عناصر الخطبة
1/ معنى اسم الله المؤخر ووروده في السنة 2/ تجليات اسم الله المؤخر 3/ تأخر العبد بما كسبت يداه 4/ بركات الإيمان باسم الله المؤخر.اقتباس
إن للعيش في ظلال اسم الله المؤخر بركاته وثمراته؛ ومن ذلك: أن يسعى العبد في نفي أسباب التأخير عنه، ويجهد في تحصيل أسباب التقديم، إذ الأمر كما قررنا، بل كما قرر القرآن: من أخذ بأسباب التقديم قدَّمناه، ومن انحط إلى أحوال التأخير أخَّرناه...
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آلعمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71]، أما بعد:
عباد الله: إننا لنرى بأعيننا بشرًا قدَّمهم الله على بشر، وبشر أخَّرهم الله عن آخرين، فجعل منهم مقدمون مفضَّلون، وآخرون مؤخرون مخلفون! وكذا في جميع الكائنات الحية منها المقدم ومن المؤخر؛ بل وفي الجمادات لاحظنا ذلك التقديم والتأخير؛ فالنهار مبصر منير والليل مظلم حالك، والشمس مشعة مضيئة والكواكب معتمة... فترى من الذي يقدِّم ويؤخِّر؟! لا شك أنه الواحد الأحد المقدم المؤخر، وكل ما نراه من هذا هو فعله -سبحانه-.
عباد الله: وإن المؤخر من أسماء الله -عز وجل-، وهو من الأسماء الحسنى المتقابلة، ويقابله اسم الله المقدم، ولا يتم الكمال إلا بهما معًا؛ فهو -عز وجل- المقدم المؤخر، وإن كان المقدم هو المعطي لعوالي الرتب، فإن المؤخر: هو الدافع عن عوالي الرتب، فهو الذي يقدم ويؤخِّر الأشياء والأشخاص فيضعهم مواضعهم التي يرضاها، فيقدم أولياءه ويؤخر العصاة المارقين.
وكل من التقديم والتأخير نوعان: الأول: تقديم وتأخير كونيان: كتقديم الله لبعض المخلوقات على بعض أو تأخيرها عن بعض... والثاني: تقديم وتأخير شرعيان: ويكون ذلك في كل شيء، كتقديمه -تعالى- الأماكن الفاضلة كالمساجد، وتأخيره -تعالى- الأسواق، فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها" (مسلم)، وقل مثل ذلك في كل شيء.
قال ابن القيم في نونيته:
وهو الـمقــدم والمؤخر ذانك الصـ *** ـفــتـان للأفـعـال تابعتان
وهما صفات الذات أيضا إذ هما ***بالذات لا بالغير قائمتان
ولم يرد اسم الله المؤخر في القرآن صريحًا، وإنما ورد كوصف فعل، فقال -عز من قائل-: (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ) [المنافقون:10]، وقال -تعالى-: (يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) [إبراهيم:10]، وورد أيضًا في قوله -عز وجل-: (إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ) [إبراهيم: 42]، وفي قوله: (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا) [المنافقون: 11].
وقد جاء اسم الله المؤخر في السنة النبوية صريحًا، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول إذا قام من الليل يتهجد: "... فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت" (متفق عليه).
وعن أبي موسى الأشعري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يدعو بهذا الدعاء: "... اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدم وأنت المؤخر، وأنت على كل شيء قدير" (متفق عليه).
وعن علي بن أبي طالب، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يقول بين التشهد والتسليم: "اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت" (مسلم).
أيها المسلمون: إن اسم الله المؤخر لتتجلى معانيه في شتى أرجاء هذا الكون وفي جوانب الحياة التي نحياها، وقد ذكرنا المعنى الأول من معاني اسم الله المؤخر وهو أنه -تعالى- يؤخر الأشياء والأشخاص فيضعها وفق علمه وتقديره في مواضعها، فأخَّر الليل عن النهار، والكواكب عن النجوم، والأنثى عن الذكر، والكافر عن المسلم، والعاصي عن الطائع.
فهذه امرأة العزيز كانت شريفة في قصرها، فلما عصت أذلها الله إذ فُضحت بالخطيئة وثبتت عليها بالأدلة واضطرت أن تعترف بها، وأخَّرها عن "عبدها" يوسف الذي ظلمته! وهذا أبو سفيان وكان شريفًا في مكة فلما أبى الإيمان صار بكفره مؤخَّرًا ذليلًا حتى منَّ الله عليه بالإسلام فنال العز والتقديم الحقيقي.
أما التجلي الثاني لاسم الله المؤخر: فهو الذي يؤخر الآجال والأعمار لأجل مسمى، لا يستطيع أحد له تقديمًا ولا تأخيرًا، قال -تعالى-: (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) [يونس: 49].
ولما سمع النبيُ -صلى الله عليه وسلم- أمَ حبيبة وهي تقول: "اللهم أمتعني بزوجي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبأبي أبي سفيان، وبأخي معاوية، قال لها: "قد سألت الله لآجال مضروبة، وأيام معدودة، وأرزاق مقسومة، لن يعجل شيئًا قبل حله، أو يؤخر شيئًا عن حله" (مسلم).
والتجلي الثالث لاسم الله المؤخر: أنه -تعالى- يؤخر العذاب والعقاب -بمقتضى حكمته ورحمته- إلى أجل مسمى؛ إمهالًا لهم وحلمًا ليتوبوا، أو استدراجًا لهم ليزدادوا إثمًا، قال الله -تعالى-: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) [النحل: 61]، وعن الكافرين قال -تعالى-: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) [آل عمران: 178].
أيها المؤمنون: أوردنا -فيما سبق- أن تأخير المؤخِّر -عز وجل- كوني وشرعي، وعلى هذا نقول: إن الله لا يظلم الناس شيئًا؛ فإن أخَّر منهم أحدًا فإنما أخَّره بما كسبت يداه، والدلائل والنماذج على ذلك كثيرة متضافرة؛ فمنها ما رواه أبو واقد الليثي قائلًا: بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس في المسجد والناس معه، إذ أقبل نفر ثلاثة، فأقبل اثنان إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وذهب واحد، قال فوقفا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهبًا، فلما فرغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ أما أحدهم فأوى إلى الله، فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا، فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض، فأعرض الله عنه" (متفق عليه)؛ فكان تقديم كل منهم أو تأخيرهم تبعًا لعمله هو.
وكذا كان سبب تأخير قوم سبأ هو فعلهم وجناية أيديهم، يقول الله -عز وجل-: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ) [سبأ: 15-17]، فبكفرهم أخَّرهم الله.
ومثله ما قرره المقدم المؤخر -سبحانه وتعالى- حين قال: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا) [الإسراء: 18-20].
ومن ذلك ما رواه أبو سعيد الخدري، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأى في أصحابه تأخرًا فقال لهم: "تقدموا فأتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم، لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله" (مسلم)، وهذا واضح الدلالة على ما نقول؛ "لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله"؛ فهم يتأخرون لذا يؤخرهم المؤخر -عز وجل-.
وقد أعلن الله -عز وجل- هذي الحقيقة واضحة جلية فقال -عز من قائل-: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) [المدثر: 37]؛ أي: من يتقدم إلى الخير والطاعة فيقدِّمه المقدم -سبحانه- عنده، أو يتأخر عنهما فيؤخره المؤخر -عز وجل- بين خلقه ويوم القيامة، وفي آية أخرى يقول -تعالى-: (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) [الحجر: 24]؛ قال الحسن: "المستقدمون يعني في الطاعة والخير والمستأخرون يعني فيهما" (تفسير الخازن)، فمن يطلب التقدم نقدِّمه، ومن يسعى إلى التأخر نؤخِّره، فسبحان المقدم المؤخر. (انظر: زهرة التفاسير).
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
أيها المؤمنون: إن للعيش في ظلال اسم الله المؤخر بركاته وثمراته، ومنها ما يلي:
أن يسعى العبد في نفي أسباب التأخير عنه، ويجهد في تحصيل أسباب التقديم، إذ الأمر كما قررنا، بل كما قرر القرآن: من أخذ بأسباب التقديم قدَّمناه، ومن انحط إلى أحوال التأخير أخَّرناه.
ومنها: أن يسلِّم المسلم فيما أخَّره الله -عز وجل- تأخيرًا كونيًا، فلا يحاول العبد تقديم ما أخَّره المؤخر -جل وعلا-، فالله -تعالى- قد أخَّر الأنثى عن الذكر، فقال -عز من قائل-: (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى) [آل عمران: 36]، وقال: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) [النساء: 34]، فذلك تقديم وتأخيره الله الكونيان، فلا تسعى أنثى أن تتقدم -في المجالات المختصة بالرجل- على الرجال، فتكون لها القوامة مثلًا!
وكذا أخَّر الله -تعالى- الكافر والعاصي عن المسلم وعن الطائع، فلنقدم نحن من قدَّمهم الله؛ ولتكن مكانة المسلم والطائع في قلوبنا وحبنا لهما مقدَّمة على الكافر والعاصي، وقد روى عبد الله بن بريدة عن أبيه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تقولوا للمنافق سيد، فإنه إن يك سيدًا فقد أسخطتم ربكم -عز وجل-" (أبو داود)، فلننزل كلًا منزلته التي أنزله الله -تعالى- إياها.
وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم