عناصر الخطبة
1/ جهاد النفس مرتبة عظيمة 2/الأنس بالله أعظم اللذات 3/ أهل الأنس بالله وحياتهم الطيبة 4/كيفية يصل العبد إلى الأنس بالله؟ 5/ المحبة هي الطريق الموصلة للأنس 6/ الاستيحاش والشعور بالغربة 7/ أعظم العبودية عبودية القلباقتباس
ليس في الوجود لذة أعظم من لذة الأنس بالله، ولا لوعة أحر من لوعة الشوق إليه، وكل لذة حُدِّثتَ بها، أو تلذذت بها، فلتعلم أنها لا تعدل لذة الأنس بالله جل جلاله، فلذة الأنس به فوق ما جربت، وأكبر مما تظن. ومتى شَرِب قلب المؤمن من معين الأنس بالله شربة وافية لم يظمأ بعدها أبداً، هو السراج الذي إذا استنار به قلبُ المؤمن لم يجد بعدها ظلمة. قلب المستأنس بالله يسيح في حياة أخرى، فهو لله وبالله ومع الله وإلى الله، فبِرِبّك من كان الله معه فممن يخاف؟
أيها الأحبة في الله: لا تأتي قسوة القلب من فراغ، ولا بمحض القضاء والقدر الذي لا بد للإنسان فيه؛ ولكنه مرضٌ يَرِدُ على كل قلب ضَعُفتْ مناعتُه، وصار مناخاً للعلل والأدواء.
وما عالج المرءُ شيئاً كنفسه التي بين جنبيه، ولذا كان استصلاحها جهاداً؛ لما فيه من الجهد والمشقة، وجهاد النفس مرتبة عظيمة من مراتب الجهاد في سبيل الله، بل لا يتحقق جهاد الكفار والمنافقين إلا بعد جهاد النفس والانتصار على شهواتها وأهوائها، وكل جهادٍ مطلق في كتاب الله فهو شامل لجهاد النفس، (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) .
وما ركن إلى الدنيا أحد إلا لزمه عيب القلوب، ولا مكّن الدنيا من نفسه أحد إلا وقع في بحر الذنوب.
ليس في الوجود لذة أعظم من لذة الأنس بالله، ولا لوعة أحر من لوعة الشوق إليه، وكل لذة حُدِّثتَ بها، أو تلذذت بها، فلتعلم أنها لا تعدل لذة الأنس بالله جل جلاله، فلذة الأنس به فوق ما جربت، وأكبر مما تظن.
ومتى شَرِب قلب المؤمن من معين الأنس بالله شربة وافية لم يظمأ بعدها أبداً، هو السراج الذي إذا استنار به قلبُ المؤمن لم يجد بعدها ظلمة.
قلب المستأنس بالله يسيح في حياة أخرى، فهو لله وبالله ومع الله وإلى الله، فبِرِبّك من كان الله معه فممن يخاف؟
لقد كنتَ تسمع بمن يقوم أكثرَ الليل أو نصفه أو ثلثه، ولعلك تساءلت: أي قوة عند هؤلاء؟! ألا يملون؟! ألا يتعبون؟!
إن سر المسألة في شعور خفي لا تراه أنت كما يرونه، ولا تستشعره كما يستشعرونه...إنه أُنسهم بالله الذي أنساهم ألم أقدامهم، بل جعل للألم لذة! فهم في سعادة لو يعلم بها الأثرياء لاسترخصوا في سبيلها كل ثمن.
لقد كنا نسمع تلك المقولة المشهورة عن علماء السلف فنُعظِمُها ونصنفها في دائرة المبالغات، وهي قولهم: "لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف"، وإنما نستكثر ذلك ونستعظمُه لأننا لم نذُق تلك اللذة الإيمانية التي لم ينلها إلا أفذاذ الصالحين... ولكنها حتماً ليست بلذة متصلةٍ بالمال ولا بالجاه ولا بالملك في شيء... إن الذي عندهم وليس عند أولئك الكبراء والسادة هو الأنس بالله، فهم في حياة سعيدة.
أهل الأنس بالله والمشتاقين إلى لقائه قومٌ جعلوا من أوامر الله كقوله: (سابقوا) و(سارعوا). جعلوا منها منهجا يومياً لا يبغون عنه حِولاً. "لو قيل لأحد هؤلاء إن الساعة ستقوم غداً ما زاد في عمله شيئاً" وليس ذلك عن زهد في الطاعة، ولا عن تثاقل في العبادة؛ ولكن لأنه لم يعُدْ في وقت أحدهم متسعٌ لمزيد طاعة، فقد استغرقت الطاعة أوقاتهم كلها. فهم يتنقلون ما بين صلاة وذكر وتلاوة وصدقة وقضاء لحوائج الضعفاء وتفريج للكروب ومشروعات عظمى في الإحسان إلى الخلق صلةً وبراً.
كم نحن مساكين حين نعتذر عن أن نكون على هدي أولئك بحجة أن أوقاتنا قد توزعتها شواغل طلب الرزق والوظائف؟! ولنسأل أنفسنا بصدق: وهل أهلُ الأنس بالله مَكفِيوُّن في هذه الشواغل التي نتحجج بها؟ أتراهم عالةً على غيرهم في طلب معاشهم وقضاء حوائجهم؟ كلا والله، إنهم مثلنا، وربما كانوا أكثرَ منا شواغلَ؛ ولكنهم قريبون من ربهم حتى وهم في شئون حياتهم، وهل شيء يشغلك عن ذكر الله لو أردته؟ إن المحب لذكر الله سيجد فرصاً سانحة لذكره لو شاء؟ في حين أن أوقات غيره ضائعة في لغو ورفث...
أما إنه ليس الذي يحجزنا ويمنعنا عن وِصال الأنس بالله هو كثرة والشواغل وزحمة الأعمال؛ ولكنها الإرادةُ وحدها. (ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة)
أيها الإخوة : الأنس بالله نعمةٌ من رزقها فقد رزق أعظم الفضل في الدنيا، (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) لكن لتحقيق هذه النعمة أسبابٌ جعلها الله حقاً مبذولاً مشاعاً بين الخلائق.
فمن تيقّن أن الدنيا إلى زوال، ونعيمها مهما طال إلى خراب، خفّ تعلق القلب بها، ومن عرف أن راحة النفس في تعبها، وأن عزها في إذلالها لربها، وأن سعادتها في قربها من ربها، وأن حياتها الحقة إنما هي بعد موتها، من عرف هذا وذاك، عرف أن لذته وسعادته في روحانية قلبه وقربه من ربه، فيأنس بذكره ويعظِّم أمره.
والأنس بالله له بركاته في الدنيا قبل الآخرة، فمن بركاته أنه يورث الرضا بقضاء الله، واطمئنان القلب لأقداره، والمناعة من الفزع والجزع عند المصائب.
وأهل الأنس بالله هم أرضى الناس بقضاء الله وقدره، يمضي فيهم كما يمضي في غيرهم؛ ولكن الفرق في التلقي والأثر... يتلقون مصائب الدهر وكروبه بتسليم وصبر والتجاء إلى الله، فإذا أصابتهم مصيبة قالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون. وإذا اشتدت بهم الكروب تذكروا قوله تعالى: {إنه لا ييأس من روْح الله إلا القوم الكافرون}...فقلوبهم موصولة بالله، يشعرون بنفحاته المحيية، فهم لا ييأسون من روْح الله ولو أحاط بهم الكرب، واشتد بهم الضيق. وهم في طمأنينة من ثقتهم بمولاهم، ولو في مخانق الكروب ومضايقها.
أيها الأحبة المؤمنون: إن الأنس بالله لا يعني الانقطاع عن الناس وانعزال مجتمعاتهم، ولا يستوجب الخلوة المفرطة، وترك طلب الرزق، ولا قال بهذا عالِمٌ من السلف؛ ولكنهم جعلوا الخلوة للأنس بالله ومناجاتِه وظيفةً دائمةً لا تزاحمها وظائفُ حياتهم.
يقول ابن القيم: "إذا استغنى الناس بالدنيا فاستغن أنت بالله، وإذا فرح الناس بالدنيا فافرح أنت بالله، وإذا أنس الناس بأحبائهم فأنس أنت بالله، وإذا ذهب الناس إلى ملوكهم وكبرائهم يسألونهم الرزق ويتوددون إليهم فتودد أنت إلى مولاك.
وتأمل قوله جل جلاله: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)
فاستحضار القلب هذا البر والإحسان واللطف: يوجب قربه من الرب سبحانه وتعالى، وقربه منه يوجب له الأنس، والأنس ثمرة الطاعة والمحبة؛ فكل مطيع مستأنس وكل عاصٍ مستوحش.
المحبة هي الطريق الموصلة للأنس، وليس العجب من عبد يتودد إلى سيده؛ لكن العجب كل العجب من مَلِك يتودد إلى عبيده".
حين يسبح ربه يشعر بأن نفسه متصلة بالكون من حوله، فالتسبيح لله هو العمل المشترك بينه وبين ما حوله من مخلوقات.. من حيوانات وجمادات، (وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم).
إن مفهوم الاستيحاش والشعور بالغربةِ مفهوم مغلوط يجب أن يُصحح، فأكثر الناس يتوهمون أن هذا شعورٌ لا يكون إلا بفقد الناس، أو بالإقامةِ في منأى عنهم، ويكفي في تخطئة هذا أن بعض الناس يشعر هذا الشعورَ الجالب للكآبة والضجر وهو لم يزل في مخالطة الناس كأشد ما تكون المخالطة، وقد تجد من لا يشعر بالكآبة والوحشة مع أنه في أغلب وقته معتزلٌ لمجتمعات الناس.
ذلك أن الاستيحاش الحقيقي هو فراغ القلب من محبة الله والأنس به، وأن الغربة الحقيقة هي غربة الروح.
يقول بعض السلف: "مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا أطيبَ ما فيها …حلاوةَ الأنس بالله".
إن المرء ليفتقد الأنس أحياناً وهو في حشود الناس، ثم يجد تمام الأنس في وحدته يناجي ربه ويستغفره ويدعوه، ويتلو كتابه، ويتفكر في ملكوته.
وقد يعزر المرء بالحبس الانفرادي، فيجد في ذلك أعظم الألم وأشد التعزير، ولكن المؤمن يجد في خلوته حلاوةَ الأنس بالله لا يجدها في مجتمع الناس.
ورحم الله ابن تيمية حين قال: "إن سجني خلوة وقتلي شهادة ونفيي سياحة".
إن الأنس حقاً هو الأنس بالله، ومن يستأنس بالله فإن الله يؤنسه، ومن أحب الله حقاً أحبه الله فضلاً منه وكرماً، وأفاض عليه من فيوض عطائه ما يشغله، ويؤنس وحدته، حتى ولو عاش وحيداً في هذا الوجود.
والأمر كما قيل: من وجد الله فماذا فقد، ومن فقد الله فماذا وجد؟
يقول ابن القيم: "ويقول رحمه الله: في القلب شعت لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفي القلب وحشةٌ لا يزيلها إلا الأنس بالله، وفي القلب خوف وقلق لا يَذهب إلا بالفرار إلى الله، وفي القلب حسرةٌ لا يطفئها إلا الرضا بالله".
الخطبة الثانية
أما بعد: فإن أعظم العبودية عبوديةُ القلب حين تُصرف لله وحده لا شريك له، من خوف ورجاء ومحبة ورضا وتسليم وتوكل وإنابة واستعانة، وكلها أعمال تذلل القلوب لعلام الغيوب.
والجوارح لها عملها المبارك لتقوية الصلة بالله، وهي تقرب العبد من ربه، وكلما تقرب العبد من ربه أفاض الله عليه من فيوض رحمته وتوفيقه وحفظه، كما صح بذلك الحديث القدسي: "وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه".
للجوارح والحواس قنوات واسعة تُدخل المرء جوَّ الأُنس بالله، كالتفكر في ملكوت السموات والأرض، وذكر الله في الخلوات، وقيام الليل، والإلحاح بالدعاء وبثِّ الهم والشكوى لله.
فيا أيها المبارك: أكثر من ذكر الله، بل اجعل لك خلوات تفرغ فيها لذكر الله، فإن من أحب شيئًا أكثر من ذكره، واجعل لك من تلاوة كتابه ورداً يومياً لا يزاحمه شغل ولا عمل، وتذكر في هذا الشأن قول عثمان رضي الله عنه: "والله لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام الله".
واحرص دائمًا على بث همومك وشكواك إلى الله؛ فإن المناجاةَ وكثرةَ السؤال والإلحاحَ في الطلب من أفضل أبواب العبودية.
واعلم أن كل طاعة تعملها بإخلاص نية تقربك من الله جل جلاله ، وكل معصية تعملها تبعدك عن الله، يقول بعض السلف: "استح من الله على قدر قربه منك، وخف من الله على قدر قدرته عليك".
وسئل بعض السلف ما علامة الإيمان وما علامة النفاق؟ قال: "يا بني إن سرتك الطاعة وساءتك المعصية فأنت مؤمن، وإن سرتك المعصية وساءتك الطاعة فأنت منافق".
اللهم طهر قلوبنا من النفاق وأعمالنا من الرياء وألسنتنا من الكذب ...
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق.....
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا....
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم