التعلق بالذوات وخطره على الفرد

محمد بن إبراهيم الشعلان

2022-10-07 - 1444/03/11
التصنيفات: أحوال القلوب
عناصر الخطبة
1/ خطورة التعلق المذموم بالذوات 2/ صوره 3/ استغلال الأعداء له 4/ أسبابه 5/ آثاره

اقتباس

إن من أخطر الأمور التي تواجه العبد المسلم في هذه الحياة، أمر التعلق بالذوات، وأعني به -عباد الله- التعلق بما سوى الله -عز وجل- من آدميين وغيرهم، فالتعلق بغير الله -عز وجل- خطره عظيم، وعاقبته وخيمة، قال الله -عز وجل- عن المشركين: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) [البقرة:170]..

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

 

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله الله بالهدى ودين الحق، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

 

أما بعد: فاتقوا الله عباد حق التقوى، واعتصموا بكتاب ربكم وسنة نبيكم فإن أجسامكم على النار لا تقوى، واستعدوا ليوم ترجعون فيه إلى الله، ثم توفى كل نفس ما كسبت ولا تظلم شيئاً، قال -سبحانه وتعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

 

عباد الله: إن من أخطر الأمور التي تواجه العبد المسلم في هذه الحياة، أمر التعلق بالذوات، وأعني به -عباد الله- التعلق بما سوى الله -عز وجل- من آدميين وغيرهم، فالتعلق بغير الله -عز وجل- خطره عظيم، وعاقبته وخيمة، قال الله -عز وجل- عن المشركين: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) [البقرة:170]، وقال -سبحانه وتعالى-: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [الأعراف:28].

 

وهذا التعلق المذموم هو الذي يجعل صاحبه يتعلق بغير الله -عز وجل- تعلقا ذاتيا متبعا فيه هواه وما أعجب به من غيره ممن تعلق به، فمنهم من يتعلق بغيره لحسن صورته وبهائه، ومنهم من يتعلق به لحسن بيانه وسحر كلامه، ومنهم من يتعلق بغيره لقوته وشجاعته وإقدامه، ومنهم من يتعلق بغيره لقوة شخصيته وهيبته.

 

وهذا التعلق يوقع في محاذير كثيرة، ومنكرات وقبائح، إذ إن أساس هذا التعلق هو الهوى والعُجب، والجهل والضلال، وليس الهدى والرشد، والعلم والحق، إذ لو كان أساسه الهدى والرشد والعلم والحق لكان محبة لا تعلقا، ولو كان باعثه الإيمان الصادق الصحيح بالله -عز وجل-، وما يتصف به المتعلق به من صفات الخير والرشد، لكان موالاة ومودة في الله -عز وجل- لا لذات الشخص، فتقوى هذه الولاية وهذه المودة بقوة إيمان وخيرية من حصلت له الموالاة والمودة، وتضعف بضعف الإيمان والخيرية.

 

ولكن أكثر الناس اليوم وقعوا في التعلق المذموم الذي أوقع أحيانا في الشرك بالله -عز وجل-، وفي كثير من البدع والخرافات، وفي كثير من الفواحش والمنكرات، فما الذي أوقع كثيرا من المسلمين في التصوف المذموم، تصوف أهل البدع والشركيات، إلا هذا التعلق المذموم الخاطئ بالذوات البشرية المتصفة بالجهل والضلال والتلبيس على العوام وأهل الجهل والضلال؟ وما الذي أوقع طائفة منهم في عبادة القبور ودعاء أهلها من دون الله والطواف بقبورهم إلا بسبب هذا التعلق المذموم؟ وما الذي أوقع كثيراً من المسلمين في التعصب الأعمى للأقوال والآراء بصرف النظر عن مطابقتها للحق والصحيح والعقل وتفرقهم بسبب هذا التعصب وتسفيه بعضهم بعضا وحمل الحنق في القلوب بعضهم على بعض، إلا بسبب هذا التعلق المذموم؟.

 

ولذا ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أهل الفناء المذموم، وبين ما نتج عنه هذا الفناء، وهو التعلق الشديد بالذوات.

 

وذكر أن شيخاً من أهل التصوف ألقى نفسه في البحر، فقام تلميذه أو مريده بإلقاء نفسه وراءه، فقال له شيخه: لماذا ألقيت بنفسك في البحر؟ فقال: غبت بك عني فظننت أنك أني!.

 

حتى إننا نرى من يتعلق بمن ليس عنده علم مؤصل ولا غور في الفقه الشرعي، بل وليس على وتيرة واحدة ومنهج واحد، حتى يرى ما يراه ويعتقد ما يعتقده ولو كان ذلك مجانباً للصواب أو منافيا للأصول الشرعية والقواعد الكلية.

 

وما الذي جعل طائفة من الناس تقتل نفسها أو تجرح نفسها إذا مات من تعلقت به إلا هذا التعلق المذموم، تعلق أهل الجهل والضلالة، وأهل العمى والغواية؟.

 

هذا التعلق -عباد الله- تعدى من التعلق بالبشر إلى التعلق بالجمادات والصور والإرادات، فنرى من يتعلق تعلقا كبيراً بمنظر المياه وهي تجري في جدوالها أو أنهارها، حتى لا يكاد يصبر عن النظر إليها بل والسفر من أجل رؤيتها والتلذذ بها، ونرى من يتعلق بمنظر الخضرة والأزهار والطيور، ونرى من يتعلق بألعاب وملهيات حتى استولت على قلبه وعقله، فأوقعته في أمور خطيرة تنافي الدين أو تضاده أو تنقصه وتضعفه والعياذ بالله، ونرى من يتعلق بالمادة تعلقاً شديداً حتى يقدمها على نفسه وأهله بل وعلى دينه، فيبيع شيئاً من دينه بعرض منها قليل، ويضيع كثيرا من واجباته بسببها.

 

وقد تنبه أعداء الدين لهذا الأمر الهام، فجعلوه هدفاً لهم في المسلمين، وسخروه أداة لإغواء المسلمين وإضلالهم وصدهم عن دينهم، فأغرقوا المسلمين بالماديات وهي تلكم الشهوات المتنوعة، شهوة المال وشهوة الجنس وشهوة المنصب وشهوة الألعاب المتنوعة، وتفننوا في عرضها على المسلمين، فعرضوها بأساليب ماكرة وأشكال مغرية وأحاطوها بسياج المتعة واللذة، حتى تتعلق بها قلوب المسلمين تعلقا كاملا ينسيهم هدفهم في هذه الحياة، ويشغلهم عما يفعله أعداء الإسلام بالمسلمين وبلادهم، ويلهيهم عما يخطط له أعداء الإسلام للقضاء على المسلمين وبلادهم، وقد حصل لهم ما أرادوا في كثير من المسلمين.

 

والدليل على هذا هو حصول التفرق بين أكثر المسلمين أفرادا وجماعات وبلاداً، وامتلاء القلوب بالحقد والبغضاء بعضهم على بعض، حتى صاروا يختلفون ويتعادون على أتفه الأمور وأقل الأسباب، فهذا التعلق -عباد الله- سببه الأعظم هو الجهل بالله -عز وجل-، والجهل بشرعه، فهذا الجهل هو السبب الكبير في حصول هذا التعلق الخاطئ.

 

ومما زاد هذا الجهل والعمى التربية الفاسدة، فإن كثيراً مِن مَن وقع في هذا التعلق الخاطئ تعرض... لــلخلطة الفاسدة، فنشأ الواحد منهم في أسرة أهملت تربيته تربية إسلامية، فأعرضت عن تربية قلبه وعقله بالهدى ودين الحق، وأقبلت على تربية بدنه وصورته بالطعام والشراب والكساء، حتى نشأ صورة وجسما بلا عقل وقلب، وقد ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه"، وتعرض الواحد منهم لخلطة فاسدة وصحبة سيئة حسنت له القبائح، وزينت له الماديات، ومهدت له طريق التعلق بها وحبها.

 

وقد قال -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الصحيح: "مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحا خبيثة".

 

ويضاف إلى هذا -عباد الله- الزخم الهائل من تلكم القنوات الفضائية التي تفننت في بث الشرور والآثام، وتحسين القبائح وتجميل الدنيا في النفوس حتى تتعلق بها تعلقا كاملاً، فتنسى ربها وتنسى الدار الآخرة، وتنسى آلام المسلمين في بقاع الأرض التي وقعت عليهم من أعدائهم.

 

هذا -عباد الله- سبب هذا التعلق المذموم، التعلق بغير الله -عز وجل-، وهو من أعظم مفسدات القلب على الإطلاق، كما ذكر ابن قيم الجوزية فقال: فليس عليه أضر من ذلك، ولا أقطع له عن مصالحه وسعادته منه، فإنه إذا تعلق بغير الله وكله الله إلى ما تعلق به، وخذله من جهة ما تعلق به، وفاته تحصيل مقصوده من الله -عز وجل- بتعلقه بغيره، والتفاته إلى سواه، فلا على نصيبه من الله حصل، ولا إلى ما أمله ممن تعلق به وصل... قال -تعالى-: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) [مريم:81-82]، وقال -تعالى-: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ * لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) [يس:74].

 

فأعظم الناس خذلانا من تعلق بغير الله؛ فإن ما فاته من مصالحه وسعادته وفلاحه، أعظم مما حصل له ممن تعلق به، وهو معرض للزوال والفوات، ومثَل التعلق بغير الله كمثل المستظل من الحر والبرد ببيت العنكبوت، أوهن البيوت.

 

فالواجب علينا -عباد الله- أن نحذر هذا التعلق المذموم الذي ليس لصاحبه منه إلا الذم والخذلان، ونتعلق بالله -عز وجل-، ونتوكل عليه، ونفوض أمورنا إليه، وأن نحب في الله ونبغض فيه، وأن نسخّر الماديات لخدمة الدين وتقوية حملته، والذابين عنه المدافعين عنه، ونجعل الدنيا في أيدينا لا في قلوبنا.

 

اللهم إنا نسألك أن تقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أبقيتنا واجعله الوارث منا، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا إلى النار مصيرنا.

 

 

الخطبة الثانية:

 

عباد الله: قال ابن القيم الجوزية -رحمه الله-: وأساس الشرك وقاعدته التي بني عليها التعلق بغير الله، ولصاحبه الذم والخذلان، كما قال -تعالى-: (لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا) [الإسراء:22]، مذموماً: لا حامد لك، ومخذولا لا ناصر لك.

 

فلنحذر -عباد الله- من هذا الأمر، ولنتسلح بالعلم النافع والعمل الصالح، ولْنخش الله -عز وجل- حق خشيته، ونقدره حق قدره.

 

قال أحدهم:  

لو أبصرت عيناك بعض جماله *** لبذلـت منـه الروح في إرضـائه

ما طابت الدنيـا بغير حديثـه *** كلا ولا الأخــرى بغيـر لقائه

يا خاســـرا هانت عليه نفسه *** إذ باعها بالهيْن من أعــدائـه

لو كنت تعــلـم قدر ما قد بعته *** لفسخت ذاك البيع قبل وفائه

أو كنـت كفوا للرشاد وللهدى *** أبصرت لكن لست من أكفائه

 

 

 

 

المرفقات

بالذوات وخطره على الفرد

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات