إدارة الأزمات المالية

ناصر القطامي

2022-10-05 - 1444/03/09
عناصر الخطبة
1/ أهمية المال واهتمام قلوب الخلق بالرزق 2/ حث الشريعة على السعي للكسب 3/ التقلبات الاقتصادية من سنن الحياة 4/ وسائل تطبيقية رسختها الشريعة لإدارة الأزمات المالية 5/ تحقق طمأنينة القلب بتطبيقها وبتفهّم طبيعة الرزق

اقتباس

ولاشك أن الخلق قد جبلوا على الاشتغال بأرزاقهم، والسعي خلف دنياهم؛ لتأمين حياة كريمة لهم ولأسرهم وأبنائهم، وقد يشق على البعض تدهور الظروف الاقتصادية من حوله والتي يشهدها العالم أجمع، وما أحوج الأمة اليوم -دولا ومؤسسات وأفرادا- إلى تأمل المنهج الإسلامي الفريد في إدارة الأزمات المالية، وتطبيق سياسته، وتحقيق معالمه.

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

عباد الله: مما لا شك فيه أن المال ضرورة في الحياة، فهو أحد الضروريات الخمس التي جاء الإسلام بالحفاظ عليها، وهي: الدين والنفس والعقل والعرض والمال، فالعبد يحتاج المال في كافة شؤون حياته؛ فبه يجلب الناس مصالحهم، ويستدفعون الضرر عن أنفسهم، وتقام به العبادات والمعاملات، وبه يتعفف الناس عن ذل السؤال.

 

ولذلك حَثَّ الإسلام على السعي لكسب المال من وجه مباح، والحصول عليه خاليًا من الظلم والتعدي وأكل الأموال بالباطل، قال -تعالى-: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّه) [الجمعة:10]، وقال -تعالى-: (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) [المزمل:20]. قال السعدي: "أي: علم اللَّه أن منكم مسافرين للتجارة ليستغنوا عن الخلق".

 

وقضية الرزق، كما لا يخفى، من القضايا التي تشغل بال الكثيرين، فما من أحد على وجه البسيطة -إلا من رحم الله- إلا وهو مهموم برزقه، مشغول به، دائم التفكر فيه؛ ومن سنن الله في هذا الكون أن يكون هناك تقلبات ومد وجزر في أحوال الدول واقتصادها، بل يمكن اعتبار التقلبات الاقتصادية والتحولات المالية واحدا من قوانين الحياة.

 

ولاشك أن الخلق قد جبلوا على الاشتغال بأرزاقهم، والسعي خلف دنياهم؛ لتأمين حياة كريمة لهم ولأسرهم وأبنائهم، وقد يشق على البعض تدهور الظروف الاقتصادية من حوله والتي يشهدها العالم أجمع، وما أحوج الأمة اليوم -دولا ومؤسسات وأفرادا- إلى تأمل المنهج الإسلامي الفريد في إدارة الأزمات المالية، وتطبيق سياسته، وتحقيق معالمه.

 

ومن أبرز تطبيقات المنهج الإسلامي في إدارة الأزمات المالية اللجوء إلى الله -تعالى-، واستغفاره، والاستعانة به؛ فملاذ المسلم -دائما وأبدا في أي نائبة- هو اللجوء لربه -سبحانه وتعالى-، والتضرع إليه، والاستعانة به -سبحانه وتعالى-، واستغفاره.

 

والله -عز وتعالى- عند ظن عبده به، وقد أوصى الزبير بن العوام ابنه عبد الله بقضاء دينه وقال له: "يا بني، إن عجزت عنه في شيء فاستعن عليه بمولاي"، فقال له: "يا أبت، من مولاك؟"، فقال: "الله"، قال عبد الله: "فو الله ما وقعت في كربة من دَينه إلا قلت: يا مولى الزبير اقض عنه دينه؛ فيقضيه".

 

وقد أرشدنا النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الاستغفار كطريق لتفريج الكربات، فيقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من لزم الاستغفار جعل الله من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب".

 

ومن الأذكار الواردة في هذا الشأن قول: "لا حول ولا قوة إلا بالله"، فقد قال مكحول: "من قال: لا حول ولا قوة إلا بالله ولا ملجأ من الله إلا إليه، كشف الله عنه سبعين باباً من الضر، أدناهن الفقر".

 

ثانيا: من الوسائل العملية التطبيقية التي أسس بنيانها، ورسخ دعائمها المنهج الإسلامي الفريد: "حسن التدبير في المال"، فالعاقل الفطن هو من يحسن إدارة أمواله، فحسن التدبير من تمام الحكمة، يقول أحد السلف: "حسن التدبير مفتاح الرشد، وباب السلامة الاقتصاد".

 

فالمسلم مطالب بأن يحسن التدبير في أموره المالية، فلا إسراف ولا تقتير، كما قال -تعالى-: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) [الإسراء:29]. قال الإمام ابن كثير –رحمه الله-: "أي: ولا تسرف في الإنفاق فتعطي فوق طاقتك، وتخرج أكثر من دخلك، فتقعد ملومًا محسورًا. ومتى بسطت يدك فوق طاقتك، قعدت بلا شيء تنفقه، فتكون كالحسير، وهو: الدابة التي قد عجزت عن السير، فوقفت ضعفًا وعجزًا".

 

وقد أورد ابن أبي الدنيا في كتابه "إصلاح المال" عن معاوية –رضي الله عنه-، قال: "إصلاح مال في يديك، أفضل من طلب الفضل من أيدي الناس، وحسن التدبير مع الكفاف أحب إليّ من الكثير". وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "أيها الناس، أصلحوا أموالكم التي رزقكم الله -عز وجل-، فإن إقلالاً في رفق، خير من إكثار في خرق".

 

ثالثا: ومن الوسائل المعينة على إدارة الأزمة المالية، أولا: الحرص على العمل وزيادة الدخل: فمما ينبغي على المرء إذا نزلت به نازلة، أو ضائقة مالية أن يسعى إلى إثراء مصدر دخله وتنويعه، فلا يعتمد على مصدر واحد، وعليه أن لا يحتقر أي عمل كان، فنبينا -صلى الله عليه وسلم- اشتغل برعي الغنم، ومن قبله عدد من أنبياء الله.

 

في الصحيحين، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، أنه قال: "من خير أعمالكم الحرث والغنم، وهو من عمل الأنبياء، وصاحب الحرث يؤجر في كل ما أصيب منه بعمله أو بغير عمله، حتى إنه يؤجر فيما ضرب الطير وجرت النملة والذرة".

 

فما أسعد المسلم، حين تعتدل أمامه مسالك الحياة، فيعمل ويتصبب عرقه، فيزكيه ذلك العرق ويطهره من فضلات الكسل وجمود النفس، ويكسب الكسب الحلال الطيب، وتستقيم يده، وهي تنفق من هذا الكسب الكريم، ويدخر لنفسه ما يحتاج إليه في غده! قال رسول الله لسعد بن أبي وقاص: "إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس".

 

فالإسلام لا يعرف المؤمن إلا كادحا عاملا، مؤديا دوره في الحياة، آخذا منها، معطيا لها: (هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) [الملك:15].

 

ومن الوسائل المعينة على إدارة الأزمة المالية -ثانياً- ترشيد الاستهلاك، فمن الضروري في حال الأزمات المالية أن يُرشّد الإنسان طرق استهلاكه، فيقدم الأهم على المهم، وما هو ضروري وعاجل على ما حقه التأخير والتأجيل.

 

ومن ذلك ترشيد الاستهلاك في عدم الإكثار من المباحات ووسائل الترفيه، بل ينال المرء ما يحتاج منها باتزان واعتدال.

 

ومن مسالك الترشيد تقليل المصاريف الاستهلاكية، فقد تأثر الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في عام الرمادة حتى تغير لونه، فروى الصحابي الجليل عياض بن خليفة، قال: رأيت عمر عام الرمادة وهو أسود اللون، ولقد كان أبيض، فتقول مم ذا؟ فيقول: كان رجلا أعرابياً، وكان يأكل السمن، واللبن، فلما أمحل الناس أصابتهم المجاعة، حرمها حتى يحيوا، فأكل الزيت، فتغير لونه وجاع وأكثر.

 

وقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من التنعم ولو كان بالمباحات؛ لأنه مظنة للسرف، وتضييع المال، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "إياكم والتنعم! فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين".

 

والترشيد لا يكون في المأكل والمشرب والملبس فحسب، بل يكون في العمران والأثاث والمراكب والملابس والمطاعم وغيرها، فإن منهج الإسلام تربية الناس لا على الاستهلاك وإنما على الاستغناء عن الأشياء بدل الاستغناء بها حتى لا تستعبدهم المادة كما هو حال كثير من الناس اليوم؛ إذ أصبحوا منساقين بلا إرادةٍ ولا تبصُّرٍ إلى الإسراف وهدر الأموال فيما لا ينفع؛ تقليداً لغيرهم، أو للتباهي بها عبر شبكات التواصل الاجتماعي ونحوها.

 

بارك الله لي ولكم...

 

 

الخطبة الثانية:

 

ثالثا: ومن الوسائل المعينة على إدارة الأزمة المالية: الحذر من الاقتراض والاستدانة، فمن أهم الأمور اللازمة حتى لا تتراكم الأزمة أن يتجنب الإنسان الاستدانة قدر استطاعته، فالدَّين مشروع، لكن العاقل لا يعمد إليه إلا في حال الاضطرار الشديد، شريطة أن يكون لأجل توفير الاحتياجات الضرورية، وليس توسعا في المصاريف الاستهلاكية أو المستلزمات الكمالية؛ لأن ذلك مما يتنافى مع مقاصد الشريعة الإسلامية، فالدَّين يُكثر الهم، ويشغل الذمم؛ ولذا حذر منه النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان يستعيذ منه، فعن أنس بن مالك قال: كان النبي--صلى الله عليه وسلم- يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضلع الدين، وغلبة الرجال".

 

قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: "وكثير من الناس يتهاون بأمر الديْن، فيستدين لأمور كمالية لا حاجة له بها، بل قد يستدين لأمور محرمة تلحقه بالمسرفين، وهذا غلط: سفه في العقل وضلال في الدين؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يرشد الرجل الذي طلب منه أن يزوجه ولا مهر لديه أن يستقرض؛ بل قال له: "التمس ولو خاتمًا من حديدمع أن الزواج أمر ضروري من حيث الفطرة، ومشروع من حيث السنة، ومع ذلك لم يرشده النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أن يستقرض".

 

وبعد: أيها المؤمنون، فهنيئا لمعاشر أهل الإيمان، إذ إن أمر المؤمن كله خير، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، والله -جل وعلا- حكيم عليم، يُدبر الأمر، ويُسير الخلق، والعبد عبده، والخلق خلقه، ولا إله غيره، يصرف الأمور كيف يشاء، لا راد لأمره، ولا دافع لقضائه، وله الحكمة البالغة في أقداره، وتوزيع أرزاقه، (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ) [الإسراء:30].

 

وجود الله لا يُحد، وكرمه لا يُعد، والمؤمن مأمور ببذل الأسباب، والرزق كله بيد مسبب الأسباب؛ فلا تجزع لضائقة، ولا تقلق لكرب، ولا تغتم لهم، فرزقك مقسوم، وقدرك معلوم، وأجلك محتوم، فعلام الهموم؟.

 

 

المرفقات

الأزمات المالية

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات