عناصر الخطبة
1/ الخطأ والتقصير لازم لكل نفس 2/ ضرورة المبادرة بالندم والتوبة إذا حل الذنب 3/ الاستكثار من الحسنات بعد الذنب 4/ أثر الرفق في معالجة الأخطاء 5/ أهمية استصلاح القلوب وملئها بالإيمان 6/ عدم استصغار الذنب 7/ خطورة المجاهرة بالمعصية 8/ رحمة الله بعباده 9/ فتح باب التفاؤل والأمل 10/ الستر على العاصي واجب إسلامياقتباس
لقد خاطب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صحابته وأسمعهم مرارًا قوله: "والَّذي نفسي بيدِه، لَو لم تُذْنِبوا، لذهَبَ اللَّه بكُم، ولجاء بقومٍ يُذْنِبون فيستغفرون الله، فيغْفر لهم"، لكنهم -رضي الله عنهم- كانت لهم قلوب حية، ونفوس زاكية بتعظيم الله وإجلاله، فيزعجهم ألم المعصية، وتقلقهم حرارة الخطيئة. وهكذا الإيمان يفعل في أهله، وهكذا ينبغي لكل مؤمن أن تكون له نفس لوامة إن ظلم وتعدى ..
إخوة الإيمان: ما أجمل الحديث حينما يكون عن جيل الصحابة وأخبارهم ومواقفهم؛ إذ الحياة مع حياتهم حياة، ومجلسٌ تشنف فيه الأسماع بذكرهم مجلسٌ لا يمل؛ فهم مثلنا وقدوتنا، وسلفنا وسادتنا، فنهجهم ومنهجهم نور تستضيء به الأمة في دهورها، وغابر أزمانها.
أما إن حديثنا عنهم اليوم فلن يكون عن مقامات العبودية التي بلغوها، ولا عن درجات التقوى التي صعدوها، وإنما سنقف مع مشهد قصير من مشاهد التقصير، وكيف تكون حالهم بعد الذنب والتفريط في جنب الله.
أول صورة نلتقطها في مشهدنا هذا هي صورة رجل يقف في بستان من بساتين المدينة، وبالتحديد في أقاصيها، بعيدًا عن أعين الناس، قد لفّته الأشجار من كل جانب، لم تذكر لنا دواوين السنة شيئًا عنه لا بكنيته ولا باسمه، ولم تنعته بوصفه ولا برسمه، وإنما هو من عامة أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-.
هذا الرجل لم ينفك عن بشريته وإنسانيته، فإذا هو أمام امرأة أجنبية قد زانت في عينه هيئتها، وفي لحظة غاب فيها الإيمان ومراقبة الملك الديان وكان ثالثهما الشيطان أزَّته نفسه الأمارة فعل السوء، ففعل هذا الرجل ما شاء أن يفعل إلا أنه لم يزنِ بها.
وبعد سكرة الشهوة، ولحظة انتصار الهوى على التقوى، عاد الرجل إلى رشده، وأحس بمرارة جرمه، فأسِف وتحسر، وندم واستغفر.
ولازمته هذه الحسرات والتأوهات زمنًا، ففكر ثم قرر أن يبوح بهذه الحادثة على أحد الصحابة لعله يجد عنده كفارة لذنبه الذي أهمه، فغدا إلى عمر فأخبره الخبر، فعظَّم عليه صنيعه وفعله، ولم يذكر له كفارة، ثم ذهب إلى أبي بكر فقص عليه أمره، فاستعظمه الصديق وأكبره، ولم يذكر له كفاره.
عندها قرر الرجل أن يأتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولسان حاله: ليصنع بي رسول الله ما شاء.
مشى هذا الرجل تجره رجلاه نحو الرحمة المهداة، مضى وعلامات الندم تعلو قسمات وجهه، وحرقة الذنب تغلي في صدره، حتى وقف بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال -والحياء يلفه والكلمات تتلجلج في حلقه-: يا رسول الله: إني عالجت امرأة في أقصى المدينة، وإني أصبت منها من دون أن أمسها، فأنا هذا، فاقض فيَّ ما شئت.
فماذا فعل نبينا -صلى الله عليه وسلم- بعد سماع خبره؟! هل شتمه وعنَّفه؟! هل أغلظ له في القول؟! هل أسمعه سلسلة من العبارات الجارحة؟! كلا، كلا، لقد اكتفى بالسكوت حتى لكأنه لم يسمع مقالة الرجل.
جلس الرجل فلم يجب بكلمه، ورسول الله ينتظر خبر السماء، فإذا الروح الأمين يتنزل على قلب سيد المرسلين بقول رب العالمين: (وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) [هود: 114].
فتلاها رسول الهدى على الرجل المغموم المهموم، فقام وقال وقد انتشى من الفرح وغمرته السعادة: ألي هذه يا رسول الله؟! فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "هي لك، ولمن عمل بها من أمتي".
عباد الله: ولنا مع هذا الحدث أحاديث ووقفات:
الوقفة الأولى: أن الخطأ والتقصير لازم لكل نفس منفوسة مهما بلغت من الصلاح والتقى، فهذا الإنسان يستمليه الإغراء، ويمليه الإغواء، كل بني آدم خطاء.
من الذي ما ساء قط *** ومن له الحسنى فقط
إذا تقرَّر هذا فلا يعني ذلك التهوين من شأن المعصية أو تسويغها وتبريرها، بل المقصود كيف يكون التعامل معها، وكيف يكون الحال بعدها!!
ومجتمع الصحابة لم يكن مجتمعًا ملائكيًّا؛ فهم بشر يعتريهم ما يعتري البشر من الجهل والخطأ والهوى، وهذا نوع من الضعف: (وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً) [النساء: 28].
لقد خاطب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صحابته وأسمعهم مرارًا قوله: "والَّذي نفسي بيدِه، لَو لم تُذْنِبوا، لذهَبَ اللَّه بكُم، ولجاء بقومٍ يُذْنِبون فيستغفرون الله، فيغْفر لهم"، لكنهم -رضي الله عنهم- كانت لهم قلوب حية، ونفوس زاكية بتعظيم الله وإجلاله، فيزعجهم ألم المعصية، وتقلقهم حرارة الخطيئة.
وهكذا الإيمان يفعل في أهله، وهكذا ينبغي لكل مؤمن أن تكون له نفس لوامة إن ظلم وتعدى، له قلب خفاق بطلب التوبة والأوبة، له لسان لهاج بطلب العفو والمسامحة.
الوقفة الثانية: وفي الحادثة ضرورة المبادرة بالندم والتوبة إذا حل الذنب ووقعت المعصية، فهذه المبادرة مؤشر على حياة القلب، وبرهان على عمق التقوى في الصدر؛ قال سبحانه عن عباده المتَّقين، والموْعودين بجنَّة عرْضها السَّموات والأرض: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران: 135].
ثم بعد هذه التوبة الصادقة فهنيئًا لكل تائب فضائل ربه تنتظره:
يفرح ربه بتوبة عبده، ويكفر عنه خطأه، بل ويبدل سيئاته حسنات صالحات.
يَا مَنْ عَدَا ثُمَّ اعْتَدَى ثُمَّ اقْتَرَفْ *** ثُمَّ انْتَهَى ثُمَّ ارْعَوَى ثُمَّ اعْتَرَفْ
أَبْشِرْ بِقـَوْلِ اللَّهِ فِـي آيَـاتِهِ *** إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفْ
الوقفة الثالثة: وبعد مجافاة الذنب وهجرانه، يأتي الاستكثار من فعل الحسنات، ليغسل العبد بماء الطاعة درن المعاصي، وفي الحديث: "وأتبع الحسنة السيئة تمحها".
عباد الله: وكلَّما كانت الحسنة من جنس السيّئة كان ذلك أبلغ في التَّكفير والإذهاب، فإنْ كانت السيّئة من خطايا اللّسان، فليكثر العبد من طاعة الله بلسانه، وإن كانتْ خطيئته سماعَ حرام، فليشنِّف سمعه بالذكر والقرآن؛ قال شيخ الإسلام: "وينبغي أن تكون الحسنات من جنس السيئات؛ فإنَّه أبلغ في المحو".
الوقفة الرابعة: أثر الرفق في معالجة الأخطاء، واللين في إسداء النصيحة، فرسول الهدى ما عاتب وزجر، ولا عبس وبسر حين سمع الخبر، وإنما ترفَّق وتأنى، ووجه ونصح بكلمات ملؤها العطف والرحمة، فكان لهذه الكلمات أثرها، وهكذا الرفق ما كان في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه، وفي محكم التنزيل: (وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران: 159].
الوقفة الخامسة: وفي ندم الصحابي وأسفه دليل على أهمية استصلاح القلوب وملئها بالإيمان وغرسها بالتقوى، فهذه القلوب لو لم تكن عامرة بالإيمان لما ظهر عليها هذا التأسف والندم، ولو كانت القلوب خربة خاوية من الإيمان لما تأثرت واضطربت، فالقلوب المريضة والميتة مطبوع عليها لا يسري إليها ندم، ولا يؤثر فيها تذكر.
فما أجمل أن يربي العبد نفسه وقلبه بالأعمال الصالحات ليله ونهاره، حتى إذا ألمّت النفس بشيء من الخطأ والتقصير كانت أعمال الرخاء رصيدًا له ومنذرًا يحيي قلبه.
الوقفة السادسة: أن هذا الذنب من الصحابي بقي في حدود اللمم؛ إذ لم يترتب عليه حد ولا وعيد، ومع ذلك لم يستصغر الصحابي ذنبه، ولم يهون من شأنه، بل بلغ من أسفه وأساه أن يبوح بسره للنبي -صلى الله عليه وسلم-.
وقديمًا قال بلال بن سعد: لا تنظُرْ إلى صِغَر الخطيئة، وانظر إلى عظم مَن عصيت.
"دخلتِ النَّارَ امرأةٌ بسبب هرَّة حبستها".
"ورجلٌ مُجاهد، كُبَّ في النار على وجهه، من أجل شملة أخذَها".
"وربَّ كلمة يتكلَّم بها الرَّجُل ما يلقي لها بالاً، تهوي به في قَعْرِ سقرَ"، نعوذ بالله من سقر.
وبقدرِ إيمان العبدِ وتقواه، وخوفه من ربِّه ومولاه، يهون الذنب في قلبِه أو يعظم، قال ابن مسعود -رضي الله عنْه-: "إنَّ المؤمن يرى ذنوبَه كأنَّه قاعدٌ تحت جبل، يَخاف أن يقعَ عليه، وإنَّ الفاجرَ يرى ذنوبَه كذُبابٍ مرَّ على أنفِه فقال به هكذا".
الوقفة السابعة: أن هذا الصحابي لم يجاهر بمعصيته، ولم يحدث بها إلا طلبًا للكفارة عنها؛ فالمجاهرة بالمعصية معصية أخرى، وما ظلم عبد نفسه بمثل استعلانه بالآثام، ومباهاته بالحرام؛ يقول المصطفى -صلَّى الله عليْه وسلَّم-: "كلّ أمَّتي معافًى إلاَّ المجاهرين، وإنَّ من المجاهَرة أن يَعْمَل الرَّجُل باللَّيل عملاً، ثمَّ يُصْبِح وقد سَتَره الله، فيقول: يا فلانُ: عمِلْتُ البارحة كذا وكذا، وقد باتَ يستُره ربُّه ويصبح يكشِف سِتْرَ الله عنه". أخرجه البخاري في صحيحه.
بل ربَّما كان تستُّر العبدُ بمعصيتِه سببًا لعفو الله ومغفرته، سأل رجُل ابنَ عمر -رضي الله عنهما-: كيف سمعت رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- يقول في النَّجوى؟! فقال: سمعته يقول: "إنَّ الله يدني المؤمن، فيضع عليه كَنَفَه ويَسْتُرُه، فيقول: أتعرف ذنب كذا، أتعرف ذنب كذا؟! فيقول: نعم أي ربِّ، حتَّى إذا قرَّره بذنوبه، ورأى في نفسه أنَّه هلك، قال الله له: سترتُها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم". متَّفق عليه.
الوقفة الثامنة: رحمة الله وفضله على عباده حين جعل الحسنات -وما أكثرها وأيسرها- سببًا لإذهاب السيئات ومحوها، فاسمع يا مَن استكثر ذنوبَه، واستثقلَ معاصيه، اسمع لنداء الملك الكريم الغنيّ يناديك فيقول: "يا ابنَ آدم: لو بلغت ذنوبُك عنانَ السَّماء، ثمَّ استغفرْتَني غفرت لك ولا أبالي".
ذنبٌ تكاد السموات يتفطَّرن منه وتنشقّ الأرض وتخرّ الجبال هدًّا، حينما زعم النَّصارى أنَّ عيسى ابن الله، ومع ذلك يناديهم ربهم، ويحضهم على التوبة، ويعدهم بالمغفرة فيقول: (أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [المائدة: 74].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فيا إخوة الإيمان: ومن الوقفات في هذه القصة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يعاتب الصحابي على خطئه ولم يعنفه على الماضي، وإنما فتح له باب التفاؤل، وأرشده إلى طريق المستقبل، وهذا أسلوب نبوي تكرر في وقائع عدة، أن يفتح للحيارى أبواب الأمل، ويعزز لديهم روح التفاؤل، فما أضيق العيش لولا فسحة الأمل!!
هذا الأسلوب النبوي يفتح للمقصر أبوابًا رحبة من تغيير الحال والسعي الجاد في استصلاح الذات.
فما أحوجنا أن نتمثل هذا الدرس النبوي في تربيتنا وتوجيهاتنا لشبابنا وأبنائنا، لا أن نجعل من الأخطاء والتجاوزات زنازين ضيقة نحبسهم فيها، فلا يذكرون إلا بها، وهذا من إعانة الشيطان على أخيك، وفي الحديث: "لا تكونوا عونًا للشيطان على أخيكم".
ومن الوقفات أيضًا: أن الستر على العاصي واجب إسلامي وخلق إنساني، فلم تنقل لنا روايات الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سأل عن المرأة أو أمر بإحضارها للاعتراف أمامه.
لقد طوى المصطفى -صلى الله عليه وسلم- أمرها ودفن سرها ولم يتحسس خبرها، وما ذاك إلا لأن الستر على أهل المعاصي ظاهرة مصلحته، ملموس أثره؛ فالواقع يؤكد أن الأفعال القبيحة والصنائع الشنيعة إذا لاكتها الأفواه، ونهشتها النظرات، وأشارت إليها الأصابع، هان وقعها على القلوب؛ ما يورث بعد ذلك عدم استنكارها، وإذا وقع ذلك فالإيمان في خطر، وفي الحديث: "وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل".
عباد الله: إن انتشار ثقافة الستر بين أبناء المجتمع هو تقوية لدعائم الثقة بين الناس وتوادِّهم وتآلفهم، أما إذا أفشيت المعايب وانتشرت المثالب، فلا تسل بعد ذلك عن الاعتراك والتصادم، والتناحر والتشاحن، ولذا وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- أحد صحابته وأمته من ورائه بقوله: "إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم".
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم