عناصر الخطبة
1/ ظهور الإسلام على الأديان 2/ اليهود المغضوب عليهم 3/ النصارى وضلالهم 4/ المشركون وفسادهماقتباس
وقرر النبي معجزات المسيح وآياته، وأخبر بكفر النصارى وتخليدهم في النار إن لم يتوبوا ويستغفروا ربهم، وأن الله أكرم عبده ورسوله أن ينال إخوان القردة منه ما زعمه النصارى أنهم نالوه منه، بل رفعه إليه وأسكنه السماء، وسيعيده إلى الأرض ينتقم به من مسيح الضلال وأتباعه، ويكسر به الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويعلو به الإسلام..
الحمد لله الذي رضي لنا الإسلام دينا، ونصب الدلالة على صحته، وأوضح السبيل إلى معرفته، وادخر لمن وافاه به أجرًا جزيلاً، وفرض علينا الانقياد له ولأحكامه، والتمسك بدعائمه وأركانه، وأبى أن يقبل دينًا سواه، ولو بَذَلَ في المسير إليه جُهْدَه واستفرغ قواه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ضد له، ولا صاحبة له، ولا ولد له، ولا كفو له، تعالى عن إفك المبطلين، وتنزَّه عن شرك المشركين.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفوته من خلقه، ابتعثه بخير ملة، وأحسن شرعة، إلى جميع العالمين. بشرت به الكتب السالفة، وأخبرت به الرسل الماضية، من عهد آدم أبي البشر، إلى عهد المسيح ابن البشر. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه الذين اختارهم الله له أعوانًا وأنصارًا، فنشروا ألوية الإسلام وأعلامه، وحفظوا من التغيير والتبديل حدوده وأحكامه.
أما بعد:
فيا عباد الله: إن الله جعل الإسلام عصمة لمن لجأ إليه، وحصنا لمن استمسك به، وعض بالنواجذ عليه، فهو حرَمه الذي مَن دخله كان من الآمنين، ومن انقطع دونه كان من الهالكين؛ أظهره على الدين كله حتى طبق مشارق الأرض ومغاربها، وتضاءلت له جميع الأديان، وجرت تحته الأمم منقادة بالخضوع والذل والإذعان، حتى بطلت دعوة الشيطان، وتلاشت عبادة الأوثان، واضمحلت عبادة النيران، وذل المثلِّثةُ عُبَّاد الصلبان، وتقطعت الأمة الغضبية في الأرض كتقطُّع السراب في القيعان.
عباد الله: إن الله تبارك وتعالى لما بعث محمدًا -صلى الله عليه وسلم- كان أهل الأرض صنفين: أهل كتاب، ومن لا كتاب لهم. وأهل الكتاب نوعان: مغضوب عليهم، وضالون.
فالأمة الغضبيَّة هم "اليهود"، يصفون الله بالنقائص والعيوب، وهم قتَلة الأنبياء، وأكَلة الربا والرِّشا، أخبث الأمم طويَّة، وأرداهم سجيَّة، وأبعدهم من الرحمة، وأقربهم من النقمة، لا يرون لمن خالفهم حرمة، ولا يرقبون في مؤمن إلاَّ ولا ذمة؛ وهم أهل الكذب، والبهت، والغدر، والمكر، والحيل، والسحر.
والنوع الثاني هم "المثلِّثة" أمة الضلال، وعباد الصليب، الذين سبوا الله مسبة ما سبَّه إياها أحد من البشر، ولم يقروا بأنه الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد؛ بل أصل عقيدتهم هو أن الله ثالث ثلاثة، وأن مريم صاحبته، وأن المسيح ابنه؛ فدينهم عبادة الصلبان، ودعاء الصور المنقوشة في الحيطان؛ يقولون في دعائهم: يا والدة الإله ارزقينا، واغفري لنا وارحمينا!.
ومن دينهم شرب الخمور، وأكل الخنزير، وترك الختان، والتعبد بالنجاسات، واستباحة كل خبيثٍ من الفيل إلى البعوضة؛ والحلال ما حلَّله القس، والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه، والذنب هو الذي غفره.
ويعتقدون أن أرواح الأنبياء كانت في الجحيم في سجن إبليس من عهد آدم إلى زمن المسيح؛ بسبب خطيئة آدم، وأكله من الشجرة، وأن كل من مات من بني آدم أخذه إبليس وسجنه في النار بذنب أبيه! قالوا: ثم إن الله لما أراد رحمتهم وخلاصهم من العذاب تحيَّل على إبليس بحيلة؛ فنزل عن عرشه، ودخل في رحم مريم، وأقام هناك تسعة أشهر بين الحيض والبول، ثم خرج طفلاً صغيرًا يرضع ويبكي، ويأكل ويشرب، ويبول وينام، ويألم؛ ثم لما كبر وصار رجلاً مَكَّنَ أعداءَه اليهودَ من نفسه حتى صلبوه، وسمروا يديه ورجليه، وصفعوه، ووضعوا الشوك على رأسه، فخلصهم بذلك من الشيطان، ولذلك سموه (المخلص)!.
قالوا: ومَن أنكر صلبه، أو شكَّ فيه، أو قال بأن الإله يجل عن ذلك، فهو في سجن إبليس معذب، حتى يقر بذلك!.
هذه قصة (الفداء) التي زعموا يرددونها على رأس سنتهم الميلادية، ويُدَرِّسونَها؛ وهي أهم دليل عندهم في الدعوة إلى التنصير؛ وهي -كما تسمعون- غاية النقص المنافي لكمال الله، حتى عند النصارى، ويستحيل على العقول السليمة التصديق بها؛ إذ نسبوا الإله الحق إلى ما يأنف أسقط الناس وأقلهم عقلاً أن يفعله بمملوكه أو خادمه، تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا. إن آدم -عليه السلام- تاب من الذنب فتاب الله عليه؛ وإن إبليس أحقر مما نسبوه إليه.
وأول من ابتدع لهم شارة الصليب الملك قسطنطين، وفي زمنه وضعوا ما يسمونه (الأمانة)، وهي عقيدة التثليث؛ عن عدي بن حاتم قال: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: "يا عدي! اطرح عنك هذا الوثن".
ولما كانت هذه أقوال أعداء المسيح من اليهود والغالين فيه من النصارى؛ أنزل الله تبارك وتعالى على نبيه -صلى الله عليه وسلم- ما أزال الشبهة في أمره، وكشف الغمة، وبرَّأ المسيح وأمه، ونزَّه رب العالمين عما افتراه عليه عباد الصليب، فآمن محمد بأخيه المسيح، وشهد له بأنه عبد الله ورسوله، وأن جسمه خلق من أنثى بلا ذكر، وأن الله أرسل روحه جبريل إلى مريم فنفخ في جيب درعها -وهو الطوق الذي في العنق- فوصلت النفخة إلى الرحم، ولم يكشف بدنها، وكانت تلك النفخة بمنزلة لقاح الأب والأم، فحملت به مريم العذراء الطاهرة الصديقة، ثم نفخت فيه الروح التي تكون بعد مضي أربعة أشهر على خلق البدن كغيره.
وقرر النبي معجزات المسيح وآياته، وأخبر بكفر النصارى وتخليدهم في النار إن لم يتوبوا ويستغفروا ربهم، وأن الله أكرم عبده ورسوله أن ينال إخوان القردة منه ما زعمه النصارى أنهم نالوه منه، بل رفعه إليه وأسكنه السماء، وسيعيده إلى الأرض ينتقم به من مسيح الضلال وأتباعه، ويكسر به الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويعلو به الإسلام.
أما صلاة النصارى فمفتاحها النجاسة، وتحريمها التصليب، وقبلتها الشرق، وشعارها الشرك؛ يقوم أعبدهم وأزهدهم إليها والبول على ساقه وأفخاذه، فيستقبل المشرق، ثم يُصلِّب على وجهه (يرسم بين عينيه خطين متخالفين) ويستفتح الصلاة بقوله: يا أبانا أنت الذي في السموات، تقدس اسمك، وليأت ملكوتك، ولتكن إرادتك في السماء مثلها في الأرض، أعطنا خبزنا الملايم لنا؛ ثم يدعو تلك الصورة التي هي صنعة يد الإنسان، وهي الإله المصلوب بزعمه، ويقرؤون في صلاتهم كلامًا قد لحنه لهم أئمتهم، يجري مجرى النوح والأغاني.
أما فروع دينهم وشرائعه فهم مخالفون فيه للمسيح، فالمسيح يتطهر ويغتسل من الجنابة، ويوجب غسل الحائض؛ والمسيح يقرأ في صلاته ما كان الأنبياء وبنو إسرائيل يقرؤونه في صلاتهم من التوراة والزبور، والمسيح يصلي إلى بيت المقدس إلى أن رفعه الله، وهو قبلة داود والأنبياء قبله، وقبلة بني إسرائيل، والمسيح اختتن وأوجب الختان كما أوجبه الأنبياء قبله، والمسيح حرَّم الخنزير، ولعَن آكله، وبالغ في ذمه، والمسيح لم يشرع لهم هذا الصوم الذي يصمونه، ولا صامه في عمره، ولا أكل في الصوم ما يأكلونه، ولا حرم فيه ما يحرمونه، ولا عطَّل السبت، ولا اتَّخذ الأحد عيدًا.
والمسيح سار في الذبائح والمناكح والطلاق والمواريث والحدود بسيرة الأنبياء قبله، والمسيح لم يفوض الأساقفة والبطاركة في التشريع، وكان أصحاب المسيح بعده على نهجه قريبًا من ثلاثمائة سنة، وهم الذين أثنى الله عليهم في القرآن، وعلى البقايا الصالحة منهم؛ ثم أخذوا في التغيير والتبديل، والتقريب إلى الناس بما يهوون، ومكايدة اليهود ومناقضتهم بما فيه ترك دين المسيح، والانسلاخ منه جملة. فهذا دين النصارى بعد البعثة وإلى اليوم، باطله أضعاف أضعاف حقه، وحقه منسوخ.
وأما من لا كتاب له فهو بين عابد أوثان، وعابد نيران، وعابد شيطان، وصابئ حيران، يجمعهم الشرك، وتكذيب الرسل، وتعطيل الشرائع، وإنكار المعاد، وحشر الأجساد، لا يدينون للخالق بدين، ولا يعبدونه مع العابدين، ولا يوحدونه مع الموحدين.
وأمة المجوس منهم تفترش الأمهات والبنات والأخوات، والعمات والخالات، دينهم الزَّمر، وطعامهم الميتة، وشرابهم الخمر، ومعبودهم النار، ووليهم الشيطان.
الخلاصة -يا عباد الله- أن الله لما بعث محمدًا -صلى الله عليه وسلم- رسولاً إلى أهل الأرض كانوا خمسة أصناف: يهود، ونصارى، ومجوس، وصابئة، ومشركون، ودين الحنفاء لا يعرف فيهم إلا قليلاً. وهذه الأديان الخمسة كلها للشيطان. وهذه الأديان الخمسة مذكورة في آية الفصل (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [الحَجّ:17]. ولكل قوم وارث.
فاتقوا الله -عباد الله- وكونوا دائمًا على بصيرة في الاعتقاد في الله -جل جلاله، وتقدست أسماؤه-، وفي المسيح، رسول الله، واحذوا وحذِّروا من دعاة التنصير الذين هذه بضاعتهم، ومع ذلك لم يستحيوا من الدعوة إليها ونشرها، والإنفاق في سبيلها، حين ظنوا أن الجو قد خلا لهم، وسموا أنفسهم "المبشرون"، وهم المضللون، وأكثَروا من الدعاية إلى التقريب بين الإسلام والنصرانية، وانخدع بهم كثير من ضعاف الإيمان، فظنوا أن اليهودية والنصرانية في هذه الأزمان من الأديان السماوية، واعتبروهم مؤمنين وإخوانا، وهم أعداء الله، وأولياء الشيطان، جمعوا بين الكفر بالله، وتكذيب رسل الله، وعبادة غير الله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُـولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [التوبة:30- 33].
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أنقذنا بمحمد -صلى الله عليه وسلم- من تلك الظلمات، وفتح باب الهدى فلا يغلق إلى يوم الميقات.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أرانا أهل الضلال وهم في ضلالهم يتخبطون، وفي سكرتهم يعمهون، وفي جهالتهم يتقلبون، وفي ريبهم يترددون؛ يؤمنون، ولكن بالجبت والطاغوت! ويعدلون، ولكن بربهم يعدلون! ويعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون، ويسجدون ولكن للصليب، وللوثن يسجدون، ويمكرون، وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بعثه الله إلى الناس كافة؛ قال-صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به؛ إلا كان من أصحاب النار" أخرجه مسلم. قال الحسن البصري -رحمه الله- تصديق ذلك في كتاب الله تعالى: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) [هُود:17].
وكان غلام يهودي يخدم النبي -صلى الله عليه وسلم- فمرض فأتاه النبي -صلى الله عليه وسلم- يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له: "أسلم" فنظر إلى أبيه، وهو عنده، فقال: أطِع أبا القاسم، فأسلم؛ فخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول: "الحمد لله الذي أنقذه من النار" أخرجه البخاري (3/176) وأخرجه أبو داود (3095).
ومر عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بدير راهب فناداه: يا راهب، فأشرف؛ فجعل عمر ينظر إليه ويبكي؛ فقيل له: يا أمير المؤمنين، ما يبكيك من هذا؟ قال: ذكرت قول الله -عز وجل-: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آَنِيَةٍ * لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ * لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) [الغاشية:2-7]، فذاك الذي أبكاني.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، الذي استجاب له ولخلفائه أكثر الأديان طوعًا واختيارًا، لا كرهًا واضطرارًا، لما بيَّن لهم الهدى، وأنه رسول الله حقًا. والسيف إنما جاء منفذًا للحجة، مقومًا للمعاند، وحدَّا للجاحد.
أما بعد، فيا عباد الله: إن الله تعالى قد نوَّع خلق آدم وبنيه إظهارًا لقدرته، وأنه يفعل ما يشاء، فخلق آدم لا من ذكر ولا من أنثى، وخلق زوجه حواء من ذكر لا من أنثى، وخلق عبده المسيح من أنثى لا من ذكر، وخلق سائر النوع من ذكر وأنثى، (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [آل عِمرَان:59].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم