الإعراض عن الله تعالى (3) الإعراض عن أهل الإعراض

الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ الإعراض عن الله من أشد الخذلان 2/ الإعراض عن الله سبب للعقوبات في الدنيا والآخرة 3/ أصناف المعرضين عن الله 4/ المنافق أشد خطرًا من الكافر 5/ بذل الموعظة للمعرضين عن الله 6/ حقيقة الإعراض عن المعرضين عن أمر الله 7/ استعدادات المفسدين لاستقبال شهر رمضان 8/ حسن استقبال المؤمن لشهر رمضان

اقتباس

وَالتَّوْجِيهُ الرَّبَّانِيُّ وَاضِحٌ كُلَّ الْوُضُوحِ فِي وُجُوبِ الْإِعْرَاضِ عَمَّنْ أَعْرَضَ عَنْ دِيْنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ مُسَاوَمَتَهُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الشَّرِيعَةِ لِيَقْبَلَهَا. فَمَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى، وَجَبَ الْإِعْرَاضُ عَنْهُ بِنَصِّ الْكِتَابِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ مُهِمَّةَ الدَّاعِيَةِ هِيَ الْبَلَاغُ لَا الْهِدَايَةَ، فَمَنْ تَوَلَّى عَنْ سَمَاعِ الْبَلَاغِ أَوْ قَبُولِهِ فَلَا حِيلَةَ فِيهِ، وَمِثْلُ هَذِهِ...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

(الْحَمْدُ للهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الْأرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ * يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَايَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) [ سبأ : 1 - 2 ]، نَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأرْضِ وَمِلْءَ مَا بَيْنَهُمَا وَمِلْءَ مَا شَاءَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أهْلَ الثَّناءِ وَالْمَجْدِ، أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ، وَكُلُّنَا لَهُ عَبْدٌ، لَا مَانِعَ لَمَّا أَعْطَى، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْهُ الْجَدُّ.

 

وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إلَهُ إِلا اللهُ وَحَدُّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ تَقَرَّبَ لِعِبَادِهِ وَتَوَدَّدَ إلَيهِمْ، وَحَبَّبَهُمْ فِيه؛ فَعَرَّفَهُمْ أَفْعَالَهُ وَأَسْمَاءَهُ وَصِفَاتِهِ، وَأَفَاضَ عَلَيهِمْ مِنْ نَعَمِهِ وَآَلَائِهِ، وَأَرَاهُمْ عَجَائِبَ صُنْعِهِ وَآَيَاتِهِ، يُقْبِلُ عَلَى مِنْ أَقْبَلَ عَلَيه، وَيُعْرِضُ عَمَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ، لَا يَتَقَرَّبُ الْعَبْدُ مِنْهُ شِبْرًا إِلَّا تَقَرَّبَ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَلَا يَتَقَرَّبُ الْعَبْدُ مِنْه ذِرَاعًا إِلَّا تَقَرَّبَ مِنْهُ بَاعًا، وَلَا يَأْتِيهِ الْعَبْدُ يَمْشِي إِلَّا أَتَاهُ هَرْوَلَةً.

 

وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ بَعَثَهُ اللهُ تُعَالَى بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، فَمَنْ آمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ أَقْبَلَ اللهُ تَعَالَى عَلَيهِ، وَمَنْ كَذَّبَهُ أَوْ أَعْرَضَ عَنْه أَعْرَضَ اللهُ تَعَالَى عَنْه، وَلَا نَجَاةَ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا بِاِتِّبَاعِهِ، صَلَّى اللهُ وَسُلَّمُ وَبَارَّكَ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

أَمَّا بَعْدُ:

 

فَاُتُّقُوا اللهَ تُعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاتَّبِعُوا أَمْرَهُ، وَاجْتَنِبُوا نَهْيَهُ، وَأَقْبِلُوا عَلَيهِ، وَتَقَرَّبُوا بِالطَّاعَةِ إِلَيهِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْإِعْرَاضَ عَنْ ذِكْرِهِ؛ فَإِنَّ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِهِ أَعْرَضَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، فَكَانَ شَقِيًّا فِي الدُّنْيَا مُعَذَّبًا فِي الْآخِرَةِ: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) [طه: 124 -126].

 

أَيُّهَا النَّاسُ: إِنَّ مِنْ أَشَدِّ الْخِذْلاَنِ، وَأَفْدَحِ الْخُسْرانِ: الإعْرَاضُ عَنْ اللهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ بِالإعْرَاضِ عَنْ دِينِهِ، أَوِ الْإِعْرَاضِ عَنْ كِتَابِهِ، أَوِ الْإعْرَاضِ عَنْ ذِكْرِهِ وَعِبَادَتِهِ.

 

وَبِقَدْرِ إعْرَاضِ الْعَبْدِ عَنِ اللهِ تَعَالَى تَكَونُ خَسَارَتُهُ وَشِقْوَتُهُ؛ فَأهْلُ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ هُمْ أهْلُ الإعْرَاضِ الْكَامِلِ، فَكَانَ لَهُمْ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ، وَالشَّقَاءُ الْأَبَدِيُّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَفِي عُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْإعْرَاضِ عَنْ اللهِ تُعَالَى بِقَدْرِ مَعَاصِيهِمْ.

 

إِنَّ الإِعْرَاضَ عَنِ اللهِ تَعَالَى سَبَبٌ لِلْعُقُوبَاتِ الْعَاجِلَةِ وَالْآجِلَةِ، وَبِهِ تَزِيغُ الْقَلُوبُ، وَتُطْمَسُ الْبَصائِرُ، فَتَعْمَى عَنِ الْحَقِّ، وَتَرْتَكِسُ فِي الْإِثْمِ، فَيَضِيقُ الصَّدْرُ، وَتَسْوَدُّ الدُّنْيَا عِنْدَ الْمُعْرِضِيْنَ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ تُعَالَى-: "رَأَيْتُ سَبَبَ الهُمُومِ وَالْغُمُومِ الْإعْرَاضَ عَنْ اللهِ -عِزِّ وَجَلٍ-، وَالْإقْبالَ عَلَى الدُّنْيَا".

 

وَاللهُ تَعَالَى مِنْ رَحْمَتِهِ بِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ بَيَّنَ لَهُمْ طَرِيقَةَ التَّعَامُلِ مَعَ الْمُعْرِضَينَ؛ لِئَلَا يَجْرِفَ الْمُعَرِضُونَ غَيْرَهُمْ إِلَى إِعْرَاضِهِمْ، فَيَصُدُّوهُمْ عَنِ الْحَقِّ، وَيُزَيِّنُوا لِهُمُ الْبَاطِلَ.

 

وَرَأْسُ الْأَمْرِ الرَّبَّانِيِّ فِي التَّعَامُلِ مَعَ الْمَعْرِضَيْنِ هُوَ الْإعْرَاضُ عَنْهُمْ.

 

إِنَّ الْمُعْرِضِيْنَ عَنِ اللهِ تَعَالَى فِيهُمْ كُفَّارٌ وَمُنَافِقُونَ، وَفِيهِمْ دُعَاةٌ إِلَى سُلُوكِهِمْ فِي الْإِعْرَاضِ، وَالْكَافِرَ قَدْ يُلْقِي الشُّبْهَةَ عَلَى الْمُؤْمِنِ لِيَصُدَّهُ عَنِ السَّبِيلِ، وَيُزَيِّنَ لَهُ الْإِعْرَاضَ عَنِ الدِّينِ.

 

وَالْمُنَافِقُ فِي ذَلِكَ أَخَطَرُ مِنَ الْكَافِرِ؛ لِأَنَّهُ مُتَلَبِّسٌ بِالْإِسْلَامِ ظَاهِرًا، وَيَتَكَلَّمُ بِلِسَانِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُظْهِرُ النُّصْحَ لَهُمْ، وَهُوَ يَهْدِمُ دِينَهُمْ مِنْ دَاخِلِهِ، فَكَانَ الْإِعْرَاضُ عَنْ أهْلِ الْإِعْرَاضِ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ هُوَ الْعِلاَجَ الْأَنْجَعَ لِحِمَايَةِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ فِتْنَةِ الْإِعْرَاضِ عَنْ دِيْنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِتْنَةِ الْاِعْتِراضِ عَلَى حُكْمِهِ وَشَرْعِهِ.

 

وَفِي الْأَمْرِ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْكُفَّارِ قَالَ اللهُ تُعَالَى: (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيا) [النَّجْمَ: 29] أَيْ: لَا تَأْبَهُ بِعَدَمِ نَجَاتِهِمْ إنْ هُمْ أَعْرَضُوا، وَلَا تَأْسَ عَلَيْهِمْ إِذْ لَمْ يَهْتَدُوْا؛ وَذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ فِي دَعْوَتِهِ الْكُفَّارَ إِلَى الْإيمَانِ قَدْ يَتَنَازَلُ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الشَّرِيعَةِ يَعْلَمُ أَنَّ الْكُفَّارَ لَا يُرِيدُونَهُ؛ وَذَلِكَ لِتَحْبِيبِهِمْ فِي الْإِيمَانِ، أَوْ يَكْتُمُهُ عَنْهُمْ حِينَ يُسْأَلُ عَنْهُ، فَيُنْكِرُهُ أَوْ يَتَأَوَّلُهُ خَوْفًا مِنْ إعْرَاضِهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ بِسَبَبِهِ كَالْْجِهَادِ وَلَوَازِمِهِ مِنَ الرِّقِّ وَالْجِزْيَةِ وَنَحْوَهَا، وَكَالْتَّعَدُّدِ، وَقِوَامَةِ الرِّجَّالِ عَلَى النِّسَاءِ، وَمَنْعِ وِلاَيَةِ الْمَرْأَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذَا مَزْلَقٌ خَطِيرٌ، وَقَعَ فِيه بَعْضُ مَنْ يَدْعَوْنَ الْكُفَّارَ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَاسْتَدْرَكُوا عَلَى اللهِ -عِزَّ وَجَلَّ-، وَحَرَّفُوا شَرِيعَتَهُ.

 

وَالتَّوْجِيهُ الرَّبَّانِيُّ وَاضِحٌ كُلَّ الْوُضُوحِ فِي وُجُوبِ الْإِعْرَاضِ عَمَّنْ أَعْرَضَ عَنْ دِيْنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ مُسَاوَمَتَهُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الشَّرِيعَةِ لِيَقْبَلَهَا. فَمَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى، وَجَبَ الْإِعْرَاضُ عَنْهُ بِنَصِّ الْكِتَابِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ مُهِمَّةَ الدَّاعِيَةِ هِيَ الْبَلَاغُ لَا الْهِدَايَةَ، فَمَنْ تَوَلَّى عَنْ سَمَاعِ الْبَلَاغِ أَوْ قَبُولِهِ فَلَا حِيلَةَ فِيهِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيكَ إلّا الْبَلاغُ) [الشُّورَى: 48]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اِهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيكَ الْبَلاغُ) [آلَ عُمْرَان: 20]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَاِنْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ ) [السَّجْدَة: 30]. وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ بِالآَيَاتِ فِي هَذَا الْمَعْنَى.

 

وَأَمَّا الْإعْرَاضُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ فَجَاءَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ؛ لِأَنَّ خَطَرَ الْمُنَافِقِ أُعْظَمُ مِنْ خَطَرِ الْكَافِرِ: (سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا اِنْقَلَبْتُم إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) [التَّوْبَةَ: 95]، فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ سَبَبَ الْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ رِجْسٌ، فَمَا يَفُوهُونَ بِهِ مِنَ النِّفَاقِ هُوَ نَجَسٌ وَقَذَرٌ تَقْذِفُ بِهِ أَفْوَاهُهُمْ، وَتسْكُبُهُ مِدَادُهُمْ، يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَتَنَزَّهَ عَنْهُ، وَيُبَاعِدَ عَنْ مَوَاطِنِهِ، وَيُبَارِحَ مَظَانَّهُ؛ لِئَلَا يَتَنَجَّسَ بِقَذَرِ قَوْلِهِمْ.

 

وَمَنْ سَمْعِ أَقْوَالَ الْمُنَافِقِينَ فِي الشَّرِيعَةِ، وَرَأَى كِتَابَاتِهِمْ، وَاطَّلَعَ عَلَى أُطْرُوحَاتِهِمْ فِي الْفَضَائِيَّاتِ وَالصُّحُفِ وَالْمَجَلَّاتِ وَالرِّوَايَاتِ تَبَيَّنَ لَهُ مَا فِيهِمْ مِنْ قَذَرِ القَولِ ورِجْسِهِ، وَعَلِمَ لِمَ أَمَرَ اللهُ تُعَالَى بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ: (فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ).

 

وَالْمُنَافِقُونَ يُظْهِرُونَ النُّصْحَ لِلْمُؤْمِنِينَ، لَكِنَّهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ خُدَّامٌ لِأَعْدَائِهِمْ؛ وَلِذَا وَجَبَ الْإِعْرَاضُ عَنْ قَوْلِهِمْ، وَعَدَمُ أَخْذِ نَصِيحَتِهِمْ، وَلَا اتِّخَاذُهُمْ بِطَانَةً؛ لِأَنَّهُمْ أهْلُ غِشٍّ وَخِيَانَةٍ، فَإِذَا أَعْرَضَ الْمُؤْمِنُونَ عَنْهُمْ، وَتُوكَّلُوا عَلَى اللهِ تَعَالَى لَمْ يَضُرُهُمُ الْمُنَافِقُونَ شِيئًا مَهْمَا بَلَغَ كَيْدُهُمْ، وَعَظُمَ مَكْرُهُمْ: (وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عندِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا ) [النِّساء: 81]، وَإِنَّمَا الْبَلاءُ كُلُّ الْبَلَاءِ، وَالْفِتْنَةُ كُلُّ الْفِتْنَةِ، وَالْخَيْبَةُ وَالْفَشَلُ وَالْخُسْرانُ فِي اِتِّخَاذِ الْمُنَافِقِينَ بِطَانَةً مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْاِسْتِمَاعِ إِلَيهِمْ، وَالْاِغْتِرَارِ بِقَوْلِهِمْ، وَالأَخْذِ بِنَصِيحَتِهِمْ، وَمَا سَقَطَتِ الدُّوَلُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا إِلَّا بِذَلِكَ.

 

وَمَعَ الْأَمْرِ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ أهْلِ الْإِعْرَاضِ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فِي رَدِيءِ قَوْلِهِمْ، وَسَيِّئِ رَأْيِّهِمْ، وَمُجَانَبَةِ صُحْبَتِهِمْ، وَمُفَارَقَةِ مَجْلِسِهِمْ؛ فَإِنَّ المُؤْمِنَ مَعَ هَذَا الْإعْرَاضِ يَبْذُلُ الْمَوْعِظَةَ لَهُمْ؛ لَعَلَّ مَوْعِظَتَهُ تَغْلِبُ شَيَاطِينَهُمْ، وَتَصْلُحُ بِهَا قَلُوبُهُمْ، فَيُقْبِلُونَ عَلَى اللهِ تُعَالَى بَعْدَ إِعْرَاضِهِمْ عَنْهُ، وَكَمْ قَادَتِ الْمَوْعِظَةُ الْحَسَنَةُ، وَالْقَوْلُ الْبَلِيغُ الْمُؤَثِّرُ مِنْ مُعْرِضِينَ عَنِ الْحَقِّ، مُنَاكِفِينَ لِلْشَرْعِ، مُحَادِّينَ لِلِه تَعَالَى.. قَادَتْهُمْ الْمَوْعِظَةُ إِلَى تَرْكِ إعْرَاضِهِمْ، وَالْإقْبَالِ عَلَى رَبِّهِمْ، وَالتَّوْبَةِ مِنْ كُفْرِهِمْ وَنِفَاقِهِمْ: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا) [النِّساء: 63].

 

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أرْبَابَ النِّفَاقِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ وَإِنْ أُعْرِضَ عَنْهُمْ، وَاجْتُنِبَتْ مَجَالِسُهُمْ وَنَوَادِيَهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ يُنَاصَحُونَ سِرًّا أَوْ جَهْرًا حَسَبَ الْمَصْلَحَةِ، وَيُبَالَغُ فِي وَعْظِهِمْ بِمَا يُظَنُّ حُصُولُ الْمَقْصُودِ بِهِ.

 

جَعَلَنَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالتَّسْلِيمِ وَالْاِنْقِيَادِ، وَعَصَمَنَا مِنْ النِّفَاقِ وَالْإِعْرَاضِ وَالْاِعْتِرَاضِ، وَثَبَّتَنَا عَلَى الْحَقِّ إِلَى الْمَمَاتِ.

 

وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ.

 

 

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

 

الْحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُم إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

أَمَّا بَعْدَ:

 

فَاُتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ: (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاِحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُم فَاِعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) [الْمَائِدَة: 92].

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِذَا خَاضَ الْمُعْرِضُونَ عَنِ اللهِ تَعَالَى فِي شَرِيعَتِهِ الْغَرَّاءَ بِالسُّخْرِيَةِ مِنْهَا، أَوْ مِنْ أَحْكَامِهَا، أَوْ حَمَلَتِهَا وَدُعَاتِهَا، أَوْ حَاوَلُوا تَأْوِيلَهَا أَوْ تَبْدِيلَهَا أَوْ رَدَّهَا؛ وَجَبَ عَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ الْإِعْرَاضُ عَنْهُمْ، وَمُجَانَبَةُ مَجَالِسِهِمْ، وَمُفَارَقَةِ نَوَادِيهِمْ؛ لِئَلَا يُهَانَ دِينُ اللَّهِ تَعَالَى وَهُمْ حُضُورٌ فَتَحِلَّ السَّخْطَةُ عَلَيهِمْ: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ ) [الأَنْعام: 68]، فَأَمَرَ تَعَالَى بِالْإعْرَاضِ عُمَّنْ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى.

 

وَحَقِيقَةُ الْإِعْرَاضِ: لَفْتُ الْوَجْهِ عَنِ الشَّيْءِ؛ لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَارِضِ وَهُوَ صَفْحَةُ الْخَدِّ؛ لِأَنَّ الْكَارِهَ للِشَيْءِ يَصْرِفُ وَجْهَهُ عَنْهُ.

 

وَالْإعْرَاضُ عَنْهُمْ هُنَا هُوَ تَرْكُ الْجُلُوسِ فِي مَجَالِسِهِمْ، وَفَائِدتُهُ: زَجْرُهُمْ وَقَطْعُ الْجِدالِ مَعَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَنْ عِنَادِهِمْ.

 

وَأَكَّدَ اللهُ تَعَالَى هَذَا الْأَمْرَ فِي آيَةٍ أُخْرَى مُذَكِّرًا بِهَذِهِ الْآيَةِ: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُم آَيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَديثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا) [النِّساء: 140]، فَجَعَلَ سُبْحَانَهُ مَنْ حَضَرَ تِلْكَ الْمَجَالِسَ الَّتِي يُسْخَرُ فِيهَا بَدِينِهِ سُبْحَانَه، وَيُخَاضُ فِي آيَاتِهِ مِثْلَ السَّاخِرِ سَواءً بِسَواءٍ: (إِنَّكُمْ إذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا).

 

فَإِذَا كَانَ الْخَوْضُ فِي آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالسُّخْرِيَّةُ بِدِينِهِ فِي مَجَلَّةٍ أَوْ صَحِيفَةٍ وَجَبَ عَلَى الْمُؤْمِنِ عَدَمُ اقْتِنَائِهَا، وَلَا مُطَالَعَتِهَا، بَلْ مُقَاطَعَتُهَا، وَإِنْ كَانَتْ فِي إذَاعَةٍ أَوْ فَضَائِيَةٍ وَجَبَ عَلَيهِ عَدَمُ مُشَاهَدَتِهَا وَلَا الْاِسْتِمَاعِ إِلَيهَا، وَإِنْ كَانَتْ فِي مَجْلِسٍ أَعْرَضَ عَنْ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ وَفَارَقَ أَهْلَهُ، وَهَذِهِ هِيَ حَقِيقَةُ الإِعْرَاضِ عَنْ الْمَعْرِضِيْنَ عَنْ دَيْنِ اللَّهِ تَعَالَى، الْمَأْمُورِ بِهِ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ؛ لئلا يَتَلَوَّثَ الحَاضِرُ أَوِ السَّامِعُ أَوِ الْقَارِئُ بِشَيءَ مِنْ قَذَرِ الْمُنَافِقِينَ وَرِجْسِهِمْ فَيُلَوِّثُ قَلْبَهُ.

 

وَقَدْ عَوَّدَنَا الْمُنَافِقُونَ وَالْمُفْسِدُونَ فِي كُلِّ رَمَضانٍ يَقْدُمُ عَلَى جُمْلَةٍ كَبِيرَةٍ مِنْ رِجْسِهِمْ وَقَذَرِهِمْ فِي فَضَائِيَّاتِهِمْ، يُفْسِدُونَ بِهِ صِيَامَ الصَّائِمِينَ، وَقِيَامَ الْقَانِتِينَ، فِي مُسَلْسَلَاتٍ هَازِلَةٍ تَسْخَرُ بِأَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَشَرَائِعِهِ الْمَنْزَلَةِ، وَتَسْخَرُ بِعِبَادِهِ، وَمُسَلْسَلَاتٍ وَبَرامِجَ أُخْرَى تُثِيرُ الْغَرَائِزَ، وَتَهَيِّجُ الْعَوَاطِفَ، وَتَدْعُو إِلَى الْفُجُورِ فِي الشَّهْرِ الْكَرِيمِ.

 

وَمِنْ حُسْنِ اِسْتِقْبَالِ الْمُؤْمِنِ رَمَضانَ أَنْ يَعْزِمَ عَلَى التَّوْبَةِ مِنْ مُشَاهَدَةِ هَذِهِ الْقَنَوَاتِ الْقَذِرَةِ، وَيُجَانِبَ مُسَلْسَلَاتِهَا النَّجِسَةِ، وَيُفَارِقَ الْمَجَالِسَ الَّتِي تُعْرَضُ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيه أَنْ يُعْرِضَ عَنْ مَجَالِسِ الْمُعْرِضِيْنَ عَنْ دَيْنِ اللَّهِ تَعَالَى، الْمُسْتَكْبِرِينَ عَنْ أَمْرِهِ، المُنَاكِفِينَ لِشَرِيعَتِهِ؛ فَإِنَّ الْإِعْرَاضَ عَنْهُمْ وَعَنْ مَجَالِسِهِمْ وَعَنْ بَرَامِجِهِمْ حَتْمٌ لاَزِمٌ، وَأَمْرٌ وَاجِبٌ لِمَنْ أَرَادَ طَهَارَةَ قَلْبِهِ مِنْ أَقْذَارِ الْمُنَافِقِينَ وَرِجْسِهِمْ، وَأَرَادَ أَنْ يَحْفَظَ صِيَامَهُ وَأَهْلَ بَيتِهِ مِنْ قَوْلِ الزُّورِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَالْجَهْلِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، وَلَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ وَالنَّصَبُ؛ إِذْ كَيْفَ يُسْتَهْزَأُ بِشَيْءٍ مِنْ دَيْنِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ يَجْلِسُ بِكُلِّ أَرْيَحِيَّةٍ وَاِسْتِئْنَاسٍ، وَيَضْحَكُ وَيَتَفَكَّهُ عَلَى السُّخْرِيَّةِ بِاللهِ تَعَالَى أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ دِينِهِ: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُم تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) [التَّوْبَةَ: 65 - 66].

 

وَصَلُّوا وَسَلَّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...

 

 

 

 

 

المرفقات

عن الله تعالى (3) الإعراض عن أهل الإعراض1

عن الله تعالى (3) الإعراض عن أهل الإعراض - مشكولة1

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات