عناصر الخطبة
1/ أهمية اللجوء إلى الله عند المحن 2/ تفشي صور كفران النعمة 3/ أسباب تحريم الإسراف والتبذير 4/ مفاسد انتشار ظاهرة الإسراف 5/ الحث على الإقبالِ على أنفسنا بإصلاحها.اقتباس
لقد تخطّفتِ الفتنُ مَنْ حولَنا، وأخذ الله من هو أشدّ قوّةً ومكانة، وعزّةً ومَنَعة، فغدا العزيز ذليلًا، والشريف وضيعًا، والأمير كسيرًا، والغنيّ فقيرًا. ونحن آمنون مُطمئنون، ولو خرجنا شبرًا إلى مَن حولَنا لرأينا ما تشيب له الولدان، وتدمع له العينان، إلا أنّ الْعَجَبَ مِن بعض سفهائنا، وشِرْذِمَةٍ مِن بني جِلْدَتِنا، أبوْا في هذه الفتن العصيبة إلا الغَيَّ والبَطَر، والكبر والغرور والأشر، والتّبَجُّحَ بكفران النعم، بدعوى الْمُباهاةِ والكرم. كيف يفتخر هؤلاء الجهالُ بالإسراف والبَطَر، ومن حولنا يُتخطّفون ويُقتّلون، وكثيرٌ منهم يموت جوعًا...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي لا تدركه الأبصار، ولا تبلغه الأفكار، ولا تحجبه الأستار، ولا تخفى عليه الأسرار، والصلاةُ والسلامُ على صفيه وخليلِه المختار، وعلى جميع أهلِ بيتِه وأصحابِه الأخيارِ الأبرار.
أما بعد: فاتقوا الله معاشر المسلمين، واعلموا أنّ مِن عادة الكفار المشركين، أنَّهُم إذا ركبوا البحر وماجت بهم الأمواج، وأوشكوا على الهلاك: ازْدادُوا قُرْبًا مِنَ الله تعالى، ولُجُوءًا إليه، ويتركونَ أصنامهم وآلهتهم، لِعْلِمْهِم أنه لا يُنجيهم من محنتهم إلا الواحد الأحد.
ونحن أولى منهم بأنْ نَلْجَأَ إِلَى اللهِ في هذه الأوقاتِ العصيبة، والفتن الْمُتلاطمة.
لقد تخطّفتِ الفتنُ مَنْ حولَنا، وأخذ الله من هو أشدّ قوّةً ومكانة، وعزّةً ومَنَعة، فغدا العزيز ذليلًا، والشريف وضيعًا، والأمير كسيرًا، والغنيّ فقيرًا.
ونحن آمنون مُطمئنون، ولو خرجنا شبرًا إلى مَن حولَنا لرأينا ما تشيب له الولدان، وتدمع له العينان، وحالنا كما قال تعالى أهل مكة: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت: 67].
إلا أنّ الْعَجَبَ مِن بعض سفهائنا، وشِرْذِمَةٍ مِن بني جِلْدَتِنا، أبوْا في هذه الفتن العصيبة إلا الغَيَّ والبَطَر، والكبر والغرور والأشر، والتّبَجُّحَ بكفران النعم، بدعوى الْمُباهاةِ والكرم.
كيف يفتخر هؤلاء الجهالُ بالإسراف والبَطَر، ومن حولنا يُتخطّفون ويُقتّلون، وكثيرٌ منهم يموت جوعًا.
ما هي نظرتهم لنا وهم يرون هذه الصور والمقاطع المخزية، سوف يظُنُّون أنّنا على ذلك، وستتقطّعُ قلُوبُهم أسىً وحسرة، ويتساءلون: أهؤلاء هم أحفاد الصحابة؟ أهؤلاء إخواننا في الدين، أهؤلاء أهل الحرمين وأُولى الْقبلتين؟
وإذا لم يردع هؤلاء دينُهم وإيمانُهم، أفلا تردعهم أخلاقهم ومكارمهم؟
والواجب أنْ يُردع هؤلاء السفهاء، وأنْ يُؤخذ على أيديهم، وقد جاء في الأثر: "والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد المسيء، ولتأطرنه على الحق أطراً، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض".
والتباهي بالإسراف والتبذير، كبيرةٌ من كبائر الذنوب، لما فيها من الآفات الكثيرة، منها:
أولاً: كسر قلوب الفقراء والمحتاجين، فإنهم إذا رأوا مثل ذلك حقدوا على الأغنياء، وامْتَلأَتْ قلوبُهم غيظًا وكمدًا.
ثانيًا: إشاعةُ هذه المعصيةِ بين الناس، وسنُّها وتشجيعُهم على القيام بمثلها وأعظمَ منها، ولم تكن هذه الأفعال الشنيعةُ تُعرف عندنا، إلا حينما ابتدأها أحدُهم، وانْتَشر فعلُه وطار خبرُه، فعمل بعمله الكثير من ضعفاءِ الإيمان والعقول، فعليه إثمُها وإثم من عمل بها إلى يوم القيامة.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ" (رواه مسلم).
فأيّ قبحٍ وسوء أعظم من هذا؟
ثالثًا: تعريضُ نفسِه للحسد والعين، قال ابن الجوزي -رحمه الله-: "ومِن البليةِ أنْ يُبَذِّرَ في النفقة، وَيُبَاهِي بها لِيَكْمِدَ الأعداء، كأنه يتعرض بذلك -إنْ أكثر- لإصابته بالعين". ا.ه
ورُبّما أغرى الفقراء بسرقتِه والاعتداء عليه.
رابعًا: أنها مُجاهرةٌ بالمعصية، فيُخشى على صاحبها أنْ يدخل في قولِ النبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا المُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ المُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولَ: يَا فُلاَنُ، عَمِلْتُ البَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ" (رواه البخاري).
والإسراف في المباحات منهيٌ عنه، كما قال تعالى : (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) [الفرقان: 67].
وقال تعالى عن أصحاب النار: (إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ) [الواقعة: 45- 46]، قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "الإسراف في المباحات هو مجاوزة الحد، وهو من العدوان المحرم". ا.ه
والإسرافُ في كلّ شيء لا يُحبه الله، قال تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف: 31].
والمبذرون هم إِخْوَانُ الشَّيَاطِينِ، كما قال تعالى : (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) [الإسراء : 26، 27].
أيها المبذر والمسرف، أما علمتَ أنّنا كنا قبل ثمانين سنةً أو أقلّ، في فقرٍ وجوع وذلّ، هل نسيت رَحَلات أبائنا إلى العراق والشام؟ ألم تكن هذه البلاد أغنى أرض الله؟ من الذي أغنانا وأفقرهم، من الذي جمعنا وفرقهم، من الذي آوانا وشرّدهم، من الذي آمننا وخوّفهم.
إنَّه الله القهار ذو العظمة والجلال، الذي يُغير مِنْ حالٍ إلى حال.
هل نأمن من مكر الله تعالى؟ (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) [الأعراف: 97- 99].
لقد أمدّهم بالنعم فما قاموا بشكرها كما يجب، ولم يُحافظوا عليها بشكرها والحفاظِ عليها.
إنَّ حالهم يُذكِّرنا بقول حُرَقة بنتِ النعمان بن المنذر، حينما سُئلت عن تَغَيُّرِ حالِهِم من العز إلى الذل، وقد كان أبوها من أعظم ملوك العرب، فقالت: "أصبحنا وما في العرب أحدٌ إلا يرجونا أو يخافنا، وأمسينا وما في العرب أحدٌ إلا يرحمنا".
نسأل الله بمنّه وكرمِه ألا يُرينا ما أراهم.
إخوةَ الإيمان: إنّ انتشار ظاهرة الإسراف مُؤذنٌ بعقوبةٍ من الله –تعالى-، فمن سنته أنه يَعُمُّ بالعقاب إذا كثرتِ الْمعاصي، كما قال رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِمَن سأله: أَفَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: «نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الخُبْثُ» (متفق عليه).
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ -رحمه الله-: "فِيهِ الْبَيَان بِأَنَّ الْخَيِّر يَهْلِك بِهَلَاكِ الشِّرِّير، إِذَا لَمْ يُغَيِّر عَلَيْهِ خُبْثَه، وَكَذَلِكَ إِذَا غَيَّرَ عَلَيْهِ لَكِنْ حَيْثُ لَا يُجْدِي ذَلِكَ، وَيُصِرّ الشِّرِّير عَلَى عَمَله السَّيِّئ؛ وَيَفْشُو ذَلِكَ وَيَكْثُر حَتَّى يَعُمّ الْفَسَاد، فَيَهْلِكُ حِينَئِذٍ الْقَلِيلُ وَالْكَثِير، ثُمَّ يُحْشَر كُلّ أَحَد عَلَى نِيَّته". ا.ه
ومِمَّا يُبهج الخاطر، إنكارُ الناس كلِّهم أو أكثرِهم لهذه الظاهر السيّئة، فلا تجد أحدًا يُثني عليها أو يُسَرُّ بها، بل يتناقلون ذمّها والتحذير منها، وهذا والله يدلّ على سلامة العقيدة والفطرة.
وهذا هو الواجب على كلّ من رأى مُنكرًا، ويستطيع أنْ يُغيّرَه بيده أو بلسانه أو قلمِه.
ألا فلْنحمد الله –تعالى- على هذه النعم العظيمة، التي والله لا ينعم بمثلِها إلا نُدْرةٌ من الناس.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) [النحل: 112].
بارك اله لي ولكم ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله ذي الإفضال والإنعام، وصلى الله تعالى وسلم على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه والأئمة الأعلام، أما بعد:
أمة الإسلام: لقد كُفينا عناء السياسة والإمارة، فوزراؤُنا وأُمراؤنا في عناءٍ وتعبٍ، ورجالُ أَمْنِنَا في سهر ونصب، وكأن الله –تعالى- يقول لك يا عبد الله: لقد فرّغتُك لتشتغل بعبادتي، وأنعمتُ عليك لتشكرني.
وقد كفانا ربُّنا شؤون الأمة لِنَلتفت إلى شؤوننا، فما بال بعض الناس يشتغل بما لا يعنيه، وينظُرُ في عُيوب الآخرين، وقد عمي عن عيُوبِه؟
لِنَحرصَ على الإقبالِ على أنفسنا بإصلاحها، ونسعى في خدمةِ الآخرين ونفعِهم، وإيصالِ المعروف إليهم، ثمّ نكُفُّ شرَّنا عنهم، بعدمِ إساءَةِ الظنِّ بهم، والدخولِ في نواياهم، وخاصةً من العلماء والدعاة والمصلحين.
نسأل الله تعالى الذي أرانا نعمه ورحمتَه، ألا يُرينا سخَطَه وعذابِه، إنه سميعٌ قريبٌ مُجيب.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم