عناصر الخطبة
1/جعل الله البيوت سكنا لأصحابها 2/وجوب الاستئذان قبل الدخول 3/من صيغ الاستئذان وأحكامه 4/الأوقات التي يجب على الصغار الاستئذان فيها 5/من فوائد الالتزام بهذا الأدب الشرعياقتباس
وَإِنْ كَانَ فِي بَيْتِهِ أَحَدُ مَحَارِمِهِ، كَأُمِّهِ أَوْ أُخْتِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، مِمَّنْ لاَ يَصِحُ أَنْ يَرَى عَورَتَهُ مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ، فَلاَ يَحِل لَهُ أَنْ يَدْخُل بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، وَيَدُل عَلَى وُجُوبِ الاِسْتِئْذَانِ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَآثَارُ الصَّحَابَةِ وَمَبَادِئُ الشَّرِيعَةِ، أَمَّا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ فَقَوْلُهُ...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحَمْدُ للهِ الذِي جَعَلَ البُيُوتَ لَنَا سَكَنًا وسِترًا، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِراً.
أما بعد: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102].
أيها الإخوة: لما ذكر الله -تعالى- عددًا من نعمه على عباده في سورة النحل ذكر نعمة نغفل عن تدبر فضل الله علينا فيها، وهي نعمةُ السكن، فقد قال: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا)[النحل:80]؛ أي: سَكَنًا في الدُّور والقصور ونحوها، تُكِنُّكم من الحرِّ والبردِ، وتسترُكم أنتم وأولادَكم وأمتعتَكم، وتَتَّخذون فيها الغُرفَ والبُيوتَ التي هي لأنواعِ منافِعِكم ومصالِحِكم، وفيها حفظٌ لأموالكم وحُرَمِكم وغيرِ ذلك من الفوائد المشاهدة.
هذه النعمةُ العظيمة جعل الله لها أحْكَامًا وَآَدَابًا، وجعلَ ذلك من الدينِ يُثابُ من تأدبَ بها، ويعاقبُ من تجاوزَها وانْتَهَكَها، شرعَها اللهُ لتكون الدورُ مكانًا للسكينةِ النفسيةِ والاطمئنانِ والمودةِ بين ساكنيها، لا مكانًا للنزاعِ والخِصامِ والشقَاقِ بينهم.
أيها الإخوة: ومن أَهمِ الآَدابِ التي تُضْفِي السَكِينَةَ على سَاكِني البيوتِ الاِسْتِئْذَانُ لِدُخُولِ الْبُيُوتِ، وَهُو طَلَبَ إِبَاحَةِ دُخُولِهَا لِلْمُسْتَأْذِنِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ اللهُ في كِتَابِهِ الْكَرِيمُ بكَلِمَةَ "اسْتِئْنَاسٍ"، فَقَالَ -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا)[النور:27]، قال أهلُ العلمِ: وَأَرَادَ اللهُ بالاِسْتِئْنَاسِ هُنَا الاِسْتِئْذَانَ لِدُخُولِ الْبُيُوتِ وَنَحْوِهَا، وَالْبَيْتُ الَّذِي يُرِيدُ الإنْسَانُ دُخُوُلَهُ لاَ يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ بَيْتَهُ أَوْ غَيْرَ بَيْتِهِ، فَإِنْ كَانَ بَيْتُهُ فَإمَا أَنْ يَكُوْنَ يَسْكُنُهُ لِوَحْدِهِ، أَوْ هُوَ وَزَوْجَتُهُ فَقَطْ، أَوْ مَعَهَا بَعْضُ مَحَارِمِهِ، كَأُخْتِهِ وَبِنْتِهِ وَأُمِّهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
فَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ بَيْتَهُ، وَلاَ سَاكِنَ فِيهِ غَيْرُهُ، فَإِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى إِذْنٍ، وَإِنْ كَانَ فِي بَيْتِهِ زَوْجَتُهُ، وَلَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهَا، فَإِنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الاِسْتِئْذَانُ لِلدُّخُول؛ لِأَنَّهُ يَحِل لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى سَائِرِ جَسَدِهَا، وَلَكِنْ يَنْدُبُ لَهُ الْإِيذَانُ بِدُخُولِهِ بِنَحْوِ التَّنَحْنُحِ، وَطَرْقِ النَّعْل، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا رُبَّمَا كَانَتْ عَلَى حَالَةٍ لاَ تُرِيدُ أَنْ يَرَاهَا زَوْجُهَا عَلَيْهَا، وفي ذلك إِشعارٌ لها لتَقومَ باسْتقبالِه والترحيبِ به، وهذا يُدْخِلُ السرورَ على قلبِ الزوجِ ويزيدُ من الألفةِ بين الزوجين، فعن زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- قَالَتْ: "كَانَ عَبْدُ اللَّهِ إِذَا دَخَلَ تَنَحْنَحَ وَصَوَّتَ"(رواه ابن ماجه وصححه الألباني)، وسأل مُهنا الإمامَ أحمدَ عن الرجلِ إذا دخلَ على أَهْلِهِ، هل ينبغي له أن يستأذن؟ قال: "يُحركُ نعلَه إذا دخل"، وقال -رحمه الله-: "وإذا دخل على أهله تنحنح".
وَإِنْ كَانَ فِي بَيْتِهِ أَحَدُ مَحَارِمِهِ، كَأُمِّهِ أَوْ أُخْتِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، مِمَّنْ لاَ يَصِحُ أَنْ يَرَى عَورَتَهُ مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ، فَلاَ يَحِل لَهُ أَنْ يَدْخُل بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، وَيَدُل عَلَى وُجُوبِ الاِسْتِئْذَانِ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَآثَارُ الصَّحَابَةِ وَمَبَادِئُ الشَّرِيعَةِ، أَمَّا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ فَقَوْلُهُ -تعالى-: (وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَال مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا)[النور:59]، وَسَأَلَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَطَاءً عَنْ مَعْنَى الآَيَةِ: فَقَالَ: "وَاجِبٌ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَسْتَأْذِنُوا إِذَا احْتَلَمُوا، أَحْرَارًا كَانُوا أَوْ عَبِيدًا".
ومن السنة: عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: أَسْتَأْذِنُ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى أُمِّي؟ فَقَالَ: "نَعَمْ"، فَقَالَ: إِنِّي مَعَهَا فِي الْبَيْتِ، فَقَالَ: "اسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا"، فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنِّي خَادِمُهَا، فَقَالَ: "أَتُحِّبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً؟"، قَالَ: لاَ، قَالَ: "فَاسْتَأْذَنْ عَلَيْهَا"(رواه مالك في الموطأ والبيهقي في السنن الكبرى، وصححه ابن حجر وغيره مرسلاً).
وَعَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- إِذَا بَلَغَ بَعْضُ وَلَدِهِ الْحُلُمَ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِ إِلَّا بِإِذْنٍ، وجَاءَ رجل إِلَى بن مَسْعُودٍ فَقَالَ: أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي؟ فَقَالَ: "مَا عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهَا تُرِيدُ أَنْ تَرَاهَا"، وَسَأَلَ رَجُلٌ حُذَيْفَةَ أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي؟ قَالَ: "إِنْ لَمْ تَسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا رَأَيْتَ مَا تَكْرَهُ"، وَقَالَ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ: دَخَلْتُ مَعَ أَبِي عَلَى أُمِّي فَدَخَلَ وَاتَّبَعْتُهُ فَدَفَعَ فِي صَدْرِي، وَقَالَ: "تَدْخُلُ بِغَيْرِ إِذْنٍ؟!"، وَقَالَ عَطَاءٍ: سَأَلت بن عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُخْتِي قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: إِنَّهَا فِي حِجْرِي، قَالَ: أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ بَعْدَ أَنْ سَاقَ هَذِهِ الآَثَارَ: "وَأَسَانِيدُ هَذِهِ الْآثَارِ كُلُّهَا صَحِيحَةٌ".
والمتأمل لهذه الآثار يرى أنها تعلل الأمر بالاستئذان من أجل ألا ينظر إلى عورةٍ، أو ما يكره أن يراه الآخرون، ويؤكد ذلك ما رواه سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: جِئْتُ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ فِي بَيْتٍ، فَقُمْتُ مُقَابِلَ الْبَابِ فَاسْتَأْذَنْتُ، فَأَشَارَ إِلَيَّ أَنْ تَبَاعَدْ، ثُمَّ جِئْتُ، فَاسْتَأْذَنْتُ، فَقَالَ: "وَهَلِ الِاسْتِئْذَانُ إِلَّا مِنِ النَّظَرِ"(رواه الطبراني في الكبير، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح)، وما ذكرنا في الاستئذان للدخول هو لعموم أهل الدار الذين يسكنون في دار واحدة.
أيها الإخوة: وَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ غَيْرَ بَيْتِهِ، وَأَرَادَ الدُّخُول إِلَيْهِ، فَعَلَيْهِ الاِسْتِئْذَانُ، وَلاَ يَحِل لَهُ الدُّخُول قَبْل الْإِذْنِ، سَوَاءٌ أَكَانَ بَابُ الْبَيْتِ مَفْتُوحًا أَوْ مُغْلَقًا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ فِيهِ سَاكِنٌ أَمْ لَمْ يَكُنْ؛ لِقَوْلِهِ -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا)[النور:27]؛ وَلِأَنَّ لِلْبُيُوتِ حُرْمَتَهَا فَلاَ يَجُوزُ أَنْ تُنْتَهَكَ هَذِهِ الْحُرْمَةُ، وَلِأَنَّ الاِسْتِئْذَانَ لَيْسَ لِلسُّكَّانِ أَنْفُسِهِمْ خَاصَّةً، بَل لِأَنْفُسِهِمْ وَلِأَمْوَالِهِمْ؛ فَكَمَا يَتَّخِذُ الْإِنْسَانُ الْبَيْتَ سِتْرًا لِنَفْسِهِ، يَتَّخِذُهُ سِتْرًا لِأَمْوَالِهِ، وَكَمَا يَكْرَهُ اطِّلاَعَ غَيْرَهُ عَلَى نَفْسِهِ، يَكْرَهُ اطِّلاَعَهُ عَلَى أَمْوَالِهِ.
أيها الإخوة: ويَكُونُ الاِسْتِئْذَانُ بِاللَّفْظِ، وَقَدْ يَنُوبُ عَنْهُ غَيْرُهُ، وَالصِّيغَةُ الْمُثْلَى لِلاِسْتِئْذَانِ أَنْ يَقُول الْمُسْتَأْذِنُ: "السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ، أَأَدْخُل؟"، مُقَدِّمًا السَّلاَمَ، فَعَنْ رِبْعِيِّ بْنِ خِرَاشٍ قَال: "جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَامِرٍ فَاسْتَأْذَنَ عَلَى رَسُول اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ فِي بَيْتٍ فَقَال: أَأَلِجُ؟ فَقَال رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِخَادِمِهِ: "اخْرُجْ إِلَى هَذَا فَعَلِّمْهُ الاِسْتِئْذَانَ، فَقُلْ لَهُ: قُل: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُل؟"، فَسَمِعَ الرَّجُل ذَلِكَ مِنْ رَسُول اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَال: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُل؟ فَأَذِنَ لَهُ رَسُول اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَدَخَل"(رواه أبو داود وصححه الألباني).
وَيَقُومُ قَرْعُ الْبَابِ مَقَامَ الاِسْتِئْذَانِ بِاللَّفْظِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْبَابُ مُغْلَقًا أَمْ مَفْتُوحًا، قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: "أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي أَمْرِ دَيْنٍ كَانَ عَلَى أَبِي، فَدَقَقْتُ الْبَابَ فَقَال: "مَنْ ذَا؟"، فَقُلْتُ: أَنَا، فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُول: "أَنَا، أَنَا"، كَأَنَّهُ كَرِهَهُ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا).
أسأل الله -تعالى- بمنه وكرمه أن يفقهنا في ديننا ويجعلنا من الراشدين، بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنَا بِمَا فِيهِ مِنَ الآيات وَالذِّكْرَ الْحَكِيمَ، قَدْ قُلْتُ مَا سَمِعْتُم وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الحَمدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، والشُكرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وامتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ تَعظِيماً لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الـمُؤيَدُ بِبُرهَانِـهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِراً، أَمَا بَعْدُ:
أَيُهَا الإِخْوَةَ: اتَقُوا اللهَ حَقَ التَقْوَى، واعْلَمُوا أَنَّ دخول أصحابِ البيت الواحد إلى مكان مبيت أحدهم، وتسمى الغرف الخاصة له أحكامٌ، ذكرها الله -تعالى- بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيَّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)[النور: 58].
في هذه الآية يبينُ اللهُ -سبحانه- أحكامَ الاستئذان داخلَ البيوت فالخدمُ من الرقيقِ، والأطفالُ المميزون الذين لم يبلغوا الحلم يدخلون بلا استئذان، إلا في أوقَاتٍ ثلاثة، لا يدخلون فيها إلا بإذن كغيرهم، وهي: قبل صلاة الفجر؛ حيث يكون الناس في ثياب النوم عادة، أو أنهم يغيرونها ويلبسون ثياب الخروج، ووقت الظهيرة عند القيلولة؛ حيث يخلعون ملابسهم في العادة، ويرتدون ثياب النوم للراحة، وبعد صلاة العشاء حين يخلعون ملابسهم ويرتدون ثياب الليل، وسماها عَوْرَاتٍ لانكشاف العورات فيها، ووجب الاستئذان كي لا تقع أنظارهم على عورات أهليهم.
وأما ما عدا هذه الأوقات الثلاثة فقد قال الله -تعالى-: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ)[النور:58]؛ أي: ليسوا كغيرهم يُحْتاج إليهم دائما والصغار يحتاجون أهليهم، فيشق الاستئذان منهم في كل وقت؛ ولهذا قال -تعالى-: (طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ)[النور:58]؛ أي: يترددون عليكم في قضاء أشغالكم وحوائجكم، ويختم -سبحانه- الآية بقوله: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)[النور:58]؛ لأن المقام مقام علم الله بنفوس البشر، وما يصلحها من الآداب، ومقام حكمته كذلك في علاج النفوس والقلوب.
الله أكبر! -أيها الإخوة- يا له من أدب رفيع غفلت عنه بعض بيوت المسلمين، فصارت الغرفُ الخاصة في البيوت مع الأسف حلالاً لكل ساكن في البيت، وليس للفرد في بيته مكانًا يختص فيه، فيدخل عليه في كل وقت ومن أي ساكن بلا استئذان، مستهينين بآثار ذلك النفسية والعصبية والخُلُقية.
وكذلك يستهين بعض الناس بدخول الخدم ويظنون أن أعينهم لا تمتد إلى عورات السادة!، وأن الصغار قبل البلوغ لا ينتبهون إلى هذه المناظر، بينما يقرر النفسيون اليوم وبعد تقدم العلوم النفسية أن بعض المشاهد التي تقع عليها أنظار الأطفال في صغرهم قد تؤثر في حياتهم كلها، وقد تصيبهم بأمراض نفسية وعصبية يصعب شفاؤهم منها، والعليم الخبير يؤدب المؤمنين بهذه الآداب، وهو يريد -سبحانه وتعالى- أن تكون الأمة سليمة الأعصاب، سليمة الصدور، مهذبة المشاعر، طاهرة القلوب، نظيفة التصورات.
أيها الإخوة: مما سبق يتبن لنا أن الأولاد إما أن يكونوا بالغين، فعليهم الاستئذان في كل وقت، وإما أن يكونوا بعد التمييز ودون البلوغ، فهؤلاء يستأذنون في الأوقات الثلاثة، وقد حدد بعض أهل العلم من يلزمه الاستئذان بأربع سنين ومنهم غير ذلك.
أسأل الله -تعالى- أن يمن علينا بالفقه في دينه إنه جواد كريم.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم