عناصر الخطبة
1/ أهمية السعادة وخطر العناء والشقاء 2/ مشارب البشر في مفهوم السعادة 3/ حقيقة السعادة وماهيتها 4/ بعض أحوال من فهموا حقيقة السعادة 5/ مواطن السعادة 6/ مدمرات السعادةاقتباس
إن الحديث عن السعادة والشقاء، سيظل باقياً ما دام في الدنيا حياة وأحياء، وإن كل إنسان على هذه البسيطة ليبحث عن السعادة جاهداً، ويود الوصول إليها والحصول عليها، ولو كلفه ذلك كل ما يملك، ألا وإن جمعاً من الواهمين يعرفون السعادة بأنها لا حقيقة لها، وأنها ..
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله...
أما بعد: سؤال نبدأ به خطبتنا هذه الجمعة، وجوابه هو موضوعها: أين تكون السعادة؟ وأين يكون الشقاء ؟.
إن الحديث عن السعادة والشقاء، سيظل باقياً ما دام في الدنيا حياة وأحياء، وإن كل إنسان على هذه البسيطة ليبحث عن السعادة جاهداً، ويود الوصول إليها والحصول عليها، ولو كلفه ذلك كل ما يملك، ألا وإن جمعاً من الواهمين يعرفون السعادة بأنها لا حقيقة لها، وأنها خيال يبتدعه الوهم ويكذبه الواقع.
والحق أن هؤلاء جاهلون أو مخادعون؛ لأنه لا يعقل البتة أن يخلقنا الله ثم يريد لنا أن نشقى جميعا، كيف ذلك والله يقول لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (طه* مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءانَ لِتَشْقَى)؟! [طه:1-2].
ويقول -جل وعلا-: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى) [طـه:123].
السعادة هي: جنة الأحلام التي ينشدها كل البشر؛ من المثقف المتعلم في قمة تفكيره وتجريده، إلى العامي في قاع سذاجته وبساطته، ومن السلطان في قصره المشيد، إلى الصعلوك في كوخه الصغير، ولا نحسب أحداً منهم يبحث عمداً عن الشقاء لنفسه أو يرضى بتعاستها.
إن فقدان السعادة من قلب المرء؛ يعني -بداهةً- حلولَ القلق والاضطراب النفسي في شخصه، فتجتمع عليه السباع الأربعة، التي تهد البدن وتوهنه، ألا وهي: الهم والحزن والأرق والسهر.
ولا أشد من وقوع الهمّ في حياة العبد؛ إذ الهمّ جند من جنود الله -عز وجل- سلطه على من يشاء من عباده ممن كان ضعيف الصلة بالله، غارقاً في المعاصي والذنوب: (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) [الفتح: 4].
سئل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: من أشد جند الله؟ قال: "الجبال يقطعها الحديد؛ فالحديد أقوى، والنار تذيب الحديد؛ فالنار أقوى، والماء يطفئ النار؛ فالماء أقوى، والسحاب يحمل الماء؛ فالسحاب أقوى، والريح تعبث بالسحاب؛ فالريح أقوى، والإنسان يتكفأ الريح بيده وثوبه؛ فالإنسان أقوى، والنوم يغلب الإنسان؛ فالنوم أقوى، والهم يغلب النوم؛ فأقوى جند الله هو الهمّ يسلطه الله على من يشاء من عباده".
إذاً -يا عباد الله- السعادة والطمأنينة عطاء من الله ورحمة، كما أن الهمّ والقلق والضيق غضب من الله ومحنة.
السعادة تسير مع الإنسان حيث استقلت ركائبه، وتنزل إن نزل، وتُدفن في قبره معه.
أيها المسلمون: اختلفت مشارب الناس في فهم السعادة فتوجه كل بحسب مشربه: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا) [البقرة:148].
فمن الناس من ظنّ أن السعادة في الملك كفرعون، وفعلاً مَلَك، ولكنه ملك بلا إيمان، وتسلط بلا طاعة، فتشدق في الجماهير (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي) [الزخرف:51].
ونسي أن الذي ملّكه هو الله، والذي أعطاه مصر هو الله، والذي جمع له الناس هو الله، والذي أطعمه وسقاه هو الله، ومع ذلك يجحد هذا المبدأ ويقول: (مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي) [القصص:38].
فكان جزاء هذا العتو والتكبر والتمرد على الله، إنه لم يتحصل على السعادة التي طلبها، بل كان نصيبه الشقاء والهلاك واللعنة بعينها (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى) [النازعات:25].
ويقول الله عنه وعن مثله: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) [غافر:46].
ومن الناس من ظنّ أن السعادة في جمع المال كقارون، فمنحه الله كنوزاً كالتلال ما جمعها بجهده ولا بذكائه ولا بعرقه ولا بعبقريته، وظنّ أنه هو السعيد وحده، وكفر نعمة الله، وقد حذره ربه، وأنذره مولاه مغبة تصرفاته فأبى وأصر على تجريد المال من الشكر، والسعي في الأرض فساداً، فكان الجزاء المر: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ) [القصص:81].
ومن الناس من ظنّ أن السعادة في كثرة الولد، كالوليد بن المغيرة، فآتاه الله عشرة من الأبناء، كان يحضر بهم المحافل؛ خمسة عن يمينه، وخمسة عن يساره ونسي أن الله خلقه فرداً بلا ولد (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا) [المدثر:11-16].
فماذا فعل، وكيف تصرف؟
أخذ عطاء الله من الأبناء، فجعلهم جنوداً يحاربون الله إلا من رحم ربك، فقال الله فيه: (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ) [المدثر:26-30].
ومن الناس من يظنّ بأن السعادة في الشهرة؛ فيقضي ساعاته في توجيه الناس إليه؛ ليصبح معبود الجماهير كما يقال، وحديث الركبان وشاغل الدنيا، فيقتلعه ربك من جذوره، ويمحق سعيه: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ) [الرعد:17].
ومن الناس من يظنّ أن السعادة في الفن؛ الفن المتهتك الخليع الماجن، فيدغدغ الغرائز ويلعب بالمشاعر، ويفتن القلوب ويسكب الغرام في النفوس، فيحمّله الله ذنوب من أغواهم، دون أن ينقص من ذنوبهم شيئاً، ويحجب الله السعادة عن كل من لم يعترف بألوهيته ويدين بربوبيته، فيقول: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) [طه:124-126].
ومن الناس من يرون السعادة في الوظيفة والسلطة، وتغمره السعادة عندما يفسح له في المجالس ويصغى إليه عندما يتحدث، لهذا يحيى وعليه يموت، ولم يعتبر بمن قبله ممن خدع بهذه السلطة، وإذا به يفقد وظيفته فتنقلب الدنيا عليه، وتكون سعادته تلك ديناً عليه، يقضيه هماً وغماً، تضطره تلك الوظيفة بعد فقدها إلى أن يغلق باب بيته عليه، ينشد نسيان ذلك الماضي التعيس.
ومن الناس من طلب السعادة في زوج وولد، فلما حصلهم واستووا، إذا بهم ألد أعدائه وأشد خصومه، ينغصون عليه حياته يتمنون علانية ساعة موته؛ لينقضوا على ما بقي من تركة يقتسمونه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) [التغابن:14].
ومن الناس من ظنّ أن السعادة في الشهرة، فهو لاعبٌ ماهر، أو هو فنان قدير، أو هو شاعر رقيق، أو هو مغنٍ صفيق، أو هو كاتب ساخرٌ مرغوبٌ في القراءة له.
وكل ذلك من أجل أن يُصدّر اسمه بقولهم: النجم الساطع، والكوكب اللامع.
ومسكين ذلك اللاعب وذلك المغني وذلك الممثل، ينظر أمامه وينظر خلفه وعن يمينه وعن شماله، فإذا الآلاف من الناس يصفقون له ويشجعونه، وربما حملوه على الأعناق، وربما يُسِرت له المعاملات وربما التقطت معه الصور؛ أي تغريرٍ له أعظم من هذا التغرير؟! هل سيتفطن إلى أن بحثه عن الشهرة ربما كان سبب هلاكه؟! وهل سيتفطن إلى أن هؤلاء الذين يصفقون له ويطبلون، سينسونه يوم يوارى في التراب؟!.
ومن الناس من غدا يبحث عن السعادة في اللهو والعبث؛ فتراه تارةً في ملهى وتارة في مقهى، وأخرى على شاطئ وغيرها في سوق، وهكذا تمر عليه الأيام والشهور والسنين. طلبوها من طرق منحرفة، فكانت هذه الطرق سبباً لدمارهم وهلاكهم.
كل هؤلاء -عباد الله- كانت نظرتهم للسعادة قاصرة، لا تجاوز مواطئ أقدامهم.
السعادة -يا رعاكم الله- أمر لا يقاس بالكم ولا يشترى بالدنانير، لا يملك بشر أن يعطيها، كما أنه لا يملك أن ينتزعها ممن أوتيها.
السعادة دين يتبعه عمل، ويصحبه حمل النفس على المكاره، وجبلها على تحمل المشاق والمتاعب، وتوطينها لملاقاة البلاء بالصبر، والشدائد بالجلد، والسعيد من آثر الباقي على الفاني (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا) [مريم:96].
السعادة هي الرضا بالله والقناعة بالمقسوم، والثقة بالله، واستمداد المعونة منه؛ فمن ذاق طعم الإيمان ذاق طعم السعادة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا" [رواه مسلم].
السعادة هي الرضا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- رسولاً وإتباع هذا الرضا بركعات وسجدات وخضوع وتسليم لله.
السعادة والفلاح -عباد الله- في الإسلام الذي هو الاستسلام الكامل لله -جل وعلا-، والخضوع له والخلوص له من الشرك والأنداد، والخروج عن داعية الهوى إلى داعية الرحمن: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [النحل:97].
السعادة وجدها نبي الله يونس بن متى وهو في ظلمات ثلاث: في بطن الحوت، في ظلمة اليم، في ظلمة الليل، حين انقطعت به الحبال إلا حبل الله، وتمزقت كل الأسباب إلا سبب الله، فهتف من بطن الحوت بلسان ضارع حزين: (لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء:87]. فوجد السعادة.
السعادة وجدها موسى -عليه السلام- وهو بين ركام الأمواج في البحر، وهو يستعذب العذاب في سبيل الواحد الأحد: (قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الشعراء:62].
السعادة وجدها محمد -عليه الصلاة والسلام- وهو يطوّق في الغار بسيوف الكفر، ويرى الموت رأي العين، ثم يلتفت إلى أبي بكر ويقول مطمئناً: (لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا) [التوبة:40].
السعادة وجدها يوسف -عليه السلام- وهو يسجن سبع سنوات، فيسألونه عن تفسير الرؤى، فيتركها، ثم يبدأ بالدعوة، فيقول: (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) [يوسف:39].
فيعلن الوحدانية، فيجد السعادة.
السعادة وجدها أحمد بن حنبل في الزنزانة، وهو يجلد جلداً لو جُلده الجمل لمات، كما قال جلاّدوه، ومع ذلك يصر على مبدأ أهل السنة والجماعة فيجد السعادة.
السعادة وجدها شيخ الإسلام ابن تيمية وهو يُكبّل بالحديد، ويُغلِق عليه السجان الباب، داخل غرفة ضيقة مظلمة، فيقول ابن تيمية: (فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ) [الحديد:13].
ثم يلتفت إلى الذين هم خارج السجن، فيرسل لهم رسالة، وينشد لهم نشيداً، وينقل لهم نبأً وخبراً من السجن، فيقول: "ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، إن سرت فهي معي، أنا قتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، وسجني خلوة".
هذه هي السعادة، وهذه بعض أحوال السعداء، ولا يكون ذلك إلا في الإيمان والعمل الصالح، الذي بُعث به الرسول -عليه الصلاة والسلام-؛ فمن سكن القصر بلا إيمان كتب الله عليه: (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا) [طه:124].
ومن جمع المال بلا إيمان ختم الله على قلبه: (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا).
ومن جمع الدنيا وتقلد المنصب بلا إيمان جعل الله خاتمته: (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا).
قال أهل السير والتاريخ: لما استقر هارون الرشيد في الخلافة، وتولاها بعد أبيه أنفق الكنوز والقناطير المقنطرة في عمارة قصر على نهر دجلة، يدخل النهر من شمال القصر، ويخرج من جنوبه، وعمّر الحدائق التي تطل وتتمايل على النهر، ثم رفع الستور، وجلس للناس، فدخل الناس يهنئونه بقصره وبحدائقه، وكان فيمن دخل أبو العتاهية، فوقف أمام هارون الرشيد وقال له:
عش ما بدا لك سالماً *** في ظل شاهقة القصور
فارتاح هارون لهذا الكلام، وقال: زد، فقال:
يُجرى عليك بما أردت *** مع الغدوّ مع البكور
أي: يأتيك الخدم والجواري بالأطعمة والأشربة، وكل ما أردت صباحاً ومساءً، قال: زد، فقال:
فإذا النفوس تغرغرت *** بزفير حشرجة الصدور
فهنـاك تعلم موقناً *** ما كنت إلا في غرور!
قال: أعد أعد، فقال: فإذا النفوس تغرغرت، يعني إذا حضرت سكرات الموت، وحان الأجل، وبلغت الروح التراقي: (وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ) [القيامة: 27].
والتُمس الطبيب، وذلك الذي يحيد منه العبد.
فإذا النفوس تغرغرت *** بزفير حشرجة الصدور
فهنـاك تعلـم موقنـاً *** ما كنت إلا في غرور!
إذا أتتك سكرات الموت، وأشرفت على الهلاك، سوف تعلم أنك كنت تضحك على نفسك، وأنك كنت تعبث كما يعبث الصبيان.
فبكى هارون حتى وقع على الأرض، ثم أمر بالستور فهتكت، والأبواب فأغلقت، ونزل في قصره القديم، فلم يمض عليه شهر واحد، حتى أصبح في عداد الموتى.
أيها المسلمون: من أراد السعادة فليلتمسها في المسجد؛ صلاةً وجلوساً وتعلقاً، من أراد السعادة فليلتمسها في المصحف: قراءةً وتدبراً وحفظاً.
من أراد السعادة فليلتمسها في السنة؛ اتباعاً وتطبيقاً ومنهجاً.
من أراد السعادة فليلتمسها في الذكر، في التلاوة، في الهداية، في الاستقامة، في الالتزام، في اتباع محمد -صلى الله عليه وسلم-.
إن السعيد من سعد بطاعة الله، والشقي من شقي بمعصيته لله، قال الله -تعالى-: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآَخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) [هود:103-108].
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه...
أما بعد: ألا فاعلموا -عباد الله- أن لفقدان السعادة أبواباً ينبغي إحكام إغلاقها، وكشف عوراتها؛ فمن ذلك -ونحن على أبواب العطلة الصيفية-: ما يكثر من الحفلات الغنائية تحت مسمى السياحة، والغناء مزمار الشيطان، ورقية الزنا، الذي ينبت النفاق والقلق كما ينبت الماء الكلأ، يقول الله فيه: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ) [لقمان:6].
ومن مهلكات السعادة جعل البيت المسلم محلاً لمردة الجن وبُعد الملائكة، وذلك بنشر الصور التي حرمها الشارع على جدرانه وفي فنائه، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب أو صورة".
فما بال الكثيرين يغلقون أبوابهم في وجوه الملائكة، ويستدعون أسباب الشقاء والقلق، ثم هم ينشدون السعادة بعد ذلك؟.
وأيضاً من أبواب الشقاء: الذنوب والمعاصي التي قال عنها المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه" [رواه الإمام أحمد].
وقد قال الإمام أحمد -رحمه الله- في مسنده: "وجد في خزائن بني أمية حنطة، الحبة بقدر نواة التمر وهي في صرة مكتوب عليها: هذا كان ينبت في زمن العدل".
ومن أسباب القلق- أيضاً- وذبح السعادة التهاونُ بشأن الصلاة أو التقليل منها، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "وجعلت قرة عيني في الصلاة".
وكان إذا حزبه أمر واشتد عليه لجأ إلى الصلاة.
وأيضاً: فإن ترك الذكر والدعاء والاستغفار محل للشقاء والهم والحزن، ولذا كان لزاماً على من ينشد السعادة ألا يغفل هذا الأمر المهم، بل عليه أن يمسك بزمامه، ويعضّ عليه بالنواجذ، وليعلم أن بالذكر والدعاء والاستغفار سيجعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب.
دخل الرسول -صلى الله عليه وسلم- المسجد ذات يوم فإذا هو برجل من الأنصار، يقال له: أبو أمامة، فقال: "يا أبا أمامة، مالي أراك جالسا في المسجد في غير وقت الصلاة؟" قال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله، قال: "أفلا أعلمك كلاماً إذا قلته أذهب الله همك، وقضى عنك دينك؟" قال: بلى يا رسول الله، قال: "قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال"، قال أبو أمامة: ففعلت ذلك، فأذهب الله همي، وقضى عني ديني" [رواه أبو داود].
اللهم إنا نعوذ بك من الهم والحزن، ونعوذ بك من العجز والكسل، ونعوذ بك من الجبن والبخل، ونعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال.
اللهم رحمة...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم