عناصر الخطبة
1/ من أصول الشريعة إكمال مكارم الأخلاق في النفوس 2/ صور من كرم النبي صلى الله عليه وسلم 3/ الجود من أفضل أعمال البر 4/ صنوف ودرجات الجود 5/ مرغبات الجود في رمضاناقتباس
الجود ليس حكرًا على المال وحده، بل هو صنوف ودرجات. الجود بالنفس فيما شرع الله، وذلك أعلى درجات الجود وأسماها، والجود بالمنصب بالزهد فيه والتسامي عنه وعدم التكبر به، والجود براحة البدن ورفاهيته في مصلحة الغير مما يُستحسن، والجود بالعلم وبذله، والجود بنفع الجاه في بذل شفاعة الخير، والجود بالصبر واحتمال الأذى والعفو، والجود بالزهد عما في أيدي الناس وعدم الاستشراف له؛ فمن ..
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أظهر دينه المبين، ومنعه بسياج متين، فحفظه من تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله وصفيه وخليله، بعثه على فترة من الرسل، ودُروس من العلم، وإدبارٍ من الدنيا، وإقبال من الآخرة، بشيراً بالنعيم المقيم، ونذيراً بين يدي عذاب أليم، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله، فأدى عن الله وعده ووعيده، حتى أتاه اليقين، فاللهم صلّ عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه الكرام الميامين ومن اتبع سنته إلى يوم الدين.
واتقوا الله كما أمركم بذلك: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب:70-71].
عباد الله: لقد جعل الله تعالى أصل الشريعة المحمدية إكمال ما يحتاجه البشر من مكارم الأخلاق في نفوسهم وحملهم على التخلق بالخلق العظيم بمنتهى الاستطاعة. فقال -صلى الله عليه وسلم-: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"؛ لذلك كان خُلقه رفيع القدر؛ إذ قال تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:4].
والخلق العظيم: هو الخلق الأكرم في نوع الأخلاق أن يبلغ المتخلق بخلقه مراتبه العليا. ولا يؤخذ الخلق العظيم إلا من القرآن كما قال عليّ -رضي الله عنه-: "الخلق العظيم: هو أدب القرآن".
وفي حديث عائشة: أنها سُئلت عن خُلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: "كان خُلقه القرآن" أي: ما تضمنه القرآن من إيقاع الفضائل والمكارم والنهي عن أضدادها.
كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكمل الناس خُلقًا؛ ففي حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ".
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَجْوَدَ النَّاسِ: أثبت له الأجودية في الناس فهو أسخى الناس وأكرمهم . وهذه الأجودية المحمدية من مقتضى السيادة المحمدية كما في الحديث الصحيح عن أبو سعيد قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ، وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ، وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ؛ وَلَا فَخْرَ، وَلِوَاءُ الْحَمْدِ بِيَدِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ وَلَا فَخْرَ"، فهو سيد ولد آدم، وهو أشجعهم، أعلمهم، أتقاهم لله، أحسنهم خِلقة وخُلقا وأجودهم. فهو بلا شك أجود بني آدم مطلقًا. أما الجود المطلق فهو جود الله –تعالى- فهو الجواد كلُّ الجواد، فالناس يعطون عن محدود، وعطاؤه لا صفة له ولا حدود؛ فهو الجواد الذي يعلو كل جواد، وبه جاد كل من جاد.
كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس. وتمثلت هذه الأجودية المحمدية في جوده الذي أذهل من جاد عليهم. في صحيح مسلم عن أنس قَالَ: مَا سُئِلَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى الْإِسْلَامِ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ، قَالَ: فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَأَعْطَاهُ غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ، فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ، فَقَالَ: يَا قَوْمِ أَسْلِمُوا، فَإِنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءً لَا يَخْشَى الْفَاقَةَ، فَقَالَ أَنَسٌ: "إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيُسْلِمُ مَا يُرِيدُ إِلَّا الدُّنْيَا، فَمَا يُسْلِمُ حَتَّى يَكُونَ الْإِسْلَامُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا".
وفي صحيح مسلم -أيضًا- عن صفوان بن أمية قال: "وَاللهِ لَقَدْ أَعْطَانِي رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مَا أَعْطَانِي؛ وَإِنَّهُ لأَبْغَضُ النَّاسِ إِلَيَّ، فَمَا بَرِحَ يُعْطِينِي حَتَّىَ إِنَّهُ لأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ"، قال ابن شهاب الزهري: "أعطاه مائة من النعم، ثم مائة ثم مائة"، وقال الواقدي: "أعطاه يومئذ واديًّا مملوءًا إبلاً ونعمًا"، فقال صفوان: "أشهد ما طابت بهذا إلا نفس نبي".
وفي صحيح البخاري: عَنْ سَهْلٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتِ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- بِبُرْدَةٍ مَنْسُوجَةٍ، فِيهَا حَاشِيَتُهَا"، قَالَتْ: نَسَجْتُهَا بِيَدِي فَجِئْتُ لِأَكْسُوَكَهَا، فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، فَخَرَجَ إِلَيْنَا وَإِنَّهَا إِزَارُهُ، فَحَسَّنَهَا فُلاَنٌ، فَقَالَ: اكْسُنِيهَا، مَا أَحْسَنَهَا، قَالَ القَوْمُ: مَا أَحْسَنْتَ، لَبِسَهَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، ثُمَّ سَأَلْتَهُ، وَعَلِمْتَ أَنَّهُ لاَ يَرُدُّ، قَالَ: إِنِّي -وَاللَّهِ-، مَا سَأَلْتُهُ لِأَلْبَسَهُ، إِنَّمَا سَأَلْتُهُ لِتَكُونَ كَفَنِي، قَالَ سَهْلٌ: فَكَانَتْ كَفَنَهُ.
وعلمت أنه لا يرد. لا يقول (لا) إلا في التشهد
ويصدق عليه وحده هذا المدح:
تعوَّدَ بَسطَ الكفِّ حتى لو أنه *** أرادَ انقباضاً لم تُطِعْهُ أنامِله
ولو لم يكنْ في كفهِ غيرُ نفسه *** لجادَ بها فليتق الله سائِله
عباد الله: بعدما أثبت ابن عباس -رضي الله عنهما- صفة الأجودية لنبينا -صلى الله عليه وسلم- ذكر الأسباب: فضيلة الزمان : رمضان - صحبة الأخيار - اللقاء على القرآن.
وقال ابن حجر -رحمه الله تعالى-: "فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يؤثر متابعة سُنة الله في عباده، فبمجموع ما ذكر من الوقت والمنزول به والنازل والمذاكرة حصل المزيد في الجود والعلم عند الله -تعالى-".
فلرسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة حين يلقاه جبريل أجود من الريح المرسلة التي تصيب بخيرها كل أحد.. والمرسلة: صفة وليست اسمًا إذ من أسمائها وأنواعها السموم والصبا كما في حديث ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "نُصِرْتُ بِالصَّبَا، وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ" ومنها أيضا اللواقح، العقيم، الناشرات، المرسلات، العاصف، القاصف والصرصر.
توبوا إلى ربكم واستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
واعلموا أن الجود من أفضل أعمال البر، والجود ليس حكرًا على المال وحده، بل هو صنوف ودرجات. الجود بالنفس فيما شرع الله، وذلك أعلى درجات الجود وأسماها، والجود بالمنصب؛ بالزهد فيه والتسامي عنه وعدم التكبر به، والجود براحة البدن ورفاهيته في مصلحة الغير مما يُستحسن.
والجود بالعلم وبذله، والجود بنفع الجاه في بذل شفاعة الخير، والجود بالصبر واحتمال الأذى والعفو، والجود بالزهد عما في أيدي الناس وعدم الاستشراف له. فمن عجز عن واحدة فثمّ غيرها..
ويا طوبى من سمت همّته؛ فضرب بكل جود سهماً؛ خاصة في مواسم الخير كشهر رمضان، والتزم بآداب الجود؛ فبَذَلَه خالصاً لله، متبعاً هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، غيرَ مانٍّ ولا مؤذٍ.
ومما يرغب من الجود في رمضان:
- الاقتداء بالنبي محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ فالمنفق في رمضان يتشبه بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في جوده وكرمه في شهر رمضان الكريم.
- الصدقة على الصائم إعانة له على الصيام.
- فضيلة الزمان ومضاعفة الأجر؛ كما في الحديث: "من تقرب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه".
اللهم أعتق رقابنا من النار.. اللهم إنك تحب العفو فاعف عنا.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم