكبر- حتى يُكتب في الجبّارين، فيصيبه ما أصابهم". قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "التكبر شرّ من الشرك، فإنّ المتكبر يتكبّر على عبادة الله تعالى، والمشرك يعبد الله وغيره، ولذلك جعل الله النار دار المتكبرين، فقال -عز من قائل-: (ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِين) [غافر:76]، وأخبر أن أهل الكبر والتجبر هم الذين طبع الله على قلوبهم فاتبعوا أهواءهم: (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّار) [غافر:35]".
قال الله تعالى: (وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً) [الإسراء:37]، أي: لا تمش في الأرض متبخترًا كمشية الجبارين، فإنك لن تخرق الأرض بمشيك عليها وشدة وطئك، ومهما شمخت بأنفك عاليًا فلن تبلغ الجبال ارتفاعًا.
أيها المسلمون: التكبر خصلة ذميمة تفسد المجتمع الإنساني، وتورث الحرمان الإلهي، وتجلب الشقاء النفسي، وأسبابه في الجملة ترجع إلى شعور المتكبر المغرور بالاستعلاء الذاتي على أقرانه والرغبة في الامتياز على الآخرين والانتفاخ والتعالي عليهم والاستغناء عنهم، إضافة إلى الشعور بالنقص الداخلي مما يدعوه إلى تكميله على حسب نظره القاصر بالتكبر الخارجي، ولذلك كله فإن المتكبرين من أجبن الناس إطلاقًا، ومن أكثرهم جهلاً وأبعدهم عن صفات الشجاعة والمروءة والرجولة، ورحم الله من قال:
كبرًا علينا وجبنًا عن عدوكم *** لبئست الخلتان: الكبر والجبن
ومن أهم أسباب التكبر وأخطرها تزكية النفس وحب الظهور وحكاية الأحوال للغير على وجه المفاخرة والتكاثر والتفاخر بالنسب والأصل والقبيلة أو الوظيفة والمرتبة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يقول الله تعالى: العز إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني فيهما عذبته".
قال الله تعالى: (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) [لقمان:18]، أي: لا تمل خدك وتعرض به عن الناس تكبرًا عليهم، ولا تمش في الأرض متبخترًا معجبًا بنفسك، فإن هذا مما يبغضه الله.
عباد الله: وأقبح حالات التكبر أن يتكبر الفتى من غير سبب يدعوه للتكبر، فهذا من أشر الناس منزلة عند الله يوم القيامة، قال المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر". أي: فقير مستكبر.
ألا ما أقل حظ المتكبرين!! وما أعظم خسرانهم المبين!! فقد خسروا بتكبرهم الإيمان والأعمال الصالحة، وخسروا ما أعده الله للمتواضعين من الثواب والنعيم، وخسروا محبة الناس أجمعين، فالناس جبلوا على محبة المتواضعين ومقت المتكبرين، ومن أظهر من الناس تعظيمهم ومحبتهم، فذلك نفاق وخداع لمصالح معينة يذهب بانقضائها.
عباد الله: علام يتكبر الناس والجميع من تراب؟! وعلام يتجبر المتجبّرون والموت مصرعهم؟! وبماذا يتعالى بعض الناس على بعض والقبور بعد هذه الدار منازلهم؟! كيف يتكبر الإنسان وهو مخلوق ضعيف فقير ناقص من كل وجه؟! فأوله نطفة مذرة، وآخره جيفة قذرة، وبين جنبيه يحمل العذرة.
إن الواجب على المسلم أن يتواضع لعباد الله، ويلين لهم جانبه، ويحب لهم الخير والنصح في كل حالة من أحوالهم، يحترم كبيرهم، ويحنو على صغيرهم، ويوقّر عالمهم، ويحفظ لكل ذي مكانَة منزلته. فقد تكاثرت نصوص الكتاب والسنة في الأمر بالتواضع للحق والخلق والثناء على المتواضعين وذكر ثوابهم في العاجل والآجل، فالعبودية لله وحده وطاعته في أمره ونهيه، كل ذلك خضوع وانقياد للصواب والحق، فإن أعظم الحقوق على العباد حق الله تعالى عليهم أن يعبدوه وحده لا يشركون به شيئًا، فمن خضع لهذا الحق في أصول الدين وفروعه فهو المتواضع الخاضع لله، ومن أعرض عنه وعارضه فهو المتكبر، (وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا) [النساء:172]. قال الله تعالى: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الحجر:88]، وعن عياض بن حمار أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد"، وعن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا، وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله".
تواضع تكن كالنجم لاح لناظر *** على صفحات الماء وهو رفيع
ولا تـك كالدخان يعلو بنفسه *** إلى طبقات الجو وهو وضيـع
أيها المسلمون: إن التواضع خلق الأنبياء والمرسلين -عليهم الصلاة والسلام-، ووصف المؤمنين المتقين يزيد الشريف شرفًا، ويرفع للوضيع ذكرًا وقدرًا حتى يبلغه مقامات الأولياء والأصفياء، ما وُصِل إلى المنازل العالية إلا بتقوى الله تعالى والتواضع، ولا أدركت الأخلاق الجميلة إلا بالانقياد للحق وتعظيم حقوق الخلق، فكم حصل للمتواضع من مودة وصفاء، وكم تم له من محبة وثناء، وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله. وأفضل الناس -عباد الله- من تواضع عن رِفْعة، وزهد عن قُدرة، وأنصف عن قوة. قال الفضيل بن عياض -رحمه الله-: "التواضع أن يُخضِع الرجل نفسه للرجل وينقاد له، ولا يرى لنفسه قيمة، فمن رأى لنفسه قيمة فليس له في التواضع نصيب".
تواضع إذا ما نلت فِي الناس رِفْعة *** فإن رفيع القوم من يتواضع
روى أهل السير أنه كان عند عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- قوم ذات ليلة في بعض ما يحتاج إليه، فغُشي سراجه، فقام إليه فأصلحه، فقالوا: يا أمير المؤمنين: ألا نكفيك؟! قال: "وما ضرّني!! قمتُ وأنا عمر بن عبد العزيز، ورجعتُ وأنا عمر بن عبد العزيز".
الله أكبر -يا عباد الله-! هكذا فهِم المتقون التواضع فطبقوه واقعًا ملموسًا في حياتهم، فعاشوا أصفياء، وماتوا سعداء، لم يعرف التكبر رواجًا عندهم، وقد كانوا يملكون أسبابه ووسائله ودواعيه.
وهذا لا ينافي أن يكون للمؤمن هيبة يحفظ بها قدره، ويصون بها عرضه، فإن من قلّت هيبته قل حياؤه، ومن قل حياؤه قل إيمانه، ومن أكثر من الضحك والمزاح مع الناس استُخِف به واجترأ الناس عليه، والسعيد من جمع بين التواضع والهيبة، فلم يتكبر على عباد الله، ولم يفقد نفسه هيبتها. وهكذا كان السلف -رحمهم الله-.
فقد كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- والذي بلغ من تواضعه أنه كان يتناوب مع خادمه على الركوب على دابة واحدة حين ذهب إلى فلسطين فاتحًا وهو أمير المؤمنين، ولما جاء دوره ليمشي صادف ذلك ساعة الوصول إلى بيت المقدس، وكان في استقباله القساوسة والرهبان، فأبى الخادم أن يركب، لكنّ عمر أصر على عدالة القسمة بينه وبين خادمه، ودخل عمر فلسطين وهو يقود زمام الناقة وعليها خادمه، فما زاده ذلك في أعين القوم إلا إجلالاً وإكبارًا، حتى سُمِع نشيجهم وبكاؤهم لعدل الإسلام ورحمته وتواضع أبنائه. ومع ذلك فقد كان -رضي الله عنه- ذا هيبة ووقار، حتى قال عبد الله بن عباس -رضي الله عنه-: "مكثت سنة كاملة وأنا أريد أن أسأل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عن آية من كتاب الله، فلا أستطيع أن أسأله هيبة له".
(وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا) [الفرقان:63]، قال الله تعالى: (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص:83].
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله-، وليكن لكم في رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة، فقد كان شديد التواضع مع علو قدره ورفعة منزلته، تقول عائشة -رضي الله عنها-: "كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويحلب الشاة لأهله، ويعلف البعير، ويأكل مع الخادم، ويجالس المسكين، ويمشي مع الأرملة واليتيم في حاجتهما".
وعند البخاري من حديث أنس بن مالك قال: "إن كانت الأمة من إماء المدينة لتأخذ بيد رسول الله فتنطلق به حيث شاءت حتى يقضي لها حاجتها".
وكان –صلى الله عليه وسلم- يبدأ من لقيه بالسلام، ويجيب دعوة من دعاه ولو إلى شيء يسير، وكان –صلى الله عليه وسلم- هيّن المؤونة، لين الخلق، كريم الطبع، جميل المعاشرة، طلق الوجه، متواضعًا من غير ذلّة، جوادًا من غير سرف، رقيق القلب، رحيمًا بكل مسلم، خافضًا جناحه لكل مؤمن، يعود المريض، ويشهد الجنازة، ويركب الحمار، وكان يوم بني قريظة على حمار مخطوم بحبل من ليف عليه إكاف من ليف. ودخل عليه رجل وهو يرتعد خوفًا من هيبته فقال له: "هوّن عليك؛ فإني لست بملِك، وإنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة". حتى وصفه الله تعالى بقوله: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [التوبة:159]، قال الله تعالى عنه: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:4].
وهكذا كان صحابته من بعده -رضي الله عنهم وأرضاهم-، أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين، رحماء بينهم. فما بال أقوام لا يساوون عند الله موطئ قدمه –صلى الله عليه وسلم- ولا موطئ قدم أحد من أصحابه، يتكبرون على عباد الله، ويتكلفون الشطط في المعاملة مع الناس، ويرون الناس في أعينهم كأنهم القذى؟!
أيها المسلمون: إن التكبر من الخصال الذميمة والخلال الممقوتة، متوعَّد عليه بالعذاب الشديد من العزيز الحميد، فإن المتكبرين يحشرون يوم القيامة كالنمل -أضعف الحشرات- يطؤهم الناس بأقدامهم كما صح بذلك الخبر عن المعصوم –صلى الله عليه وسلم-، وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر"، فقال رجل: يا رسول الله: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنة! فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس"، أي: إن التكبر إنما هو رد الحق على قائله واحتقار الناس.
فاتقوا الله -عباد الله-، واحذروا من الكبر، وتواضعوا لله تعالى ثم لعباده تفوزوا وتفلحوا.
وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على البشير النذير والسراج المنير محمد بن عبد الله -عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم-.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم