عناصر الخطبة
1/من معجزات النبوة 2/من مواقف البركة النبوية 3/أهمية البركة في المال والولد 4/مخاطر غياب البركة 5/من آثار البركة 6/من مظاهر قلة البركة في حياتنا 7/كيف نستجلب البركة؟اقتباس
كثرة المال والولد من غير بركة قليل النفع ضئيل الفائدة.. جمع النبي -صلى الله عليه وسلم- الدعاء بكثرة المال والولد بحلول البركة فيه؛ إذ إن بمحق البركة فيه يصبح المال وبالاً، والأولاد شقاء.. إذا باركَ الله في المال نمَّاه وكثَّرَه، وأصلحَه...
البركة من الله تعالى
الخطبة الأولى:
الحمد لله؛ لا ربّ لنا سواه، ولا نعبد إلا إياه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، منَّ علينا فهدانا، وأطعمنا وسقانا، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله؛ صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -تعالى- حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى؛ (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)[الطلاق: 2- 3].
قال جَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما-: كنا نَحْفِرُ يَوْمَ الخَنْدَقِ؛ إذ عَرَضَتْ كُدْيَةٌ شَدِيدَةٌ، فَقَالُوا: يا رسول الله هَذِهِ كُدْيَةٌ عَرَضَتْ فِي الخَنْدَقِ. فَقَالَ: "أَنَا نَازِلٌ". ثُمَّ قَامَ وَبَطْنُهُ مَعْصُوبٌ بِحَجَرٍ، وَلَبِثْنَا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ لاَ نَذُوقُ ذَوَاقًا، فَأَخَذَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- المِعْوَلَ فَضَرَبَ، فَعَادَ كَثِيبًا أَهْيَلَ.
فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لِي إِلَى البَيْتِ، فَقُلْتُ لِامْرَأَتِي: رَأَيْتُ بِالنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- خَمَصًا شَدِيدًا فَعِنْدَكِ شَيْءٌ؟ قَالَتْ: عِنْدِي شَعِيرٌ وَعَنَاقٌ، فَذَبَحَتِ العَنَاقَ، وَطَحَنَتِ الشَّعِيرَ حَتَّى جَعَلْنَا اللَّحْمَ فِي البُرْمَةِ.
فَقَالَتْ: لاَ تَفْضَحْنِي بِرَسُولِ اللَّهِ وَبِمَنْ مَعَهُ، فَجِئْتُهُ فَسَارَرْتُهُ، فَقُلْتُ يا رسول الله: طُعَيِّمٌ لِي، فَقُمْ أَنْتَ وَرَجُلٌ أَوْ رَجُلاَنِ، قَالَ: "كَمْ هُوَ؟" فَذَكَرْتُ لَهُ، قَالَ: "كَثِيرٌ طَيِّبٌ"، فَصَاحَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "يَا أَهْلَ الخَنْدَقِ: إِنَّ جَابِرًا قَدْ صَنَعَ سُورًا، فَحَيَّ هَلا بِكُمْ".
فجِئْتُ امْرَأَتِي، فقلت: قد جَاءَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يقدُمُ بِالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَمَنْ مَعَهُمْ، فَقَالَتْ: بِكَ وَبِكَ، فَقُلْتُ: قَدْ فَعَلْتُ الَّذِي قُلْتِ، فعَمَدَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إِلَى بُرْمَتِنَا فَبَصَقَ وَبَارَكَ، فَقَالَ: "ادْخُلُوا وَلاَ تَضَاغَطُوا"، فَجَعَلَ يَكْسِرُ الخُبْزَ، وَيَجْعَلُ عَلَيْهِ اللَّحْمَ، وَيُخَمِّرُ البُرْمَةَ وَالتَّنُّورَ ، وَيُقَرِّبُ إِلَى أَصْحَابِهِ، قال جابر: وَهُمْ أَلْفٌ، فَأُقْسِمُ بِاللَّهِ لَقَدْ أَكَلُوا حَتَّى شبعوا، وَانْحَرَفُوا وَإِنَّ بُرْمَتَنَا لَتَغِطُّ كَمَا هِيَ، وَإِنَّ عَجِينَنَا لَيُخْبَزُ كَمَا هُوَ (أخرجه البخاري ومسلم).
إذا بارك الله بالمال أصبح وفيرًا، وإذا بارك بالطعام أصبح هنيئًا.. إذا بارك الله في الشيء لم يَفْنَ؛ قالت عَائِشَةُ -رضي الله عنها-: "تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَمَا فِي رَفِّي مِنْ شَيْءٍ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ، إِلَّا شَطْرُ شَعِيرٍ فِي رَفٍّ لِي، فَأَكَلْتُ مِنْهُ حَتَّى طَالَ عَلَيَّ"(أخرجه مسلم).
كثرة المال والولد من غير بركة قليل النفع ضئيل الفائدة. قال أَنَسٌ بن مالك -رضي الله عنه-: جَاءَتْ بِي أُمِّي أُمُّ أَنَسٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَقَدْ أَزَّرَتْنِي بِنِصْفِ خِمَارِهَا، وَرَدَّتْنِي بِنِصْفِهِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا أُنَيْسٌ ابْنِي، أَتَيْتُكَ بِهِ يَخْدُمُكَ فَادْعُ اللهَ لَهُ، فَقَالَ: "اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ، وَوَلَدَهُ، وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتَهُ"(متفق عليه).
جمع النبي -صلى الله عليه وسلم- الدعاء بكثرة المال والولد بحلول البركة فيه؛ إذ إن بمحق البركة فيه يصبح المال وبالاً، والأولاد شقاء.. قال البخاري "بَابُ الدُّعَاءِ بِكَثْرَةِ المَالِ مَعَ البَرَكَةِ".
إذا باركَ الله في المال نمَّاه وكثَّرَه، وأصلحَه وثَمَّره، ووفَّق صاحبَه لصرفه في أمور الخير ومنافع الناس.
اشترى عثمان بن عفان -رضي الله عنه- بئر رومة، وأوقفه على المسلمين، وجهَّز جيش العسرة، فبارك الله في ماله، فبلغ ثمر نخله مائة ألف.
وإذا باركَ الله في الأولاد: رزقَ أباهم بِرَّهم ودعاءهم، وأذاقَه نفعهم وزينتهم.
وإذا باركَ الله في الزوجة: أقرَّ بها عينَ زوجها، إن نظرَ إليها سرَّتْه، وإن غابَ عنها حفِظَتْه.
أم سليم زوجة أبي طلحة لما مات ابنها تزينت لزوجها حتى أصاب منها، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَبُو طَلْحَةَ أَتَى رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: "أَعْرَسْتُمُ اللَّيْلَةَ؟"، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُبَارِكَ لَكُمَا فِي لَيْلَتِكُمَا"، قَالَ سُفْيَانُ: فَرَأَيْتُ لَهُمَا تِسْعَةَ أَوْلاَدٍ كُلُّهُمْ قَدْ قَرَأَ القُرْآنَ.(أخرجه البخاري).
إذا باركَ الله في علم الرجل، قاده للعمل والخشية، وانتفع به أهله والناس.. رأى الناس في حياة ابن باز عجبًا؛ يُعلّم ويفتي، ويقضي ويوجّه، ويحاضر ويحضر، وترأس أعمالاً ووزارات، ومع ذلك له وِرْد من قيام الليل وقراءة القرآن.
قد مات قومٌ وما ماتت مكارمهم *** وعاش قومٌ وهم في الناس أمواتُ
البركةُ هِبةٌ من الله -تعالى-، لا تُقاس بالأسباب الماديَّة ولا بالعمليات الحسابية؛ فإذا باركَ الله في العُمر: أطالَه على طاعته ونفع بآثار عمله، وأصبحت أعوامه كمئات السنين.. عاش سعد بن معاذ في الإسلام سبع سنين، واهتز لموته عرش الرحمن.
متى ما كان الصدق شعار الإنسان ونصح المسلمين دثاره حلت البركة؛ "فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا"(متفق عليه).
قلة البركة تظهر حينما ترى ما فُتِح على الناس من أسباب الرَّخاءِ ما لم يُفتَح على أحدٍ قبلَهم، وتفجَّرَت كنوزُ الأرض، وتوافَرَت الأموالُ والتجارات، وتعدَّدت المُخترعات والصناعات؛ فهل ازدادَ الناسُ إلا فقرًا، وهل كسَب بعضهم إلا شِقوةً وقهرًا، وجشعًا وظلمًا؟!
في حين كانت البركة واضحة في حياة الناس من قبل؛ فقد كان يكفِيهم القليلُ، ويغنيهم رِزقُ كل يومٍ بيومِه، ويُؤوِي البيتُ الواحدُ جمعًا من الأُسَر والأفراد، وطعامُ الواحدِ يَكفِي الاثنين، وكانت تعلُوهم والقناعة والسعادة.
تمثلوا ما في قول رسولهم فحلت البركة؛ "طَعَامُ الِاثْنَيْنِ كَافِي الثَّلاَثَةِ، وَطَعَامُ الثَّلاَثَةِ كَافِي الأَرْبَعَةِ"(أخرجه البخاري)، وكانت القصعة على عهدي النبي -صلى الله عليه وسلم- تكفي العشرات من الناس.
فما بالُ الكثير من الناس اليوم تُبْسَط الموائد فيقوم البعض ساخطًا؛ لأن صنوفًا منها لم تكتمل؟! ضاقَت نفوسُهم فضاقَت أرزاقُهم!! قصُرَت هِمَمُهم فقصُرَت أوقاتُهم!!
فالْبَرَكَةُ لَيستْ بكَثرَةِ المَالِ ولا بِسُلطَةِ الْجَاهِ، وإنما البركة من الله.
قال ابن مسعود –رضي الله عنه-: "كُنَّا نَعُدُّ الآيَاتِ بَرَكَةً، وَأَنْتُمْ تَعُدُّونَهَا تَخْوِيفًا، كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي سَفَرٍ، فَقَلَّ المَاءُ، فَقَالَ: "اطْلُبُوا فَضْلَةً مِنْ مَاءٍ"، فَجَاءُوا بِإِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ قَلِيلٌ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ، ثُمَّ قَالَ: "حَيَّ عَلَى الطَّهُورِ المُبَارَكِ، وَالبَرَكَةُ مِنَ اللَّهِ"، فَلَقَدْ رَأَيْتُ المَاءَ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَلَقَدْ كُنَّا نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ وَهُوَ يُؤْكَلُ.(أخرجه البخاري).
نتيجة البركة: صَفَاء النَّفْسِ، وطِيب الْقَلْبِ، وهَنَاء الْعَيْشِ، وقُرَّة الْعَينِ والقَناعة بما كَسَبَ، وبما قَدَّرَ اللهُ، وترديد "اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا".
أستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على النبي المجتبى وعلى الآل والصحب ومن اقتفى. أما بعد:
البَرَكةَ نِعْمةٌ مِنَ اللهِ، فمَنْ بَاركَ اللهُ لَه فيمَا أَعطَاهُ كانَ ذلكَ خَيرًا لَهُ ونَفعَهُ وإنْ قَلَّ، ومَن نُزِعَت البَرَكةُ مِنهُ كانَ ذلكَ شَرًّا عَليهِ ولَم يَنْفَعْهُ ذلكَ الشَّيءُ وإنْ كَثُرَ.
البركة تستجلب بتقوى الله وطاعة الله والوقوف عند حدوده (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ)[الأعراف: 96]، (وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا)[الجن: 16]، ويقول -سبحانه وتعالى- عن أهل الكتاب: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ)[المائدة: 66].
فلنتعاهد التقوى في أنفسنا وفي بيوتنا... في أسواقنا وفي متنزهاتنا.
واتقِ الله فتقوى الله ما *** جاورت قلب امرئ إلا وصل
نتحرى الصدق في أقوالنا ومعاملاتنا؛ "الحَلِفُ مَنْفَقَةٌ لِلسِّلْعَةِ، مَمْحَقَةٌ لِلبركة".
الاهتمام بالصلاة وتربية الأسرة عليها؛ (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ)[طه: 132].
الاهتمام بالقرآن والتربية عليه بركة وذكرى؛ (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)[الأنعام: 155].
اللهم بارك لنا في أعمارنا، وأعمالنا، وفي أزواجنا وذرياتنا، وفي أموالنا وفي أوقاتنا، وفي صحتنا وعافيتنا، واجعلنا يا رب مباركين أينما كنَّا.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم