عناصر الخطبة
1/مشقة تقاطع مراضي الله مع مراضي الخلق ووجوب تقديم مراضي الله 2/عواقب تقديم مراضي الخلق على رضا الخالق 3/السبيل لإيثار مراضي الله على مراضي الخلق 4/تقديم المراضي الربانية لا يعني سوء الخلق مع الخلقاقتباس
جرت سنة الله التي لا تبديل لها أن من آثر مرضاة الخلق على مرضاته: أن يُسخط عليه من آثر رضاه، ويخذله من جهته، ويجعل محنته على يديه؛ فيعود حامده ذاماً، ومن آثر مرضاته ساخطاً فلا على مقصوده منهم حصل، ولا إلى ثواب مرضاة ربه وصل، وهذا أعجز الخلق وأحمقهم، هذا مع أن...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الكبير المتعال، ذي العزة والكبرياء والكمال، وأشهد أن لا إله إلا الله ذو القهر والجلال، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى كافة الصحب والآل.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ)[البقرة: 278].
أيها المؤمنون: من أشق مَراهق النفس، وأبينها جلاءً لإيمان القلب، وامتحان خبره؛ حالُ تقاطع مراضي الله مع مراضي الخلق، وتعارضها وتقديم إحداها على الأخرى، سيما مع يُخاف ويُرتجى؛ فذاك موضع يُمتحن فيه صدق الإيمان؛ كما قال الله -تعالى-: (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ)[التوبة: 62]، فلنتبصر حقيقية تلك المراضي، وعاقبتها التي تفضي إليها؛ لنعلم أي الرضاءين أولى بالالتماس والطلب والمصابرة.
كتب معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما- إلى عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنه- أن اكتبي إلي كتابا توصيني فيه، ولا تكثري علي، فكتبت عائشة إلى معاوية: سلام عليك، أما بعد: فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من التمس رضاء الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، ومن التمس رضاء الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس، والسلام عليك"(رواه الترمذي وصححه الألباني)، وفي رواية ابن حبان في صحيحه: "من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله -تعالى- عنه وأرضى الناس عنه، ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس".
أيها المسلمون: اختلفت الغايات؛ فتباينت النتائج والثمار، حين كان طلب العبد مرضاة ربه الغاية، واحتمل في سبيلها مساخطَ الخلق ونفارهم وسوء فعالهم؛ كان الله وليه الذي علّق رجاءه فيه؛ فما خاب فيه ذلك الرجاء؛ إذ فاز برضاه، وكان من آثار ذلك الرضا الرباني أن كفاه مشقة مخالفة الخلق، وأعانه على تخطي تلك العقبة الكأداء التي طالما أضلت جِبّلاً كثيراً من الناس، مع ما غمر به روح ذاك الرضيّ من استغناء وطمأنينة وانشراح؛ فلا تذله حاجة إلى أولئك الساخطين، ولا تبرّحه آلام مباينتهم وجهلهم، وما ينتظره من عقبى الظهور عليهم والنصر، وانقلاب بغضهم له محبة، وتحول نفارهم إلى قرب وتودد، وذيوع لسان الصدق له وطيب الثناء عليه في المجالس التي طالما مُلئت بسبه والنيل من عرضه. كل ذلك إنما كان بسبب ولاية الله له حين آثر مرضاته على مرضاة خلقه، وكان لسان حاله كما قال القائل:
فليتك تحلو والحياة مريرة *** وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر *** وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هيّن *** وكل الذي فوق التراب تراب
عباد الله: وبالضد من ذلك إن آثر العبد مراضي الخلق على رضا الخالق؛ تعجلاً لسراب حظوة لاح له عندهم، أو استبقاءً لجاهه من أن يهتز لديهم، أو كان دافعه حمية جاهلية، أو غالبته العاطفة في مسايرتهم في أهوائهم -فإن الله يعامله بنقيض قصده حين سخط عليه، وكان من آثار ذلك السخط أن وكله الله إلى من آثر رضاهم؛ فمزقته أغراضهم المتشاكسة المتقلبة التي لا تتناهى؛ فله في كل يوم وجه يصانع به من يلتمس رضاه، ثم ينقض ذلك الحال بضده؛ تبعاً لرضا من آثر رضاه، ولا بد يوماً من سخطه عليه؛ لما استقر في الفِطر من سقوط مكانة المتملِّق من الأعين ومهانته في القلوب حتى عند من آثر رضاهم، يقول ابن القيم: "وقد جرت سنة الله -التي لا تبديل لها- أن من آثر مرضاة الخلق على مرضاته: أن يُسخط عليه من آثر رضاه، ويخذله من جهته، ويجعل محنته على يديه؛ فيعود حامده ذاماً، ومن آثر مرضاته ساخطاً؛ فلا على مقصوده منهم حصل، ولا إلى ثواب مرضاة ربه وصل. وهذا أعجز الخلق وأحمقهم. هذا مع أن رضا الخلق لا مقدور، ولا مأمور ولا مأثور؛ فهو مستحيل، بل لا بد من سخطهم عليك، فلأن يسخطوا عليك وتفوز برضا الله عنك أحب إليك وأنفع لك من أن يسخوا عليك، والله عنك غير راض".
وقال بعض السلف: "لمصانعة وجه واحد أيسر عليك من مصانعة وجوه كثيرة؛ إنك إذا صانعت ذلك الوجه الواحد كفاك الوجوه كلها".
وقال الشافعي: "رضا الناس غاية لا تدرك؛ فعليك بالأمر الذي يصلحك فالزمه، ودع ما سواه فلا تعانه؛ فإرضاء الخلق لا مقدور ولا مأمور، وإرضاء الخالق مقدور ومأمور".
وقال رجل لعمر بن عبد العزيز: "عليك بما يبقى لك عند الله؛ فإنه لا يبقى لك ما عند الناس".
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله...
أما بعد: فاعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله...
أيها المؤمنون: إن سبيل إيثار مراضي الله على مراضي الخلق إنما يكون بعمارة القلب بالإيمان، وذكر عاقبة ذلك الإيثار في الدنيا والآخرة، وملاك ذلك كما قال ابن القيم: "أمران: الزهد في الحياة والثناء؛ فما ضعف من ضعف، وتأخر من تأخر إلا بحبه للحياة والبقاء، وثناء الناس عليه، ونفرته من ذمهم له، فإذا زهد في هذين الشيئين، تأخرت عنه العوارض كلها".
ولا تلازم بين إيثار المراضي الربانية والقسوة مع الخلق وسوء الخلق معهم والغلظة في القول؛ فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أقوم الناس بحق ربه وإيثار مراضيه وكان أحسن الناس خلقاً، وألينهم عريكة، وأعفهم قولاً، وألينهم تعاملاً، لكن ذلك ما دعاه يوماً إلى تلمس رضا الخلق إن كان في إرضائهم سخط الخالق.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم