عناصر الخطبة
1/قصة حديث: "أنت مع من أحببته" وتطبيق الصحابة للمحبة الحقيقة 2/استشعار عظمة حق الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- 3/مقت النفس على تقصيرها في حق اللهاقتباس
أيها المؤمنون: إنَّ نبأَ محبةِ الأعرابيِّ البليغَ لَيشي بعظيمِ ما فَقِهَهُ ذاك الأعرابيُّ من لوازمِ تلك المحبةِ التي تُوجبُ على العبدِ استشعارَ عظيمِ حقِّ اللهِ ورسولِه -صلى الله عليه وسلم-؛ لعظيمِ مِنَّتِهما مما لا يَملِكُ العبدُ إزاءَها إلا الإذعانَ بالتقصيرِ في وفاءِ واجبِ الشكر وتيقُّنِ النقصِ، وذاك ما يزيدُه انكسارًا بين يدي مولاه، وافتقارًا إليه، وحرصاً...
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالِنا، منْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومنْ يضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه.
أما بعدُ: فيا أيها الناسُ اتقوا ربَّكم.
أيَّها المؤمنونَ: في مجلسٍ نبويٍّ مَهيبٍ؛ تغْشَاه سكينةٌ إيمانيةٌ وارفةٌ، ويعلوه إجلالٌ تعظيمٍ وقورٌ، كان الصحابةُ الأطهارُ -رضي اللهُ عنهم- يُشنِّفون مسامعَهم بعذْبِ حديثِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، والمُقَلُ شاخصةً لِمَرآه الوضيءِ -إذ برجلٍ من الأعرابِ قد ملأَ الإيمانُ حشاشةَ قلبِه، قادتْهُ خُطى صدقِه حتى أفضتْ به ركائبُه إلى رحبْةِ ذلك المجلسِ النبويِّ الميمونِ، وأقبلَ بسؤالِه إلى النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، والصحابةُ- بما علموا من كراهةِ اللهِ إثقالَ نبيِّه -صلى الله عليه وسلم- بالمسائلِ وما قد تفضيه إلى العَنَتِ -كانوا يَهْتبلون مَقْدَمِ الأعرابِ من ذوي الحِجى والحكمةِ لسؤالِ لنبيِّ -صلى الله عليه وسلم-؛ ليظفروا بجوابِه المعصومِ؛ ليَبْنُوا على أساسِه الراسخِ تصديقًا وعملًا يبرهنُ الإيمانَ، ويزدادوا به إيمانًا مع إيمانِهم؛ جاء ذلك الأعرابيُّ مستفتيًا عن حِينِ قيامِ الساعةِ قائلًا: يا رسولَ اللهِ متى الساعةُ؟ وباتَ منتظِرًا جوابًا من النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- يكونُ على مِنْوالِ ما سألَ، لكنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- صَرَفَه إلى ما هو خيرٌ له وأجْدى؛ إذ عِلْمُ قيامِ الساعةِ غيبٌ اختصَّ به علامُ الغيوبِ.
وكان أسلوبُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- في لفْتِ عنايةِ الأعرابيِّ بالأهمِّ من شأنِه ذاتَ الأسلوبِ السؤاليِّ الذي سلَكَه في الاستعلامِ عن ميقاتِ الساعةِ قائلًا: "وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟"، فالساعةُ آتيةٌ لا ريْبَ فيها، ولكنَّ الشأنَ في الرَّصَدِ لها وإعدادِ ذخائرِ الباقياتِ الصالحاتِ، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ)[الحشر: 18]، (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)[البقرة: 197].
عادَ السؤالُ النبويُّ: "وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟" بالأعرابيِّ إلى دائرةِ الاهتمامِ الحقِّ باستقراءِ شُعَبِ الإيمانِ الذي حقَّقَها وما أرجى تلك الشُّعَبِ لديه؟ إذ بذلك الزادِ يكونُ المسيرُ إلى الدارِ الآخرةِ، وعليه يكونُ الجزاءُ يومَ الدينِ، فأعملَ الأعرابيُّ ميزانَ المراجعةَ لتلك الأعمالِ؛ لِينتخِبَ منها أرجا ذخائرِ عملِه الصالحِ؛ فلم يجدْ أنفعَ من صدقِ محبتِه للهِ ورسولِه -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يَا رَسُولَ اللَّه مَا أَعْدَدْتُ لَهَا كَبِيرَ صِيَامٍ وَلاَ صَلاَةٍ وَلاَ صَدَقَةٍ، وَلَكِنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ!".
فما ظنُّكم بردِّ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- حين سمعَ الجوابَ المؤثِّرَ الذي فاهَ به لسانُ الأعرابيِّ وصدَّقَه حالُه؟
كان الجوابُ النبويُّ محلَّ عنايةٍ فائقةٍ مِن لَدْنِ الصحابةِ الكرامِ، وما فرحوا بشيءٍ كفرحِهم بذاك الجوابِ العظيمِ حين سمعوا رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يقولُ للأعرابيِّ: "فإنِّك مع مَن أحببتَ"! بهذا الأسلوبِ التأكيديِّ الصادرِ ممّن لا (يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)[النجم: 3-4]، فأرادوا الاستيثاقَ بشمولِ ذلك الفضلِ لكلِّ مَن صدَقَ اللهَ ورسولَه -صلى الله عليه وسلم- في المحبةِ، فقالوا -كما في روايةِ البخاريِّ-: "ونحنُ كذلك؟" فقال: "نعم"؛ عندها أطافَ بهم شعورُ الفرحِ بنعمةِ اللهِ، وعمَّهم من حبورِه سرورٌ لم يَنْعموا بعدَ الإسلامِ بمِثلِه حين وَعَوْا ذلك الجوابَ، وأدركوا أبعادَه، وتحقَّقوا شمولَه، فعلموا قدْرَ نفاستِه، وما يقتضيه ويترتبُ عليه، عبَّرَ عن ذلك الفرحِ مَن شَهِدَ تلك المحاورةَ ووعاها ورواها وطبَّقَها ورَازَ قَدْرَ السرورِ البادي على مُحيا مَن حضرها ونفوسِ مَن بلغتْه، قال أنسٌ -رضي اللهُ عنه-: "فما فَرَحْنا -بعد الإسلامِ- فرحًا أشدَّ من قولِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "فإنك مع من أحببتَ"، وفي روايةِ البَزَّارِ: "فَمَا رأيتُ المسلمين فرحوا بشيءٍ بعد إسلامِهم أَشَدَّ فَرَحًا مِنْهُمْ بِقَوْلِه".
وأما التطبيقُ فقد حكاه أنسٌ بقولِه؛ كما في روايةِ البخاريِّ: "فأنا أحبُّ اللهَ ورسولَه، وأبا بكرٍ وعمرَ؛ فأرجو أنْ أكونَ معهم، وإن لم أعملْ بأعمالِهم"، وفي روايةٍ أخرى للبخاريِّ: "فَأَنَا أُحِبُّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إِيَّاهُمْ، وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِمِثْلِ أَعْمَالِهِم".
عبادَ اللهِ: إنَّ التأملَ في زادِ التُّقى الذي أعدَّه ذلك الأعرابيُّ بين يدي الساعةِ وأقرَّه عليه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- لِيكونَ له ذخرًا يومَ الدينِ، لَيدُلُّ على عظمِ شأنِ المحبةِ الصادقةِ للهِ ورسولِه -صلى الله عليه وسلم-، وأنها ألزمُ ما يجبُ على المؤمنِ أن يوليَه عنايتَه في هذه الدنيا ويُديمَ عليها ميزانَ المحاسبةِ؛ لبلوغِها بصاحبِها علوَّ المنازلِ في الجنةِ التي لا يبلغُها بعملِه.
تلك المحبةُ التي تتملَّكُ القلبَ؛ فلا يُقدِّمُ عليها في المحبةِ أحدًا وإن كانت نفسَه التي بين جنْبيه، أو يعارضُها ببغضِ ما يحبُّه اللهُ ورسولُه -صلى الله عليه وسلم-، أو حُبِّ ما يبْغضانه، أو تكونُ تلك المحبةُ دعوى جوفاءَ، وعاطفةً ذاتَ شعارٍ جيَّاشٍ لا يُبَرْهِنُ عليها شاهدُ العملِ والاتباعِ وموالاةِ أولياءِ اللهِ ومُعاداةِ أعدائِه وعدمِ التشبُّهِ بهم فيما هو مِن شعائرِهم وخصائصِهم، واستشعارِ النقصِ في وفاءِ حقِّ تلك المحبةِ والتألمِ عند مخالفةِ مُقتضاها، قال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[آل عمران: 31]، وقال سبحانه: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)[التوبة: 24].
وقال عبدُاللهِ بنُ هشامٍ -رضي اللهُ عنه-: "كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ"، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الآنَ، وَاللَّهِ، لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "الآنَ يَا عُمَرُ"(رواه البخاريُّ).
قال الحسنُ البصريُّ: "لا تغْترَّ بقولِك: "المرءُ مع مَن أحبَّ" إنه من أَحَبَّ قومًا اتبعَ آثارَهم، ولن تلحقَ بالأبرارِ حتى تتبعَ آثارَهم، وتأخذَ بهديهم، وتقتديَ بسنتِهم، وتصبحَ وتمسيَ وأنت على منهاجِهم، حريصًا أن تكونَ منهم، وتسلكَ سبيلَهم، وتأخذَ طريقَهم، وإن كنتَ مقصِّرًا في العملِ؛ فإنَّ مِلَاكَ الأمرِ أنْ تكونَ على استقامةٍ، أما رأيتَ اليهودَ والنصارى وأهلَ الأهواءِ المُرْديةِ يحبونَ أنبياءَهم ليسوا معهم؛ لأنَّهم خالفوهم في القولِ والعملِ، وسلَكوا غيرَ طريقتِهم؛ فصارَ مأواهم النارَ؟ -نعوذُ باللهِ من النارِ-".
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ...
أما بعدُ، فاعلموا أن أحسنَ الحديثِ كتابُ اللهِ...
أيها المؤمنون: إنَّ نبأَ محبةِ الأعرابيِّ البليغَ لَيشي بعظيمِ ما فَقِهَهُ ذاك الأعرابيُّ من لوازمِ تلك المحبةِ التي تُوجبُ على العبدِ استشعارَ عظيمِ حقِّ اللهِ ورسولِه -صلى الله عليه وسلم-؛ لعظيمِ مِنَّتِهما مما لا يَملِكُ العبدُ إزاءَها إلا الإذعانَ بالتقصيرِ في وفاءِ واجبِ الشكر وتيقُّنِ النقصِ، وذاك ما يزيدُه انكسارًا بين يدي مولاه، وافتقارًا إليه، وحرصًا في السعي إلى مراضيه، ومبادرةً في استصلاحِ الزللِ واستقالةِ العِثارِ، وينفي عنه داءَ العُجْبِ وآفةَ مُراءاةِ الخلْقِ؛ وذاك ما أفصحَ عنه حالُ الأعرابيِّ وقِيلُه؛ إذ بَدا عليه انكسارٌ واستكانةٌ حكاها شاهدُ القصةِ وراويها كما حَكى قولَه، قال أنسٌ -رضي اللهُ عنه- يما رواه البخاريُّ: "بَيْنَمَا أَنَا وَالنَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- خَارِجَانِ مِنَ المَسْجِدِ، فَلَقِيَنَا رَجُلٌ عِنْدَ سُدَّةِ المَسْجِدِ (وهي الظلال المُسقفةُ عند بابِ المسجدِ)، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟"، فَكَأَنَّ الرَّجُلَ اسْتَكَانَ، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّه مَا أَعْدَدْتُ لَهَا كَبِيرَ صِيَامٍ، وَلاَ صَلاَةٍ، وَلاَ صَدَقَةٍ، وَلَكِنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قَالَ: "أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ"، وفي رواية لمسلم: "مَا أَعْدَدْتُ لَهَا مِنْ كَثِيرٍ أَحْمَدُ عَلَيْهِ نَفْسِي".
بل بلغتْ به الاستكانةُ والانكسارُ واستشعارُ عظيمِ حقِّ اللهِ وحقيقةُ افتقارِه إليه أنْ تَقَالَّ أعمالَه حتى أوْصلَها منزلةَ العَدَمِ، فقال كما جاء في روايةٍ للبخاريِّ: "لاَ شَيْءَ إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَه -صلى الله عليه وسلم-"، فكانت تلك المحبةُ واستكانتُها سببَ رفعةِ اللهِ له إلى منازلِ مَن أَحبَّ بشهادةِ يقينٍ نبويةٍ حين قالَ له النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "فإنِّك مع مَن أحببتَ".
قال ابنُ القيمِ: "ومَقْتُ النَّفْسِ في ذاتِ اللهِ من صفاتِ الصديقين، ويدنو العبدُ به من اللهِ -سبحانه- في لحظةٍ واحدةٍ أضعافَ أضعافَ ما يدنو به بالعملِ"، "فمن أرادَ اللهُ به خيرًا فَتَحَ له بابَ الذلِ والانكسارِ، ودوامِ اللَّجأِ إلى اللهِ -تعالى-، والافتقارِ إليه، ورؤيةِ عيوبِ نفسِه وجهلِها وعدوانِها، ومشاهدةِ فضلِ ربِّه وإحسانِه ورحمتِه وجودِه وبِرِّه وغناه وحمدِه".
فاللهمَّ اشهدْ أنَّا ما أعْددنا بين يدي الساعةِ كثيرَ قُربى سوى أنَّا نحبُّك ونحبُّ رسولَك -صلى الله عليه وسلم- وأبا بكرٍ وعمرَ والصحابةَ الأطهارَ الذين دَللتَنا بسؤالِهم وروايتِهم على ذُخْرِ تلك المحبةِ؛ فاللهم ارزقنا صدقَ المحبةِ وألحقْنا بمَن أحببناهم غيرَ خزايا ولا مفتونين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم