عناصر الخطبة
1/ تعظيم شعائر الله من أعلى مراتب التقوى 2/ حجّ بيت الله الحرام فضائل وأحكام 3/ خطورة ترك الحج مع القدرة 4/ أعظم مظاهر الحج المبرور.اقتباس
حجّ بيت الله الحرام أحد أركان الإسلام العظام، فرضه الله على من استطاع إليه سبيلا من عباده مرة في العمر، لا ليستكثر بهم من قلّة، ولا ليستعزّ بهم من ذلة، فهو الغنيّ الحميد، وإنما ليمنّ عليهم بنعمته، وليتفضل عليهم برحته، فمن أطاعه رشد، ومن كفر فلن يضرّ إلا نفسه ولا يضرّ الله شيئا.
الخطبة الأولى:
عباد الله، لقد أكرم الله هذه الأمة بتتابع مواسم الخيرات عليها، وبتعاقب أيام الرحمات وتعدّد أسباب الفوزِ بالجنات، وها هي الأيام تمضي متسارِعة، يحدوها شوقها المتوقِّد إلى الموسم العظيم والمحفل الكبير الذي شرّفه الله وعظّمه، بل جعل تعظيم شعائره من أعلى مراتب التقوى وأزكاها، (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج: 32].
ومن تعظيم الله لهذا الموسم الذي أقبلت علينا أيامه وتشوّفت نفوس المؤمنين لتفيّؤوا ظلاله أنه قد اختصه الله -عز وجل- من دون ما سواه من المواسم أنه لم يوكّلَ شرف إعلام الناس به ودعوتهم إليه إلاّ إلى خليله وصفيّه وخيرة خلقه بعد نبيِّنا محمد أبينا إبراهيم -عليه السلام-، (وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) [الحج: 26، 27].
حجّ بيت الله الحرام أحد أركان الإسلام العظام، فرضه الله على من استطاع إليه سبيلا من عباده مرة في العمر، لا ليستكثر بهم من قلّة، ولا ليستعزّ بهم من ذلة، فهو الغنيّ الحميد، وإنما ليمنّ عليهم بنعمته، وليتفضل عليهم برحته، فمن أطاعه رشد، ومن كفر فلن يضرّ إلا نفسه ولا يضرّ الله شيئا.
وقد روي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قرأ قوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ) [آل عمران: 87] فقام رجل فقال: يا رسول الله، من تركه كفر؟ فقال : "من تركه لا يخاف عقوبتَه ومن حجَّ لا يرجو ثوابه فهو ذاك"، وقال عمر الفاروق -رضي الله عنه-: "لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فلينظروا كلّ من كان له جِدة ولم يحج فيضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين"، وقال -رضي الله عنه-: "من استطاع الحج ولم يحجّ فسواء عليه يهوديًا مات أو نصرانيًّا"، وقال ابن عمر -رضي الله عنهما-: "ومن مات وهو موسر ولم يحجّ جاء يوم القيامة وبين عينيه مكتوب كافر".
أيها المسلمون، الحج بالنسبة للمسلم رحلة لا ككلّ الرحلات، وسفر لا يماثله سفر، بل قد يفوز الحاج بحجّه ذاك بجنة عرضها الأرض والسموات، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، قال : "الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" رواه مسلم. والحج المبرور - عباد الله - هو الذي يكون صاحبه قد أخلَصه لله -عز وجل- وتابع فيه نبيه محمد .
ولعلنا - عباد الله - نستعرض بعضًا من مظاهر الحجّ المبرور كما جاءت عن نبينا؛ علّنا نقتفي أثره ونسلك سبيلك، فنحظى بشفاعته ونفوز بطاعته.
فمن أعظم تلك المظاهر هي إعلان التوحيد لله -عز وجل- في الحج والقيام به ظاهرًا وباطنًا قولاً وعملاً؛ ولذلك ابتهل النبي -صلى الله عليه وسلم- في بادئ حجه إلى ربه جل وعلا قائلاً: "اللهم حجّة لا رياء فيها ولا سمعة"، وأهلّ بالتوحيد قائلاً: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك"، وجعل ذلك شعارًا للحاجّ حتى يرمي جمرة العقبة؛ ليستحضر الحاجّ توحيد الله -عز وجل- قاعدًا وقائمًا ماشيًا وراكبًا. ولما أقبل على الصفا جهر بشهادة التوحيد مرة أخرى قائلاً: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده".
ومن أعظم مظاهر الحجّ المبرور الإكثار من الدّعاء والابتهال والتضرّع إلى الله -عز وجل- وسؤاله من خيري الدنيا والآخرة، والدعاء نوعان لا يكمل أحدهما إلا بالآخر: فالأول: الثناء على الله -عز وجل- بما هو أهله من أسماءه الحسنى وصفاته العليا، والثاني: سؤال العبد حاجته من ربه -عز وجل- وإظهار الافتقار إليه والخضوع والخشوع له سبحانه.
وقد ألحّ النبي -صلى الله عليه وسلم- على ربّه بالدعاء والتضرّع في مواطن عدة في حجه: على الصفا، وعلى المروة، وفي عرفة، وعلى المشعر الحرام في مزدلفة، وبعد رمي الجمرة الصغرى، وبعد رمي الجمرة الوسطى في سائر أيام التشريق، وقال : "خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيّون من قبلي عشية عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير".
ومن أعظم تلك المظاهر متابعته في حجه والاقتداء به في كلّ ما يقول ويفعل، وفي كل ما يدع ويترك، وقد أدرك الصحابة رضوان الله عليهم ذلك، فلما أذن الرسول بالحج في السنة العاشرة من الهجرة قدم المدينة بَشرٌ كثير، ولم يبق أحد يقدر أن يأتي راكبًا أو راجلاً إلا قدم، كلّهم يلتمس أن يأتمّ به ويعمل مثل عمله. (رواه مسلم).
ويصف جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- ذلك المشهد العجيب والموكب النبويّ المهيب حين استوت بالنبي -صلى الله عليه وسلم- ناقته على البيداء قائلا: فنظرت إلى مدّ بصري بين يديه من راكب وماشٍ، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أظهرنا، والقرآن ينزل، وهو يقول : "لتأخذوا عني مناسككم؛ فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا"، قال جابر: وما عمل بشيء إلا عملنا به. (رواه مسلم).
ولم يكن الصحابة -رضي الله عنهم- إذا أمرهم الرسول بشيء يسألونه: أواجب هذا أم سنة؟ أو إذا نهاهم عن شيء يقولون: أمحرم هذا أم مكروه؟ بل كانوا يمتثلون أمره وينتَهون بنهيِه.
اللّهمّ إنّا نسألك حجًا مبرورًا وسعيًا مشكورًا وتجارة لا تبور يا عزيز يا غفور، اللهم اغفر لنا وللسامعين، واجمعنا بهم في جنات النعيم، إنك أنت الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد: أيها المسلمون، إن من أعظم مظاهر الحج المبرور وأشرف مقاصده ذكر الله -عز وجل-، ويلحظ المتدبّر لآيات الحجّ تكرار الأمر بالإكثار من ذكر الله -عز وجل- أثناء المناسك وعقيبها، قال تعالى: (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضَّالِّينَ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) [البقرة: 198-200].
وقال : "إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله في الأرض" رواه الترمذي، وقال "أفضل الحجّ العجّ والثجّ"، وقال له جبريل -عليه السلام-: "كن عجاجا ثجاجا" رواه أحمد. والعجّ: رفع الصوت بالتلبية، والثجّ: إهراق دم الهدي.
ثم إن من عزم على حج بيت الله الحرام واقتفى سبيل الرسل عليهم الصلاة والسلام فليحذر من مفسدات الحج ومن محظوراته ومنكراته، وقد جمعها الله -عز وجل- في قوله: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) [البقرة: 197]. والرفث: هو الجماع وكلّ ما يتعلّق به من مقدّماته من قول أو فعل أو حديث عنه، والفسوق: كل معصية ومنكر، والجدال: أن تجادل صاحبك وتراجعه في الكلام فيما لا حاجة إليه ولا فائدة منه حتى تغضبه ويغضبك. قال : "من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه" (رواه أحمد).
اللهم إنا نسألك حجا مبرورا لا رفث فيه ولا فسوق ولا جدال، نفوز فيه بطاعتك، وتغشانا فيه برحمتك، وتدخلنا به جنتك، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
هذا، وصلوا وسلموا - عباد الله - على النعمة المهداة والرحمة المسداة محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.
اللهم صل وسلم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم