عناصر الخطبة
1/نعم الله لا تحصى 2/ شكر النعم وكفرانها 3/ ذكر بعض نعم الله على عباده 4/ أعظم النعم نعمة الإسلام 5/ بماذا يكون شكر النعم ؟ 6/ عجز العبد عن مكافأة نعم الله عليه .اهداف الخطبة
التذكير ببعض نعم الله على عباده / بيان الطريق إلى شكر النعم / التأكيد على عجز العبد عن مكافأة نعم الله عليه .عنوان فرعي أول
وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوهاعنوان فرعي ثاني
حكمة الإنعامعنوان فرعي ثالث
الشكر يكون بثلاثاقتباس
وأجلُّ النِّعَم ـ يا عبادَ الله ـ دينُ الإسلام، فلولا الدّين الإسلاميُّ لصار الناسُ كالعَجماوَاتِ، لا يعرفون معروفًا، ولا ينكِرون منكَرًا، ولأكَل القويّ الضعيفَ، ولصَبَّ الله العذابَ على الناس من فوقِهِم، وأرسل عليهم العقوبةَ من تحت أرجلهم، ولولا الإسلامُ لما اطمئنَّت الجنوبُ في المضاجع، ولما جفَّت الأعين مِنَ المدامع، ولانحَطَّ النوع الإنسانيّ في منزلة البهائِمِ التي تتسَافد في الطّرُقات.
أما بعد: فاتَّقوا الله عبادَ الله، اتقوا الله تعالى وخافوا يومَ لقائِه؛ فإنه قائم على كلّ نفس بما كسَبَت.
عبادَ الله، إنَّ لله على عباده نِعمًا لا تحصَى وخيراتٍ لا تستقصَى، تفضَّل الله بهذه الخيرات والنِّعَم على خَلقِه، ووَعَد عبادَه الزيادةَ إن هم شكَروه، وضمِن لهم بقاءها واستمرارَها إن هم أطاعوه، فقال تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم:7]
وهباتُ الله تعالى وعطاياه ظاهرةٌ وباطنة، جليّة وخفيّة، معلومة ومجهولَة، كما قال عزّ وجلّ: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) [لقمان:20].
ونِعمةُ الله على ابنِ آدم في حُسنِ خَلقِه وتناسُب أعضائِه وشرَف هيئتِه، قال الله تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) [التين:4]. ونعمةُ الله على عبادِه في تعليمِهم الحلالَ والحرام، والخيرَ من الشرّ، والهُدى من الضلال، والتفضُّل عليهم بالسمعِ والبصَر والعقل، قال الله تعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل:78]. ونِعَم الله على عبادِه في المأكَل بإخراجِ أصناف النّباتِ الناحِل الضعيفِ مِن باطن الأرضِ الصّلبة، وحِفظِه من الآفات، وإمدادِه بأسباب الحياة من الضّوء والماء والهواء وغير ذلك؛ حتّى يعطيَ ثمرَه حبًّا مأكولاً أو فاكهَةً نضيجَة أو بقولاً طريّة نافعة، قال الله تعالى: (وَآيَةٌ لَهُمْ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ) [يس:33-35]، فالحمدُ لله على فضله، والشّكرُ له على جزيلِ منّته أبدًا، وقال تعالى: (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) [المؤمنون:21].
ونِعَم الله على خلقه في شرابِهم بإنزالِه الماءَ عذبًا فُراتًا على قطَراتٍ بقَدر حاجة العباد حتَّى لا يضرَّهم في معاشهم، ثم حفظه في طبَقَة الأرض القريبَة ليستخرِجوه وينتفِعوا به وقتَ الحاجَة، قال الله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنْ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ) [الواقعة:68-70]، ويقول تعالى: (وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) [المؤمنون:18، 19].
ونِعَم الله على عبادِه في الملابِسِ بما أخرجَه الله للنّاس من أصنافِ اللّباس واختلافِ ألوانِه وتعدُّد منسوجَاتِه من ليِّنٍ رقيق وغليظٍ كثيف وما بين ذلك، يستر به الإنسانُ عورتَه، ويتجمَّل به بين الناسِ، ويدفع به الحرَّ والبرد عن نفسِه، قال الله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ) [الأعراف:26]، ويقول تعالى: (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) [النحل:81]، والسّرابِيل هي الألبِسَة والثيابُ التي تقِي من الحرِّ والبرد، والسّرابيل التي تقي من البأسِ هي الدروعُ من الحديد ونحوه، وفي الحديث القدسيّ عن الربِّ تبارك وتعالى أنه قال: "يا عبادي، كلّكم عارٍ إلا من كسَوتُه، فاستكسوني أكسُكم".
ونِعمةُ الله على عبادِه في المساكن التي يأوُون إليها، ويطمئِنّون فيها، وتستُرهم عن الأعين، وتضُمّ أموالهم، وتُريح أبدانَهم من العَناء، وتدفع عنهم عادِيات المنَاخ من الحرِّ والبرد والمطَر، فيشعُر الإنسان بالسّكون والأنس والاستقرارِ النفسيِّ والهدوء العصبيِّ والسعادة القلبيةِ والأمنِ على نفسه وأهلهِ وماله، وقد رحِم الله هذا الإنسانَ فلم يجعله مشرَّدًا بلا مأوى، ولم يجعله تائِهًا بلا مَسكَن، قال الله تعالى: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ) [النحل:80].
وإذا كانَتِ البيوت من جلودِ الأنعام نعمةً عظمى ومنَّة كبرى فإنَّ أعظمَ منها نِعمة القصورُ الشاهِقة والبيوت الأنيقة والأبنيَة الفَخمة التي أخرَجَها الله في هذا الزّمانِ، ويسَّر لها ما يرتَفِق به الناسُ، وجمَع الله في هذه البيوتِ الماءَ البارد والدافئ والنورَ التّام والاتصالَ السريع والأثاثَ الثّمين والتّكييفَ النافع، فلا يخشَى صاحبُها أن يخرَّ عليه السقفُ من المطر، ولا يخاف أن تزعزِعَه العواصف، (وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا) [إبراهيم:34].
ونعمةُ الله على عباده بالأهلِ والوَلد بأن جعلَ الزوجَ من نفسه وجِنسه، لا من جنسٍ آخر، وذلك ليتمَّ المقصود من التآلُف والتعاوُن والتفاهُم، ورزق من يَشاء الولَدَ امتدادًا لحياةِ الوالدين ونفعًا لهما في الحياةِ وبَعد الممات، يقول الله تعالى: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ) [النحل:72].
ونِعمةُ الله على عبادِه في المراكِبِ الفارِهة التي تحمِل الأثقالَ مِن بلدٍ إلى بلَد، وتنقل الإنسان إلى مقصدِه وتوصِله إلى غايته. وفي السفُن التي تجري في البحرِ بأمرِ الله وتحمِل البضائعَ والأرزاق والمنافع يقول الله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) [غافر:79، 80].
وإذا كان ركوب الأنعامِ والسّفن الشراعيّة والانتقالُ عليها فيما مضى نعمةً كبيرة، فإنَّ أعظمَ من ذلك نعمةً رَكوبُ وسائلِ النَّقل الحديثَة التي خَلَقها الله، فراكِب الطائرة والسيّارة يقطَع في ساعة وساعات معدودة ما كان يقطعُه في أشهر وأيّام فيما مضى، وهو في سَفَره وتنقُّله لا يشعر بالوَحدة، ولا يتعرَّض لوهَج الشّمس، ولا يَلفَحه لهَب الصحراء، ولا يحرِق جَوفَه الجوع والظمأُ، ولا يناله نَصَبٌ ولا تعب، ولا يخاف قاطِعَ طريق، ولا يضرُّه هُطول المطَر، ولا يؤذيه البردُ والحرّ، بل يكون سفرُه تنزُّهًا وتنقُّله تمتّعًا، يَسبِق الريحَ في جَرَيانها، ويخلِّف الطيرَ السابِحَ وراءَه في الفضاء، (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الجاثية:13].
والسّفُن العِظام التي تمخُر المحيطاتِ بما يَنفع الناسَ أعظَمُ نعمةً مما عَرَفه الناس قديمًا؛ فإنَّ ما تحمِله الواحدةُ من هذه قد يكفِي شعبًا كاملاً، فسبحانَ مَن في السماءِ عرشُه وفي الأرض سلطانُه وفي البحرِ سبيله وفي الجنّة رحمته وفي النارِ عذابُه.
ونعمَة الله على ابن آدَم في تسخيرِ الملائكة، قال الله تعالى: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) [الرعد:11]، أي: بأمر الله عز وجل، (وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) [إبراهيم: 33]. فنِعمةُ الله عزّ وجلّ في تسخيرِ هؤلاء الملائكة الذين يحفَظ الله بهم بدَنَه وروحَه من كلِّ من يريد بهم سوءًا، فإذا جاءَ قدَر الله تخلَّوا عنه.
والغايَةُ من النِّعَم والحِكمَة من تفضُّل الله على خَلقِه بأنواع العطايا والهِبات هي أن يشكُروه ويسلِموا له ويحمَدوه عزّ وجلّ ويعبدوه لا يشركونَ به شيئًا كما قال عزّ وجلّ: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) [النحل:81].
وأجلُّ النِّعَم ـ يا عبادَ الله ـ دينُ الإسلام، فلولا الدّين الإسلاميُّ لصار الناسُ كالعَجماوَاتِ، لا يعرفون معروفًا، ولا ينكِرون منكَرًا، ولأكَل القويّ الضعيفَ، ولصَبَّ الله العذابَ على الناس من فوقِهِم، وأرسل عليهم العقوبةَ من تحت أرجلهم، ولولا الإسلامُ لما اطمئنَّت الجنوبُ في المضاجع، ولما جفَّت الأعين مِنَ المدامع، ولانحَطَّ النوع الإنسانيّ في منزلة البهائِمِ التي تتسَافد في الطّرُقات.
إنَّ الإسلام ـ يا عبادَ الله ـ هو المنّةُ العظمَى، وتكاليفُه ما هي إلا تهذيبٌ للنفوس وتدرُّج بالإنسانِ في مصاعِدِ الكمال، قال الله تعالى: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [المائدة:6].
فاشكروا اللهَ على نِعَمه، واستقيموا على دينِه، فإنَّ قومًا غرَّتهم الحياةُ الدنيا وجرَّأتهم النعَم على المعاصي، فخسِروا الدنيا والآخرة، فاحذَروا الغِيَر، فإنَّ الله قائمٌ على كلِّ نفس بما كسَبَت، ولله سنن، (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً) [الأحزاب:62].
فقد قصَّ الله علينا في كتابِه ما فيه العِبرةُ لمن اعتبر، وما فيه النجاة لمن حذِر، (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ الأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ) القمر:4، فكان ممّا قاله الله تعالى وممّا قصَّ الله علينا مِنَ الأمم الماضية قولُه تعالى: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ) [سبأ:15-17]، فتجرّعوا كؤوسَ النّدَم، وفرّقهم الله عزّ وجلّ في البلادِ، وذاقوا وبالَ أمرِهم، (وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت:46].
نعوذ باللهِ من زوالِ نعمته وتحوُّلِ عافيته وفجأَةِ نِقمتِه وجميع سخطه، ولقَد كان سلَف الأمّة رضي الله عنهم يَوجَلون ويخافون ممّا فُتِح عليهم من الدّنيا خشيةَ أن تكونَ طيِّباتٍ عُجِّلت وحسَناتٍ قدِّمت مع أنَّ الله تعالى شهِد لهم في كتابِه وأثنى عليهم رسولُه صلى الله عليه وسلم في سنّتِه، وكانوا يجتَهِدون في العبادةِ والطاعة، ولا يركَنون إلى زهرةِ الدّنيا، ولا يغترّون بزُخرُفِها، فقد رَوَى مسلِم من حديثِ خالِد بن عُمير العَدَويّ قال: خطَبَنا عُتبة بن غَزوان رضي الله عنه فقال: (ولقد رأيتُني سابِعَ سبعةٍ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما لنا طعَام إلاّ ورَق الشّجَر حتى قرِحَت أشداقنا، فالتقطتُ بُردةً فشقَقتُها بيني وبين سعد بن أبي وقّاص، فاتَّزَرتُ بنِصفِها، واتَّزَر سعد بنِصفِها الآخر، فما أصبَحَ اليومَ منّا أحدٌ إلاّ أصبح أميرًا على مِصرٍ من الأمصار، وإني أعوذ بالله أن أكونَ في نفسي عظيمًا وعند الله صغيرًا).
فاقتدوا بهم ـ يا عباد الله ـ في السّرّاءِ والضّراء والثباتِ والاستقامة؛ لتُحشَروا معهم وتفوزوا بحُسن العاقبة، قال الله تعالى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [النحل:18] .
بارَكَ الله لي ولَكم في القرآنِ العَظيم، ونفَعَني وإيّاكم بما فيهِ مِنَ الآياتِ والذّكر الحَكيم، ونفعنا بهديِ سيّد المرسلين وبقولِه القويم.
أقول قولي هذَا، وأستغفِر الله العظيمَ لي ولكم ولسائر المسلمينَ من كلّ ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
لله ذي الجلالِ والإكرام، أحمده سبحانَه وأشكره على حسناتِه العظام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحقُّ المبين، وأشهد أنَّ نبيَّنا وسيّدنا عبده ورسوله الصادقُ الوعدِ الأمين، اللهم صلِّ وسلّم وبارِك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله وصحبه، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فإنَّ شكرَ النّعَم لا يكون إلا بثلاثةِ أمور: الاعترافُ بحقِّ المنعِم سبحانه وتعالى، وحُبُّ الله تعالى بالقَلب، وصرفُ النعمةِ فيما يحبّ الله عزّ وجلّ، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "أحبّوا الله من كلِّ قلوبكم لما يغذُوكم به من النِّعَم".
ثمّ التحدُّث بذلك باللسان قال الله تعالى: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) [الضحى:11]، ثمّ الاجتهادُ في الطاعة والثباتُ على الدّين وترك معصية الله والبُعد عنها والمسارَعةُ إلى فِعلِ الأوامر كما قال عزّ وجلّ:(اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ) [سبأ:13]، وكما في الحديثِ عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم من اللّيلِ حتى تتفطَّر قدماه، فقلت: يا رسولَ الله، تفعَل هذا وقد غفَر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟!" فقال عليه الصلاة والسلام: "أفلا أكون عبدًا شكورًا؟!"
واعلموا ـ عبادَ الله ـ أنَّ العبدَ مهما قام به من الطاعَةِ واجتنَب من المعصية ومهما شكرَ الله فلن يستطيعَ أن يؤدِّيَ شكرَ أقلِّ نعمةٍ لله عليه، فقد روى الحاكم وقال: "صحيح الإسناد" من حديث جابِر رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ جبريلَ قال لي: إنَّ لله عبدًا من عباده عبَدَ الله خمسمائة سنَة على رأسِ جَبَل في البَحر، وأخرج الله له عَينًا عَذبة وشَجرةَ رُمّان تخرِج له في كلِّ ليلةٍ رمّانة، يتعبَّد يومَه فإذا أمسَى نزل فأصابَ مِن ذلك، ثم قام لصلاتِه فسألَ الله ربَّه عندَ الأجَلِ أن يقبِضَه ساجدًا حتى يبعثَه ساجدًا فاستَجَاب الله له، فنَجِد له في العِلمِ أنّه يُبعَث يومَ القِيامة ويوقَف بين يديِ الله فيقول له الربّ: أدخِلوا عبدي الجنةَ برحمتي، فيقول: ربِّ بل بعمَلي، فيقول الله: قايِسوا عبدِي بنِعمتي عليه وبِعَمله فتوجَد نِعمَة البَصر أحاطت بعبادةِ خمسمائة سنَة، وبقِيت نِعمة الجسَد فضلاً عليه، فيقول الله: أدخلوا عبدِي النار، فيُجرُّ إلى النار، فينادي: ربِّ برَحمتك أدخلني الجنة، فيقول الله: ردّوه، فيقول: يا عبدِي مَن خلَقَك ولم تك شيئًا؟ فيقول: أنت يا ربّ، فيقول الله: مَن قوّاك على عبادةِ خمسمائة سنَة، فيقول: أنت يا ربّ، فيقول: من أنزلك من جبلٍ وسَط لجّة وأخرجَ لك الماءَ العَذب مِنَ المالح وأخرَجَ لكَ كلَّ ليلةٍ رُمّانة وإنما يخرُج كلَّ سنَةٍ مرّة، فيقول: أنت يا ربّ، ثم يقول الله تعالى: أدخِلوا عبدي الجنة برحمَتي، ونِعمَ العبدُ كنتَ"، وفي الحديث عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لن يدخُلَ الجنّةَ أحدٌ منكم بعمله"، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا إلاّ أن يتغمَّدني الله برحمته".
عبادَ الله، (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56]، وقد قالَ صلى الله عليه وسلم: "مَن صلَّى عليَّ صلاةً واحِدة صلّى الله عليهِ بها عشرًا".
اللهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وسلم تسليمًا كثيرا...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم