اقتباس
إن كثيرين من أهل الأرض الآن يحيون لكي يأكلوا ويشربوا ويستمتعوا بشهوات الدنيا وملذاتها، وكأن الدنيا هي جنتهم! وهم يجهلون أو يتغافلون أن الحياة الدنيا إنما هي دار تزود من الأعمال الصالحات والقربات، فإن كان الجسد متخففًا...
أواه لك يا عمر، يا أيها الفاروق؛ لقد نزل الوحي يوافق رأيك مرة ومرة ومرات! وكيف لا، وقد قال عنك النبي -صلى الله عليه وسلم-: "قد كان يكون في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي منهم أحد، فإن عمر بن الخطاب منهم" قال ابن وهب: تفسير محدثون: ملهمون(رواه مسلم).
وإن مما حذرنا منه الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- السمنة والتخمة والبطنة، فنسمعه يقول: "إياكم والبطنة في الطعام والشراب؛ فإنها مفسدة للجسد، مورثة للسقم، مكسلة عن الصلاة، وعليكم بالقصد فيها فإنه أصلح للجسد، وأبعد من السرف، وإن الله -تعالى- ليبغض الحبر السمين، وإن الرجل لن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه"(الطب النبوي، لأبي نعيم).
وهذا عبيد الله بن شميط يقول: سمعت أبي إذا وصف أهل الدنيا قال: "دائم البطنة قليل الفطنة: إنما همته بطنه وفرجه وجلده، يقول: متى أصبح فآكل وأشرب وألهو وألعب؟ متى أمسي فأنام؟ جيفة بالليل بطال بالنهار"(الزهد، لأحمد بن حنبل).
ويقول عبد الواحد بن زيد: "ما للعاملين والبطنة! إنما العامل تجزيه العلقة التي تقوم برمقه"... وهذا سفيان الثوري يحذِّر هو الآخر قائلًا: "إياكم والبطنة، فإنها تقسي القلب"(حلية الأولياء، لأبي نعيم).
أما محمد بن النضر الحارثي فيقول: "الجوع يبعث على البر، كما تبعث البطنة على الأشر"... ويؤيد أبو سليمان الداراني هذا الكلام ويفصِّله قائلًا: "إن النفس إذا جاعت وعطشت صفا القلب ورق، وإذا شبعت ورويت عمي القلب"(جامع العلوم والحكم، لابن رجب).
وهذا الإمام الشافعي يُقدِّم لنا قدوة عملية فيقول: "ما شبعت منذ ست عشرة سنة إلا شبعة اطرحتها؛ لأن الشبع يثقل البدن، ويزيل الفطنة، ويجلب النوم، ويضعف صاحبه عن العبادة"(نفس المصدر).
***
ويلخص نبينا -صلى الله عليه وسلم- كل ذلك في كلمات قلائل، لكنها كلمات جامعات فيقول: "ما ملأ آدمي وعاء شرًا من بطن"، ثم يقدِّم إلينا -صلى الله عليه وسلم- نصيحة وتنظيمًا للطعام والشراب حين يواصل قائلًا: "بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه"(رواه الترمذي، وصححه الألباني).
ولقد أخبرنا نبينا -صلى الله عليه وسلم- عن جيل سوء سوف يأتي، ومن صفاتهم أنهم يتخمون البطن بالطعام والشراب حتى تظهر فيهم السمنة؛ فعن عمران بن حصين -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم... ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن"(متفق عليه).
بل لقد فرَّق النبي -صلى الله عليه وسلم- بين المؤمن وبين الكافر بكمية الطعام والشراب الذي يتناولونه؛ فقال: "المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء"(متفق عليه)، ولهذا الحديث واقعة عملية يرويها أبو هريرة -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضافه ضيف وهو كافر، فأمر له رسول الله -صلى الله عليه وسلم بشاة فحلبت، فشرب حلابها، ثم أخرى فشربه، ثم أخرى فشربه، حتى شرب حلاب سبع شياه، ثم إنه أصبح فأسلم، فأمر له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشاة، فشرب حلابها، ثم أمر بأخرى فلم يستتمها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "المؤمن يشرب في معي واحد، والكافر يشرب في سبعة أمعاء"(متفق عليه)، ولقد بوَّب النسائي على هذا الحديث وحده بابًا بعنوان: "الفرق بين المسلم والكافر في الأكل".
***
إن كثيرين من أهل الأرض الآن يحيون لكي يأكلوا ويشربوا ويستمتعوا بشهوات الدنيا وملذاتها، وكأن الدنيا هي جنتهم! وهم يجهلون أو يتغافلون أن الحياة الدنيا إنما هي دار تزود من الأعمال الصالحات والقربات، فإن كان الجسد متخففًا من الطعام والشراب والشهوات كانت الروح طليقة مرفرفة في ملكوت السموات، سامية متطلعة إلى أشرف الغايات...
وإن أثقلها صاحبها بأصناف المطعومات والمشروبات والملذوذات أُثقِلت الروح وكُبِّلت وأُعيقت، فخلدت إلى طين الأرض وحضيضها، وسعت خلف حقيرها وخسيسها!
وهل يستوي رجل أطلقوه خفيفًا ليس عليه إلا ملابسه البسيطة، وآخر أثقلوه بالأحمال والسلاسل والأغلال! تُرى أيهما يسبق، وأيهما يفوز؟!
***
ودعونا نفسح المجال الآن للأطباء الذين يقررون أن التخمة والسمنة سبب رئيس في الكثير من الأمراض الخطيرة والمزمنة، فمنها: أمراض القلب والشرايين، كارتفاع ضغط الدم، والنوبات القلبية، وانسداد الشرايين... كذلك فإن السمنة سبب في الإصابة بمرض السكري من النوع الثاني، والاضطرابات النفسية، وعسر الهضم المزمن، كما أنها تتسبب في اتساع المعدة الدائم لتستوعب كميات الطعام الملقاة فيها، مما يسبب ضغطًا على أعضاء الجسم المجاورة!... إلى آخر قائمة طويلة من الأسقام والأضرار والسلبيات، وقديمًا قالوا: "المعدة بيت الداء"، فما أصدقه من قول!
***
وجاء الدور الآن على خطبائنا في ملتقى الخطباء، ليشخصوا الداء ويدلُّوا على الدواء كعادتهم، فإليك خطبهم:
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم