عناصر الخطبة
1/توالي الأحداث المؤلمة على شعب غزة الصابر المرابط 2/يقين الأمة الإسلامية بأن الأمر كله لله 3/حسن الظن بالله يدفع للأمل والتفاؤل 4/التحذير من المثبطين المنهزميناقتباس
أمةُ الإسلامِ أمةُ الإيمانِ والعدلِ والأخلاقِ، هي التي ستدوم -بإذن الله-، وعندما يفقد العبادُ الأملَ بكل مخلوق، وييأسوا من البشر، يأتيهم التأييد من الله، أملنا برضا الله وجنته، أملنا بلقاء النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحبه على الحوض غدًا...
الخطبة الأولى:
الحمد لله؛ (وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)[يُوسُفَ: 87]، الحمد لله؛ (قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ)[الْحِجْرِ: 55-56]، الحمد لله، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أَنَّ رَجُلا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا الْكَبَائِرُ؟ قَالَ: "الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالإِياسُ مِنْ رُوحِ اللَّهِ، وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ".
سبحان القادر القاهر الكافي، سبحان من تواضع كل شيء لعظمته، سبحان من ذل كل شيء لعزته، سبحان من خضع كل شيء لملكه.
بك اللهمَّ نعوذ من شر أنفسنا، ومن شر أعدائنا، ومن شر ما خلق ربي وذرأ وبرأ، اللهُمَّ اجعل أهل غزة في حرزك، اللهُمَّ اجعلهم في عياذك وجوارك وأمنك، واحفظهم إلهي من شر كل شيطان وسلطان، واحفظهم من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها.
حسبُنا الربُّ من المربوبين، حسبُنا الخالقُ من المخلوقين، حسبُنا القاهرُ من المقهورينَ، حسبُنا اللهُ ونِعْمَ الوكيلُ، حسبُنا اللهُ ونِعمَ الوكيلُ.
وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ، وحدَه لا شريكَ له؛ (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)[هُودٍ: 123]، (وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا)[طه: 98]، جعل ظل عرشه لمن تعلَّق قلبُه بالمساجد، وقلوب المخلصينَ متعلقة بالأقصى، فاستبشِروا تفاؤلًا.
اللهُمَّ أظل المرابطين بظل عرشك يوم لا ظل إلَّا ظلك يا أرحم الراحمين.
وأشهد أن سيدنا محمدًا رسول الله، -صلى الله عليه وسلم-، أرسله الله بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، ومن أعظم مَطالِب الدنيا أن يكفيكَ اللهُ الهمَّ، ومِنْ أعظمِ مَطالِبِ الآخرةِ أن يغفر لكَ الذنبَ، وهما مضمونانِ مكفولانِ بكثرةِ الصلاة والسلام على رسول الله.
اللهمَّ صلِّ صلاةً كاملةً، وسلِّم سلامًا تامًّا على نبي تنحل بالصلاة عليه واتباعه العقد، وتنفرج بها الكرب، وتقضى بها الحوائج، وتنال بها الرغائب، وحسن الخواتيم، ويستسقى الغمام بوجهه الكريم، وعلى آله الطيبين الطاهرين.
تتوالى الأحداث على شعبنا الصابر المرابط، في فلسطين، من قتل الأبرياء وتهجيرهم، والتي ازدادت حدتُها في الآونة الأخيرة، شهور عصيبة، يكاد الطفل الرضيع لها أن يشيب، أهوال يتجرَّعُها أهلُ الإسراء والمعراج على أرضهم، ففي كل يوم تُشرِق فيه الشمس نرى وجهًا جديدًا للخطط والمؤامرات المتسارِعة، التي تُحدِق بمقدساتنا، تضييقًا واستباحةً، وتُزلزِل نسيجَ مجتمعِنا زلزالًا شديدًا، ففي غزة مشاهدُ إنسانيَّةٌ مؤلمةٌ، وفي مدننا كذلك، وصراع دائم لا يكل ولا يمل، في داخلنا الفلسطيني، والقدس لا زالت مستهدَفة لمحق الهُوِيَّة الإسلاميَّة، ونشر الجريمة في المجتمع، وصولًا للتضييق على المسجد الأقصى المبارَك، والمصلين فيه، ومنعهم، فما تكاد أن تحصى الويلات، بل ينسي بعضها بعضا؛ (وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى)[الْحَجِّ: 2]، ولكن البلاء شديد.
ونسي أعداؤنا أن أمة محمد لا تيأس، وتجاهلوا أن أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- لا تنكسر إرادتُها؛ فهي أمة لا تركع إلا لله، لا مكان لليأس في قلوب المرابطين؛ لأنَّ ثقتَهم بالله، أمة محمد تتعامل مع القوي العزيز، مالكِ هذا الكون ومليكه، المؤمنون على يقين بحقيقةِ: الأمرُ كلُّه للهِ.
أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- تؤمن بيوم تجتمع فيه الخصوم، يوم يقام فيه العدل لا محالة، شاءت تلك المحاكم الدوليَّة أم أبت.
فلن يسود الظلم في الأرض، فإن فات العدل في الدنيا بفعل هذه الأنظمة، حقًّا سيقام العدل في الآخرة؛ (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[الْبَقَرَةِ: 281]، لا ظلم اليوم.
وكل قهر، وكل تنكيل، وكل تضييق أصاب أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، سيُرفع عنها شاء الظالم أم أبى، فالظالم ينتظر أخذ العزيز المقتدر.
أيها الظالم: إن نشوة الدنيا قصيرة؛ ففي الآخرة إمَّا جنة ونعميها، وإمَّا نار وسعيرها.
أمة محمد لا تنهار أبدًا، آمنت بالقضاء والقدر، ورضيت عن الله ما قدر، رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينا، وبسيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- نبينا ورسولًا، رضيتُ بما قسم الله لي، وقلت لقلبي كفاك الجليلُ، مُدبِّرُ أمري بلا علم لي، هو الله حسبي ونعم الوكيل، هو الله حسبنا ونعم الوكيل.
إن سألت عن الخير، فالخير ما يختاره الله، ولا يعلم الخير المكنون إلَّا الله؛ (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[الْبَقَرَةِ: 216].
قال الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "لا أبالي أصبحتُ على ما أحب أو على ما أكره؛ لأني لا أدري الخير فيما أحب أو فيما أكره"، يقول الحق -تبارك وتعالى- في الحديث القدسي: "أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ"؛ فإنَّا نُحسِنُ الظنَّ فِيكَ يا اللهُ، أن تكشف هذا البلاء عن أهل فلسطين، وعن أهل غزة، أملُنا فيك عظيم، متفائلون بكرمك، متفائلون بجودك وعفوك، متفائلون بإحسانك وحنانك، كيف لا؟ وقد ربى محمد -صلى الله عليه وسلم- أمته على التفاؤل، وحسن الظن بالله!
إن تلك الأيادي التي حفرت الخندق بأيديها في حصار المدينة المنوَّرة تفاءلت بملك كسرى وقيصر، "أنا عند ظن عبدي بي"، بعد ستة عشر عامًا من الدعوة الإسلاميَّة منع المسلمون عن مكة، وعقد صلح الحديبية، وبعد المنع رجع المسلمون لمكة فاتحين مرددين: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا)[الْإِسْرَاءِ: 81].
أمة محمد متفائلة ولن تيأس، مِنَح في الْمِحَن، نَعَمْ، مِنَح من الله في الْمِحَن، كانت أمم شامخة مستبدة، انهارت وأصبحت كالصريم، وكل حضارة لا مبدأ لها، ولا أخلاق لها، ولا عدل لديها ستنهار حتمًا -بإذن الله-، فمبدأ الانحياز والظلم هو الذي يهدم الحضارات، ويهدم الدول، وكل من دار بفلكها.
وأمة الإسلام أمة الإيمان والعدل والأخلاق، هي التي ستدوم -بإذن الله-، وعندما يفقد العباد الأمل بكل مخلوق، وييأسوا من البشر، يأتيهم التأييد من الله، أملنا برضا الله وجنته، أملنا بلقاء النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحبه على الحوض غدًا، أملنا أن هذه الأمة لها السؤدد والقيادة للأمم، إلى قيام الساعة، وما عدا ذلك هو عارض لا قياس له في عمر الأمم والحضارات.
كيف بنى -صلى الله عليه وسلم- الأمة على التفاؤل؟ عندما هجرت ابنته إلى الحبشة وجمع من الصحابة بقي يزرع التفاؤل بقوله: "والله ليتمن هذا الأمر"، رصد علماء السير أكثر من عشرين محاولة اغتيال للرسول -صلى الله عليه وسلم-، وما ضاق صدره، ورغم الألم يظهر حسن الظن بالله والتفاؤل.
سهرَتْ أعينٌ ونامَتْ عيونٌ *** في أمورٍ تكونُ أو لا تكونُ
إنَّ ربًّا كفاكَ بالأمسِ ما كان *** سيكفيكَ من غدٍ ما يكونُ
ودخل المدينة -صلى الله عليه وسلم-، وكان فيها الوباء والأمراض، فسماها "طيبة" تفاؤلًا، فالرسول قدوتنا في التفاؤل وحسن الظن بالله.
حوصر في شعب أبي طالب، وفي تلك الفترة أنزل الله عليه بشارة التأييد وهزيمة الأحزاب؛ (جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ)[ص: 11]، وأنزل عليه بالشعب: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ في تَضْلِيلٍ)[الْفِيلِ: 1-2]؛ تفاؤلًا بأن الذي نصرهم سينصرك، فمن تجرأ على بيت الله، كان مصيره كأصحاب الفيل.
هذا ديننا، يرفض اليأس، قرآننا يدعو إلى التفاؤل، قال الإمام الغزالي -رحمه الله-: "اللهمَّ إني أعوذ بك من تفاؤل يبعدني عن العمل"، فاللهم إنَّا نسألك عملًا ملؤه التفاؤل.
نعم، أكثِرْ جلوسَكَ بين يدَيِ اللهِ، اقرَعْ بابَ ربِّكَ تضرُّعًا، تفاؤلًا، ومُحسِنًا ظنَّكَ بالله، فحاشاه أن يُخيِّبَنا الرجاءُ، فقد كان -صلى الله عليه وسلم- دائم البشر، دائم التفاؤل، قال لأصحابه: "أبشِرُوا وأمِّلُوا ما يَسُرُّكُمْ"؛ فقد نهى الإسلام عن التذمر والشكوى والسخط، لقد تفاءل السلف بقوله -تعالى-: (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)[الرَّعْدِ: 39]، وكان دعاؤهم: اللهمَّ إن كتبتني في كتاب الأشقياء، فامحني واكتبني في كتاب السعداء، تفاؤلًا بسور القرآن، روى أهل السنن قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن باغتكم العدو على غفلة فليكن شعاركم: حم لا ينصرون"، جاء في الحديث الشريف: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله" فتفاءلوا بقدوم شهر رمضان، والذي عنوانه: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)[الْبَقَرَةِ: 186]، فادعوا الله بلسان التفاؤل، وحسن الظن بالله -تعالى-.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ، وحدَه لا شريكَ له، تعظيمًا لشانه، وأشهد أنَّ سيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه، الداعي إلى رضوانه، وارض اللهمَّ عن الصحابة والتابعين، والخلفاء الراشدين، وعلينا معهم أجمعين.
وممَّا يزيد أمتنا تفاؤلًا هو الاعتصام بحبل الله، والإصغاء لأهل الصفاء من العلماء العاملين، فلا تخلو الأرض منهم، فمن أفواه ذوي الهِمَم يؤخذ التفاؤل، أما الاستماع للمثبطين المنهزمين، فهو مرض فتَّاك؛ (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ)[التَّوْبَةِ: 47]، (مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ)[التَّوْبَةِ: 47]، بإعلانهم أو بمأجوريهم، هؤلاء القوم هم المنافقون، لقد ركنوا إلى الذين ظلموا؛ (كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ)[التَّوْبَةِ: 46]، (يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ)[آلِ عِمْرَانَ: 154]، (الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)[الْفَتْحِ: 6].
اللهمَّ إنكَ قلتَ وقولُكَ الحقُّ: (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)[الرَّعْدِ: 39]، اللهُمَّ امْحُ عَنَّا العذابَ إنَّا موقنونَ، اللهُمَّ امحُ عَنَّا الحربَ وأوزارَها، وأثبتنا وأهلنا في غزة في كتاب الآمنين، اللهُمَّ استجب لنا بحق حم، حُمَّ الأمرُ فهم لا ينصرون، اللهُمَّ لا تمكن الأعداء فينا، ولا تسلطهم علينا بذنوبنا، يا من أجاب نوحًا في قومه، يا من أيد إبراهيم على أعدائه، يا من رد يوسف على يعقوب، يا من كشف ضر أيوب، يا من أجاب دعوة زكريا، يا من قبل تسبيح يونس، اقبل دعاءنا يا الله، دعوناك تفاؤلًا بكرمك، رجونا الله مجيرا، وكفى بالله مجيرا.
اللهمَّ هيئ لنا وللمسلمين فرجًا عاجلًا قريبًا، وقائدًا مؤمنًا رحيمًا، يُوحِّد صفَّنا، ويجمع كلمتنا، اللهُمَّ واجعل للمسرى فرجًا ومخرجًا، ويسر قدوم المصلين إليه في شهر رمضان، وسائر الأعوام، اللهُمَّ آمن روعاتنا، اللهُمَّ ارحم شهداءنا، وأطلق سراح أسرانا، وشاف جرحانا، وحرر أقصانا، اللهُمَّ يا مَنْ جعلتَ الصلاةَ على النبي من القُرُبات، نتقرب إليك بكل صلاة صليت عليه، من أول النشأة إلى ما لا نهاية للكمالات؛ (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصَّافَّاتِ: 180-182]، وأَقِمِ الصلاةَ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم