عناصر الخطبة
1/ تأملات في رحلة الحج 2/ فضائل أيام التشريق 3/ فضل ذكر الله تعالى.اقتباس
الحجُّ رحلةُ العُمُرِ! فما أعظمَهُ مِنْ مَنظَرٍ! وَمَا أَجمَلَهُ من رَكْبٍ! فهل رأيتم لِبَاساً أجملَ من لباس الحُجَّاجِ والمعتمرين؟ وَأَعذَبَ مِن تَلْبيةِ المُلبيِّنَ وأنينِ التَّائِبِينَ؟ إنَّهم أسرابُ الحَجِيجِ توافَدُوا إلى البيتِ العَتِيقِ! وإنَّ تأمُّلاتٍ مع هذا الرَّكبِ المُبارَكِ تجعلُنا نأخذُ دُروساً وَحِكَمَاً! وَمَوَاعِظَ وَعِبَراً!...
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ بَاسِطِ الْخَيْرَاتِ، ومُضَاعِفِ الْحَسَنَاتِ، وغَافِرِ السَّيِّئَاتِ، يُطَاعُ فَيَشْكُرُ، وَيُعْصَى فَيَغْفِرُ، نَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمٍ أَتَمَّهَا، وَمِحَنٍ رَفَعَهَا، وَبَلَايَا رَدَّهَا، وَنَشْكُرُهُ عَلَى مَا شَرَعَ لَنَا مِنَ المَنَاسِكِ، وَمَا عَلَّمَنَا مِنَ الْأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ والمَقَاصِدِ، لَوْلَاهُ لَضَلَلْنَا وما تَعَلَّمنا ولا اهتَدَينا: (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [النساء: 176].
نَشهَدُ ألا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له في أُلوهيَّتِهِ وربُوبِيَّتِه, وَنَشهَدُ أنَّ مُحمَّدَا عبدُ اللهِ وَرَسُولُهُ قَائدُ أُمَّتِهِ,دَلَّنَا عَلَى مَا يَنْفَعُنَا,وَحَذَّرَنَا مِمَّا يَضُرُّنَا، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحَابَتِهِ وَمَنْ تَمَسَّكَ بِسُنَّتِهِ إلى يَومِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ يا مُؤمِنُونَ وَأَطِيعُوهُ؛ فَإِنَّكُمْ فِي أَيَّامٍ تَتَأَكَّدُ فِيهَا التَّقْوَى، وَفِي زَمَنٍ اشْتَدَّتِ فِيهِ الْفِتَنُ، وَالمِحَنُ والبَلوى، وَلَا غِنى لَنا عَنِ اللَّهِ -تَعَالَى- وَحِفْظِهِ وَتَثْبِيتِهِ طَرفَةَ عينٍ فاللهُ هو الذي: (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ) [إبراهيم: 27].
عبادَ اللهِ: الحجُّ رحلةُ العُمُرِ! فما أعظمَهُ مِنْ مَنظَرٍ! وَمَا أَجمَلَهُ من رَكْبٍ! فهل رأيتم لِبَاساً أجملَ من لباس الحُجَّاجِ والمعتمرين؟ وَأَعذَبَ مِن تَلْبيةِ المُلبيِّنَ وأنينِ التَّائِبِينَ؟ إنَّهم أسرابُ الحَجِيجِ توافَدُوا إلى البيتِ العَتِيقِ! وإنَّ تأمُّلاتٍ مع هذا الرَّكبِ المُبارَكِ تجعلُنا نأخذُ دُروساً وَحِكَمَاً! وَمَوَاعِظَ وَعِبَراً! فأوَّلُ: درسٍ حينَ تسمعُ أصواتَ الْمُلبِّينَ ودُعاءَ الْمُخبتينَ, فإنَّكَ تُوَّحِّدُ اللهَ عزَّ وجلَّ وتفردُه بالعبادة! حُبَّاً وتَعظِيمَاً, وَخَشْيَةً وَرَجَاءً, فاللهُ -تَعَالَى- يَقُولُ: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [إبراهيم: 25]، حقَّاً إنَّهُ توحيدٌ خالصٌ انطلقَ من مكةَ المكرمةَ! حينَ كُسِّرتِ الأصنامُ! وأَعلنَها رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "اللهمَّ حجةً لا رياءَ فيها ولا سمعةً".
بل أعلنَ للنَّاسِ بقولِه وفعلِه أنَّ هديَه مُخالِفٌ لِهدي المُشركينَ! فمن أعظمِ مقاصدِ الحجِّ أنْ نكونَ: (حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ)؛ لأنَّ العزَّ والتَّمكينَ بمخالَفَةِ سَبِيلِ المُشرِكِينَ! والذِّلةُ والصَّغارُ بِتَولِّي وإتباعِ سبيلِ المُشرِكينَ!
عبادَ الله: مَنْ يُشاهدُ مواكِبَ الْحَجِيجِ, يُدرِكُ أنَّ الأمةَ لا يمكنُ أنْ يؤلِّفَها ويجمعَها إلا دينُ الله تعالى! فالحُجَّاجَ كالجسدِ الواحدِ! قَد أَسقَطُوا كُلَّ هُتافٍ وطنيٍّ, أو شِعَارٍ قَوميٍّ! فلا تَفَاخُرَ بالأَنسَابِ, ولا الأَحسابِ, إنِّما هو ميزانٌ واحدٌ: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات: 12].
عباد اللهِ: وَأَعْظَمُ دُرُوسِ الحجِّ أنَّه يبيِّن يُسرَ الشَّريعةِ الغرَّاءِ وأنَّ الله يُريدُ بِنَا اليُسرَ ولا يريدُ بنا العُسرَ فَأعظمُ سِمَةٍ في حَجَّةِ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قولهُ: "افعل ولا حرج".
ويُسرُ الشَّريعَةِ أيُّها الكِرامُ: لا يَعني تَتَبُّعَ الرُّخصِ أو التَّساهُلَ في أخذِ أحكامِ الدِّينِ بل من أعظمِ دُروسِ الحجِّ أنَّهُ يَربِي المسلمَ على حُسْنِ الإتِّباع والاقتداءِ برسولِ اللهِ قولاً وعملاً! ألم يكن رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يردِّدُ في الحجِّ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، خُذُوا عنِّي مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ عَامِي هَذَا".
فما بالُ كثيرٍ من إخوانِنا صاروا يبحثُونَ عن المَعَاذِيرِ والرُّخصِ,عندَ أدنى سَبَبٍ,ومِن أيِّ مُفتٍ! فأثمنُ شيءٍ لَدَيكَ أيُّها المُسلِمُ دِينُكَ، وأَعظمُ بِضاعةٍ تَسعى لها تَحقيقُ تقوَاكَ لربِّكَ، ولن يكونَ ذالك إلا بأخذِكَ بالعِلم الشَّرعيِّ الصَّحِيحِ!
عبادَ اللهِ: ومن أعظم دُرُوسِ الحجِّ أنَّهُ يُربِّي المُسلِمَ على تقوى اللهِ تَعالى! في كُلِّ مَنَاسِكِ الحجِّ أو العُمرَةِ, لذا كَثُرَةِ الوصيَّةُ بالتَّقوى فيهما! فلمَّا قالَ اللهُ: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) قال في آخِرِها: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [البقرة: 197]، إنَّها التَّقوى التي هي جِمَاعُ الخيرِ كلِّه!
أيُّها المؤمنُ: وأنتَ تشاهدُ قُرَابَةَ ثَلاثَةَ مَلايينِ حاجٍّ فإنَّكَ ترتبطُ مُباشرةً باليوم الآخر! حتى كأنَّكَ تَرَى القِيَامَةَ رَأْي العَينِ! فعِندَ النَّفرَةِ أفواجٌ, وفي الرَّمي زِحامٌ,وفي المطافِ زِحامٌ, فَتَتَذَكَّرُ قولَ اللهِ: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) [مريم: 93- 95]، فَسُبحانَكَ رَبَّنا ما أَعظَمَكَ, مَا أعلَمَكَ, وما أَرحَمَكَ أقولُ ما سَمِعتُم وأستغفرُ الله لي ولكم وللمسلِمين, من كلِّ ذنبٍ, فاستغفروه إنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
الخطبة الثَّانية:
الحمدُ لله وفَّقَ مَنْ شَاءَ لِعبَادَتِهِ,نشهدُ ألا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له في قَيُّومِيَّتِهِ, وَنَشْهَدُ أنَّ محمدا عبدُ الله ورسولُه قائدُ أمتِهِ,صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آلِهِ وصَحَابَتِهِ, وَمَنْ تَمَسَّكَ بِسُنَّتِهِ.
أمَّا بعدُ: فاتَّقوا الله يا أولي الألبابِ لَعَلَّكم تُفلحونَ.
أَيُّهَا المُسلِمونَ: لقد تَقرَّبْنا إلى اللهِ بِصِيامِ يِومِ عِرِفِة وبِذبْحِ الأضاحي, وَوَقَفَ إِخْوَانُنا الْحُجَّاجُ فِي عَرَفَاتٍ، وَأَلَحُّوا عَلَى اللَّهِ بِالدَّعَوَاتِ، وَسَكَبُوا الْعَبَرَاتِ، فَمَا ظَنُّكُمْ بِاللَّهِ الْكَرِيمِ وَهُمْ يَسْأَلُونَهُ وَيَدْعُونَهُ؟ مَا ظَنُّكُمْ بِالْغَنِيِّ الْحَمِيدِ وَهُمْ يَرْجُونَهُ وَيُؤَمِّلُونَهُ؟ أَتَظُنُّونَ أَنَّ الْكَرِيمَ يَرُدُّهُمْ؟ أَمْ تَظُنُّونَ أَنَّ الرَّحِيمَ يُعَذِّبُهُمْ؟ لَا وَاللَّهِ لَا يَرُدُّهُمْ رَبُّنَا وَلَا يُخَيِّبُهُمْ. هَذَا ظَنُّنَا بِاللهِ رَبِّنا,واللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: "أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي".
فيا مُؤمِنُونَ: تقبَّل اللهُ منَّا ومنكم صالحِ القولِ والعملِ, لقد منَّ الله عليكم بِطَهارَةِ أنفُسِكم وبَيَاضِ صَحَائِفكُم, فابقَوا على عهدِ ربِّكم وتَابِعوا الحَسَنَاتِ بالحسناتِ وأكثروا من الصَّالحاتِ: (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا) [الكهف: 46]، لَقد لازَمْتُمُ الذِّكرَ أيَّاماً عَدِيدَةً فكُونُوا من الذَّاكِرينَ اللهَ كثيراً, وأمِّلوا خَيراً وافْعَلُوا الخَيرَ وتَزَوَّدُوا مِنهُ واعْلَمُوا أنَّ خَيرَ الزَّادِ التَّقوى.
أيُّها المُؤمِنُونَ: نَحنُ في أوَّلِ أيَّامِ التَّشريقِ التي قَالَ عنْها رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أيَّامُ التَّشريقِ أيامُ أكلٍ وشُربٍ وذِكرٍ للهِ عَزَّ وَجَلَّ".
وأيَّامُ التَّشريقِ هي اليومُ الحَادِي عَشَرَ والثَّانِي عَشَرَ والثَّالِثَ عَشَرَ مِن ذِي الحِجَّةِ، وَسُمِّيت بِذَلِكَ لأنَّ النَّاسَ قَديمَاً يَنشُرونَ الُّلحومَ في الشَّمْسِ لِتَجْفِيفِها. هيَ أَيَّامٌ مُبارَكةٌ اجتمَعَ لَنَا فِيها نَعِيمَانِ: نَعيمُ القَلْبِ بِالذِّكرِ والشُّكر، وَنَعِيمُ البَدَنِ بِالأكلِ والشُّربِ!
وَلَمَّا كَانَ صَومُها مَانِعًا مِنْ تَحقِيقِ ذَلِكَ، فَقد نُهِيَ المُسلِمُونَ عَنْ صِيَامِها لأنَّها مِن أَعيَادِ المُسلمينَ، عَن عُقبَةَ بنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يَومُ عَرَفَةَ وَيَومُ النَّحرِ وَأَيَّامُ التَّشريقِ عِيدُنا أَهلَ الإسلامِ، وَهُنَّ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُربٍ".
وَسُبحانَ اللهِ في هذا الحَدِيثِ سِرٌّ عَجِيبٌ يُبَيِّنُ حَقِيقَةَ التَّعَبُّدِ للهِ تَعَالى! فَفِي رَمَضَانَ يَتَعَبَّدُ المُسلِمُ لِلهِ بالامتِنَاعِ عَنْ الأَكْلِ والشُّربِ حَالَ الصِّيامِ، وَفِي هَذهِ الأَيَّامِ يَتَعَبَّدُ لِلهِ بِالأَكْلِ والشُّربِ وَتَرْكِ الصِّيامِ امتِثالاً لِأَمْرِ اللهِ -تعالى-!
أيُّها المُسلِمونَ: وفي الحَدِيثِ إِشَارَةٌ إلى أنْ الأَكْلَ والشُّربَ فِي هَذهِ الأَيَّامِ يُستَعَانُ بِهِ على طَاعَةِ اللهِ -تَعَالَى-، لا على مَعْصِيَتِهِ، فَلا مَانِعَ مِن التَّوَسُّعِ فِي الأَكْلِ والشُّرْبِ مَا لَمْ يَصِلْ إلى حَدِّ الإِسرَافِ أَو التَّهَاوُنِ بالنِّعَمِ! فَيَنْتِقِلُ الإنسَانُ مِنْ العُبُودِيَّةِ للهِ تَعَالى إِلى أُخُوَّةِ الشَّيَاطِينِ: (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ) [الإسراء: 27].
إذَا كُنتَ فِي نِعمَةِ فَارْعَهَا *** فَإِنَّ المَعَاصِي تُزِيلُ النِّعَم
وَدَاوِمْ عَليهَا بِشُكْرِ الإِلَهِ *** فَشُكْرُ الإلَهِ يُزِيلُ النِّقَمِ.
(فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) [البقرة: 152]، فَشُكْرُ اللهِ بالقَولِ والفِعْلِ سَبَبٌ لرِضْوَانِهِ, قَالَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إنَّ اللهَ ليَرضَى عن العَبْدِ أنْ يَأكُلَ الأَكلَةَ فَيَحمَدَهُ عَليها، وَيَشْرَبَ الشَّربَةَ فَيَحمَدَهُ عَلَيها".
أيُّها المُسلِمونَ: أَيَّامُ التَّشرِيقِ أيَّامُ ذِكْرٍ لِلهِ -تَعالَى-، عَقِبَ الصَّلَوَاتِ المَكْتُوبَةِ، وَمِن العُلَمَاءِ مَنْ يَرى أنَّ التَّكبِيرَ مُطْلَقٌ فِي سَائِرِ أَحوَالِ أَيَّامِ التَّشرِيقِ كُلِّها وفي كُلِّ أوقَاتِها! لِأَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- خَصَّها بِالذِّكْرِ فَقَالَ: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ) [البقرة: 200]، وَهَذا الأَمْرُ لِلحَاجِّ وَغَيْرِ الحَاجِّ، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الإمَامُ القُرْطُبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي تَفسيرِهِ، في أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ وَفِي المَسَاجِدِ والمَنَازِلِ والطُّرُقَاتِ وَغَيرِ ذَلِكَ.
الذِّكرُ يا مُؤمِنُونَ دَائِرَةٌ واسِعَةٌ، لَيست مَحدُودةً في وَقْتٍ، أو في مَكانٍ مُحَدَّدٍ، ثُمَّ يَنْطَلِقُ العَبدُ بَعَدَهَا كَمَا يَشَاءُ وَيَفْعَلُ مَا يريدُ كَلاَّ, فَالمُسلِمُ يَصْحو وينامُ، وَيغْدُو وَيَرُوحُ، وهو يَلهَجُ بِذكرِ اللهِ تعالى: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاواتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران: 191]، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ؟ وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ تَعَاطِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَمِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ غَدًا فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ، وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ" قَالُوا: بَلَى. يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: "ذِكْرُ اللهِ"، فاعمروا أوقاتَكم بذِكرِهِ.
واجْعَلُوا ألسِنتَكُم رَطبَةً بِذكرِه, فَقَدْ كَانَ رَسُولُنا يَذكُرُ اللهَ على كُلِّ أَحْيَانِه. وكأنِّي بِأيامِ العشرِ وما تخلَّلها من أنواعِ العبادَةِ والطَّاعَةِ بدَورةٍ تَدرِيبِيَّةٍ عَمَليَّةٍ تَربِطُنا وتُعَلِّمُنا الذِّكرَ حقيقةً قَولاً وعمَلاً! حتَّى نَكونَ من الذَّاكِرينَ اللهَ كَثِيراً.
وأيامُ العشرِ عبادَ اللهِ: مَدرَسَةٌ تُعَلِّمُنا كَيفِيَّةَ الالتزامِ بِأَوامِرِ اللهِ حقيقةً, فَلمْ نأخُذْ من شَعْرِنا وظُفُرِنا وَبَشَرَتِنا شيئاً! فالتَزَمْنَا بِذَلِكَ رَجَاءَ قَبولِ أُضحِيتِنا,وامتِثالاً لأمر ربِّنا! فالواجِبُ أنْ تَكونَ دَرساً لنا في مُحاسَبَةِ أنفسنا في كلِّ أوامِرِ رَبِّنا ونَوَاهِيهِ! ولقد أَمَرَنا رَسُولُنا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِإِحْفَاءِ الشَّوَارِبِ وَإِعْفَاءِ اللِّحْيَةِ,كَيفَ وَقالَ: "جُزُّوا الشَّوَارِبَ وَأَرْخُوا اللِّحَى خَالِفُوا الْمَجُوسَ".
فاللهمَّ تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ, وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ, اللهمَّ أعنَّا على ذِكركَ وشُكركَ وحسنِ عبادتِكَ, اللهمَّ اجعلنا من الذَّاكِرينَ الشَّاكِرينَ. اللهمَّ تقبَّل من الْحُجَّاجِ حَجَّهم, وفِّقهم ويَسِّرْ أُمورَهم وَرُدَّهُم إلى أهليهم سالِمينَ غانِمينَ يا ربَّ العالَمينَ. اللهم وفِّقنا جميعاً لِما تُحبُّ وتَرضى وأعنَّا على البرِّ والتَّقوى.
اللهمَّ اجزِ خيراً كلَّ من ساهمَ وأعانَ على تيسيرِ الحجِّ وإتمامهِ. اللهمَّ وفِّق ولاةَ أمورنا لما تحبُّ وترضى وأعنهُم على البِرِّ والتقوى وارزقهُمُ بطانةً صالحةً ناصحةً يا ربَّ العالمين. رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ولِوالدينا ولجميع المسلمينَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ. (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).
عبادَ الله: اذكروا اللهَ يذكركُم، واشكروه على عُمُومِ نعمه يزدكم ولذكر الله أكبرُ، والله يعلم ما تصنعون.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم