عناصر الخطبة
1/الأسرة وعوامل النهوض بها 2/الحياة الأسرية بين قراراتها الصائبة وقراراتها المشؤومة.اقتباس
فَكافَحَتْ المِسْكِينَةُ في المُطالَبَةِ، حَتَّى انْفَصَلَتْ عَنْ بَعْلٍ كانَ لَها في لَهِيْبِ القَيْظِ ظِلال، وكانَ لَها في اكْتِظَاظِ المحافِلِ جَمَال، انْفَصَلَتْ، فَما أَفاقَتْ إِلا على أَلَمِ قَرارِها المَشْؤومِ، وما اسْتَفَاقَتْ إِلا عَلى سَهَرِها في لَيالِ البُؤْسِ تَرْعَى النُّجوم...
الخطبة الأولى:
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَمَّا بَعْدُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا*يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)،
أيها المسلمون: بَيْتٌ تُرَفْرَفُ فيهِ السَّعَادَةُ، وتَغْشاهُ السَّكِيْنَةُ، وتُحيطُ بِهِ الطُمأنِيْنَة، أَسْرَةٌ مُطْمَئِنَّةٌ، عَيْشُها في هَناءَ، وحَياتُها في صَفاءَ، وأَفْرَادُها في سُرُور.
أُسْرَةٌ لَها في الحياةِ مَسِيْرَةٌ مُشْرِقَة، ولا تُشْرِقُ مَسِيْرَةُ أُسْرَةٍ إِلا بِمُقَوِّماتٍ بِها تَنْهَضْ، وِأَساساتٍ عَلَيْها تَتَّكِئ، وأَعْظَمُ أَساسٍ تُقامُ عَلَيْهِ الأُسْرَةُ، أَساسُ الإِيمانِ والتَّقْوى؛ (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)، وكُلُّ أَساسٍ لَمْ يَكْنْ لَهُ مِن التَّقْوى مَدَدْ، فَإِنَّما هُوَ على جُرُفٍ هَارٍ، يَهْوِي بِصاحِبِهِ عندَ أَيِّ اهتِزاز.
صَلاحُ الأُسْرَةِ مَطْلَبٌ لا يَتَحَقَّقُ بالتَّطاوُلِ في البُنْيانِ، ولا بالتَّباهِي في المَساكِن، ولا بالتَّفاخُرِ في المُمْتَلَكاتِ، ولا بالتكاثُرِ من الثَروات، صَلاحُ الأُسْرَةِ يَتَحَقَّقُ بصِدْقِ التَّمَسُّكِ بِعُرَى الدِّين، بالأَخْلاقِ والآدَابِ والشَّعائِرِ والتَّعالِيْم، فَكَمِّ مِنْ أُسْرَةٍ سَكَنَتْ أَرْفَهَ القُصُورِ، خَوَتْ مِنَ التَّقْوَى فَهْيَ في شِقاق.
وكَمْ مِن أُسَرةٍ سَكَنَتْ أَدْنَى المَساكِنِ، أَقامَتْ لَها من التَّقْوَى عِمَاد، فَهِيَ في سَعادَةٍ وتآلُفٍ ووَفِاق، الأُسْرَةُ، مأَوىً للفَردِ، وَصَمَّامُ أَمانٍ للمُجْتَمَع، بِصلاحِ الأُسْرَةِ تَصْلحُ الأُمَم، وباسْتِقْرارِها تَزْدَهِرُ الشُّعُوب، أُسْرَةٌ مُطْمَئِنَةٌ، يَخْرُجُ مِنْ أَحْضَانِها جِيْلٌ بالجَلالِ يَتَجَلَّل، ويَنْشَأُ فيها نَشْءٌ بالعِفَّةِ والحَياءِ يَتَجَمَّل.
طُمأَنينَةُ الأُسْرَةِ، مِنْ أَكْرَمِ المَطالِبِ التي يَتَطَلَّعُ إِليها الأَبُ والأُمُّ، والزَّوْجُ والزَّوْجَةُ، والابنُ والبِنْتُ، طُمأَنِيْنَةُ الأُسْرَةِ، أَمانُ يَنْعَمُ بِه الفَرْدُ ويسْتَقِرُّ بِهِ الـمُجْتَمَعُ.
إِنها الأُسْرَة، لها في الحياةِ مَسِيْرَةٌ وطَرِيْقٌ، وعِنْدَ مُفْتَرَقِاتِ الطُرُقِ، تَتَشابَهُ أَمامَ الأُسْرَةِ الدُّرُوب، فَتَقِفُ الأُسْرَةُ أَمامَ المُفْتَرَقاتِ وَقَفاتِ تَرَدُّدٍ، لا تَدْرِيْ أَيُّ طَرِيْقٍ أَمامَها تَسْلُك، ولا أَيُّ قَرارٍ لَها تَقْطَع، وقَراراتُ الأُسْرَةِ في المُفْتَرَقاتِ، مِنْ أَحسَمِ المواقِفِ، وأَخْطَرِ الخُطَوات، قَراراتُ الأُسْرَةِ في المَوَاقِفِ التِيْ تَتَعارَضُ فيها مَصالِحُها، أَو تَخْتَلِفُ فِيها آرَاؤُها، أَو تَتَنَوَّعُ فِيْها رَغَبَاتُها، أَو تَبْرُزُ فِيْها خِلافاتُها، قَراراتٌ تَنْطَلِقُ مِنْها الأُسْرَةُ إِلى حَيْثُ قَصَدَتْ، فإِما قَرارٌ صَائِبٌ بِهِ الأُسْرَةُ تَعْلُو، وإِمَّا قَرارٌ خَائِبٌ بِه الأُسْرَةُ تَرْتَكِسْ، قَراراتُ الأُسْرَةِ، مَفاصِلُ حاسِمَةٌ في مُنْعَطَفاتِ حَياتِها، حَقُّها أَنْ تُدْرَسَ بِرَوِيَّة، وأَنْ تُناقَشَ بِحِكْمَةٍ، وأَنْ تُعْرَضَ بِعَقْلٍ، وأَن تُقْطَعَ بِمَشُورَةٍ، ثُمَّ بِعَزِيْمَةٍ وتَوَكُّلْ؛ (وَشَاوِرهُم في ٱلأَمرِ فَإِذَا عَزَمتَ فَتَوَكَّل عَلَى ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ یُحِبُّ ٱلمُتَوَكِّلِینَ).
قَراراتُ الأُسْرَةِ، مِنها صِغارٌ ومِنْهَا كِبار، مِنْها ما يَخُصُّ فَرْداً مِنْها، ومِنْها ما يَعُمُّ الأُسْرَةَ بِأَسْرِها؛ فَمَنْ أَحسَنَ صِناعَةَ القَرارِ في صِغَارِ المَسائِلِ، ذَلَّتْ لَهُ عِنْدَ الصِعَابِ كِبارُها، ومَنْ اسْتَهانَ بأَدْنَى القَراراتِ، تَوالَتْ عَلَيهِ مِنْها التَّبِعَات.
وأَوَّلُ قَرارٍ مَرَّ ويَمُرُّ على كُلِّ أُسْرَةٍ، قَرارُ اخْتِيَارِ الزَوجِ لِزَوجَتِه، وقَرارُ قَبَولِ الزَوجَةِ لِخاطِبِها، وَوَلِيُّها شَرِيْكٌ لَها في هذا القَرارِ، قَرارٌ تَنْشَأُ عَليهِ أُسْرَةٌ فَتَنْمُو وتَتَفَرَّعُ.
فَإِنْ صَابَ هذا القَرارُ، قَرَّتِ الأُسْرَةُ بِهِ عَيْناً، وهَنِأَت بِهِ أَثَرَاً، قَرارُ اخْتِيارِ الزوجَينِ، قَرارٌ لا تَطُولُ الحَيْرةُ أَمامَهُ لِمَنْ بِهَدْي الرَّسولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اهْتَدَى.
أَرْشَدَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيهِ لأَصْوَبَ قَرار؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ"(رواه البخاري ومسلم)، (فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ)، أَصْوَبُ قَرارٍ للزَّوجِ أَمامَ تَعَدُّدِ الخِيارات، وأَنْفَعُ قَرارٍ لَهُ أَمامَ تَنَوِّعِ المُغْرِيات.
وفِيْ مُقابِلِهِ: "إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ، وَفَسَادٌ عَرِيضٌ"(رواهُ الترمذي).
قَراراتٌ بُنِيَتْ على الدِيَّانَةِ والأَمانَةِ والخُلُق، قَرارَاتٌ مَحْمُودَةٌ عَواقِبُها، مَرْضِيَّةٌ نَتَائِجُها، وحِينَما تُبْنى القَرَاراتُ في اخْتِيارِ الزَّوْجَينِ عَلَى مَطامِعَ دُنْيَوِيَّةٍ، أَو عَلى أَوهامٍ وأَحلامٍ خَيالِيَّة، فإِنَّما مآلُ القَرارِ إِلى عَناءَ، ومَرَدُّهُ إِلى خَيْبَة، وفي الذِّكْرِ الحَكِيْم قالَ رَبُّنا تَعالى: (وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ)، وفي الذِّكْرِ الحَكِيْم قالَ رَبُّنا تَعالى: (وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ)، وفي الذِّكْرِ الحَكِيْم قالَ رَبُّنا تَعالى: (وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).
وكُلُّ مُفْتَرَقٍ ومُنْعَطَفٍ في حَياةِ الأُسْرَةِ، يَعْقُبُهُ قَرارٌ أَو قَرارَات.
كُلُّ مُشْكِلَةٍ تَنْشَأُ بَيْنَ زَوْجَيْنِ، فإِنَّما تَنْشَأُ صَغِيْرَةً ثُمَّ تَكْبُر، فَبِقَرارٍ حَكِيْمٍ مِنْ أَحَدِهِما تُؤَد المُشْكِلاتْ، أَو بِقَرارٍ مُتَشَنِّجٍ مِن أَحَدِهِما تَتَضاعَفُ وتَتَأَجَّج.
بِقَرارٍ مُتَعَقِّلٍ، تُقادُ المُشِكِلَةُ إِلى ساحِلِ التَّصالُحِ والرِّضا، أَو بِقَرارٍ طَائِشٍ، تَفْلُت المُشْكِلَةُ إِلى ساحَةِ التَّشاحُنِ والشِّقاق، بِكَلِمَةٍ رَفِيْقَةٍ، أَو إِشارَةٍ مُعَبِّرَةٍ، أَو رِسالَةٍ هادِئَةٍ، أَو ابْتِسامَةٍ مُشْرِقَةٍ، أَو بِصَمْتٍ رَزِيْن، تُعَالَجُ أَعْظَمُ أَسْبابِ الخِلافِاتِ فَتُشْفَى، وتُقاوَمُ أَعْتَا أَعاصِيْرُ المُنازَعاتِ فَتَهْدأَ، وتُـحَلُّ أَعْقَدُ عُقَدِ التَّخاصُمِ فتَسْتَقِيْم، وعِنْدَ الخِلافاتِ، تُسْتَثَارُ كَمائِنُ النُّفوسِ، فَيَبْرُزُ شُحُّها، ويتَصَدَّرُ كِبْرُها، ويَشْتَدُّ صَلَفُها، ويَعْظُمُ اسْتِئْثارُها (وَأَحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ) لَحَظَاتُ اشْتِدادِ الخِلافاتِ الزَّوْجِيَّةِ والأُسْريَّةِ، لَحَظاتٌ عَصِيْبَةٌ عَصِيَّةٌ، يَحْضُرُها الشَّيْطانُ ويَجْلِبُ عَلَيْهاَ بِـخَيْلِهِ وَرَجِلَهُ، فلا يُحسِنُ صِناعَةَ القَرار مِنَ الزَّوْجَينِ حِينَئِذ، إِلا مَنْ لَهُ عَقْلٌ أَتَمُّ، وحِلْمٌ أَوفَى، وحَظٌّ أَوْفَر؛ (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ).
بارك الله لي ولكم،
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وأَشْهَدُ أَن لا إِله إلا اللهُ ولي الصالحين، وأَشهدُ أَن محمداً عبدهُ ورسولُهُ النبي الأَمين، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وأَصحابِه أجمعين؛ أَما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- لعلكم ترحمون.
أَيُّهَا المُسْلِمُوْن: قَراراتُ الأُسْرَةِ فِي كُلِّ مُفْتَرَق، وَأَخْطَرُ قَرارٍ تَقِفُ أَمامَهُ الأُسْرَةُ، قَرارٌ يُفْضِيْ إِلى فَضِّ ارْتِباطِ الزَّوْجَين بِبَعْضِهِما، ويَؤُولُ بِهِما إِلى افْتِراق.
قَرارٌ مِنَ الزَّوْجِ بِإِيْقاعِ الطَلاق، أَو قَرارٌ مِن الزَّوْجَةِ بالمُطالَبَةِ بِخَلْعِها من زَوجِها على عِوَضٍ، لِيُوقِعَ الفِراق، قَراراتٌ نِـهائِيَّةُ في تارِيخِ الأُسْرَة، ولَها في الشَّرِيْعَةِ ما يُهَذِبُها، ولَها في النُّصُوصِ ما يُفَصِّلُها، لَها أَحكامٌ ولَها آدابٌ، ولَها شُرُوطٌ ولَها ضَوابِط.
لا يُلْجَأُ إِليها إِلا عِندَ انْغِلاقِ أَسْبابِ الوِفاقِ، وتَعَذُرِ دَواعِيْ التآلُف، واسْتِنْفاد وَسائِلِ الإِصْلاح؛ (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا).
لا يُلْجَأُ إِلى الفِراقِ عِندَ أَوَلِ مُنْعَطَفٍ، ولا يُفْزَعُ إِليهِ عِندَ أَقْرَبِ شِقاق.
عَقْدُ الزَوْجِيَّةِ عَقْدٌ مَتِيْن، ومِيثاقُهُ مِيْثاقٌ غَلِيْظ، فَمَنْ اسْتَهانَ بِهِ لأَدْنَى الأَسْبابِ نَدِمْ، ومَنْ اسْتَخَفَّ بِهِ لأَبْسَطِ المَشاكِلِ خَابْ.
وما عُرِفَ نَدَمٌ في أُسْرَةٍ، كَنَدَمِ زَوْجٍ مُتَعَجِّلٍ، أَقْدَمَ على طَلاقِهِ لِزَوْجَةٍ لأَدْنَى خِلافْ، أَو فارَقَها لأَتْفَهِ مَوقِف، أَو سَرَّحَها لأَوهَنِ سَبَبْ، أَوْقَعَ الطَلاقَ مُتَعَجِلاً في لَحْظَةِ غَضَبٍ، لَمْ يُلِنْ فيها للنَّصِيْحَةِ جانِبٌ، ولَمْ يُصْغِ فيها لَلْمَشُورَةِ أُذُنٌ، ولَمْ يُلْقِ فيها للعواقِبِ بَال، وما عُرِفُ نَدَمٌ في أُسْرَةٍ، كَنَدَمِ زَوجَةٍ انْجَرَفَتْ خَلْفَ تَيَّارٍ خَطِيْرٍ، عَبَرَ إِليها عَبْرَ بَعْضِ وَسائِلِ الإِعلامِ، وتَسَلَّلَ إِليها عَبْرَ بَعْضِ وسائِلِ التَّواصُلِ، فَقَلَبَ فيْها أَوعِيَةَ الرُّشْدِ، وكَفَأَ فيها مَوازِينَ البَصِيْرَة، حَرَّضَها على قَرارِ طَلَبِ الخُلْعِ مِنْ زَوجِها، لاسْتِغْنائِها عَنْهُ بالوَظِيْفَةِ، واكْتِفائِها عَنْهُ بالمادَّة، وأَوهَمَها أَنْهَا سَتَرْتَقِيْ بَعَدَ فِراقِهِ إِلى قِمَمِ الحُرِّيَةِ، وأَنها سَتَسْتَوِيْ بَعْدَ تَحَرُّرِها على عُرُوشِ السَّعادَةِ.
فَكافَحَتْ المِسْكِينَةُ في المُطالَبَةِ، حَتَّى انْفَصَلَتْ عَنْ بَعْلٍ كانَ لَها في لَهِيْبِ القَيْظِ ظِلال، وكانَ لَها في اكْتِظَاظِ المحافِلِ جَمَال، انْفَصَلَتْ، فَما أَفاقَتْ إِلا على أَلَمِ قَرارِها المَشْؤومِ، وما اسْتَفَاقَتْ إِلا عَلى سَهَرِها في لَيالِ البُؤْسِ تَرْعَى النُّجوم.
جْرْجَرَتْ لِقَرَارِها أَذْيالَ خَيْبَةٍ لَمْ تَحْتَسِبْها، ونَفَثَتْ مِنْ صَدْرِها زَفَراتِ حَسْرَةٍ لَمْ تَحْتَبِسْها؛ (وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)؛ عَنْ ثَوْبَانَ -رضي اللهُ عنه- قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا طَلاقًا فِي غَيْرِ مَا بَأْسٍ فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنَّة"(رواه أَبو داود وصححه الألباني).
قَراراتُ الأُسْرَةِ، هِيَ مَفاصِلُ في حَياتِها، ومُؤامَراتُ الأَعداءِ على الأُسْرَةِ المُسْلَمَةِ في العَلَنِ والخَفاءِ تُدارْ، في مَكْرٍ كُبَّارْ، وكَيْدٍ جَبّارَ، ظاهِرُهُ لِلْمَرْأَةِ نَعِيْمٌ، وبَاطِنُهُ تُضْرَمُ لَها فِيهِ النَّار.
وما أَفْلَحَ قَرارٌ لأُسْرَةِ، تَجاوزَتْ فيهِ حُدودَ الشَّرِيعةِ، أَو أَخَلَّتْ فِيهِ بِشَيءٍ مِن أَوامِرِها، قَراراتُ اللِّباسِ، وقَراراتُ الحِجَابِ، وقَراراتُ القِوَامَةِ للرَّجُلِ، وقَراراتُ القَرارِ للمرأَةِ، وقَراراتُ العَدْلِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ، وقَراراتُ حُسْن العُشْرَةِ بَينَ الزَّوجَينِ، وقَراراتُ تَرْبِيةِ الأَولادِ، وقَرَاراتُ تَنْشِئَةِ الأَهلِ على الفَضيْلَةِ، وقَراراتِ المُصابَرَةِ في أَمْرِهِم بالصَّلاة، قَراراتٌ، إِنْ صَدَقَتِ الأُسْرَةُ في تَحْقِيقِ أَوامِرِ الشَّرْعِ فيها، أَدْرَكَتْ أَوفَرَ سَعادَةٍ في الدُّنْيا، وبَلَغَتْ أَكْرَمَ نَعِيْمٍ في الآخِرَة؛ (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا).
اللهم أَحسِن مُنْقَلَبَنا،
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم