عناصر الخطبة
1/طفولة علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- 2/اعتناقه للحق وملازمته خير الخلق 3/أثر التربية الصالحة في طفولة علي 4/طفولة عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- 5/الميلاد السعيد لابن الزبير 6/علامات النجابة المبكرة لابن الزبير رضي الله عنهما.اقتباس
مَرَّ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَهُوَ صَبِيٌّ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ فَفَرُّوا وَوَقَفَ، وَقَالَ: مَا لَكَ لَمْ تَفِرَّ مَعَ أَصْحَابِكَ؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَمْ أَجْرُمْ فَأَخَافَكَ، وَلَمْ تَكُنِ الطَّرِيقُ ضَيِّقَةً فَأُوَسِّعَ لَكَ!...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إِنَّ الْحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ جِيلَ الصَّحَابَةِ هُوَ أَنْقَى جِيلٍ فِي الْإِسْلَامِ، وَأَحْسَنُ مِثَالٍ يُمَثِّلُ شَرَائِعَهُ؛ فَقَدْ تَرَبَّى ذَلِكَ الْجِيلُ الزَّكِيُّ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولَ اللهِ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَنَهَلَ تَصَوُّرَاتِهِ وَسُلُوكَهُ مِنْ نَبْعِهِ الصَّافِي؛ فَكَانَ ذَلِكَ الْجِيلُ الطَّاهِرُ قُدْوَةً لِلْأَجْيَالِ الآتِيَةِ بَعْدَهُ فِي جَمِيعِ الْمَرَاحِلِ الْعُمْرِيَّةِ، وَمِنْ تِلْكَ الْمَرَاحِلِ: مَرْحَلَةُ الطُّفُولَةِ.
عِبَادَ اللهِ: فَإِنَّ مَنْ تَتَبَّعَ طُفُولَةَ الصَّحَابَةِ وَجَدَ فِيهَا مَعَالِمَ هِدَايَةٍ، وَمَنَارَاتِ إِرْشَادٍ تَهْدِي إِلَى الطَّرِيقِ الصَّحِيحِ فِي الْفِكْرِ وَالْعَمَلِ؛ فَمِنْ أُولَئِكَ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-.
فَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَهُوَ زَوْجُ فَاطِمَة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- بِنْتِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ الْإِسْلَامِ، وَقَامَةٌ سَامِقَةٌ مِنْ قَامَاتِ الإِيمَانِ.
وَلِأَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَاكِرًا لِلْمَعْرُوفِ، وَمُعْتَرِفًا بِالْجَمِيلِ، ذَا رَحْمَةٍ بِالْأَقْرَبِينَ فَقَدْ تَوَلَّى كَفَالَةَ ابْنَ عَمِّهِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مُنْذُ صِغَرِهِ؛ رَدًّا لِجَمِيلِ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ. وَذَلِكَ: "أَنَّ قُرَيْشًا أَصَابَتْهُمْ أَزْمَةٌ شَدِيدَةٌ، وَكَانَ أَبُو طَالِبٍ ذَا عِيَالٍ كَثِيرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلْعَبَّاسِ عَمِّهِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَيْسَرِ بَنِي هَاشِمٍ: "يَا عَبَّاسُ، إِنَّ أَخَاكَ أَبَا طَالِبٍ كَثِيرَ الْعِيَالِ، فَانْطَلِقْ بِنَا لِنُخَفِّفَ عَنْهُ مِنْ عِيَالِهِ"، فَقَالَ: نَعَمْ، فَانْطَلَقَا حَتَّى أَتَيَا أَبَا طَالِبٍ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّا نُرِيدُ أَنْ نُخَفِّفَ عَنْكَ مِنْ عِيَالِكَ حَتَّى يَكْشِفَ اللهُ عَنِ النَّاسِ مَا هُمْ فِيهِ، فَقَالَ لَهُمَا أَبُو طَالبٍ: إِذَا تَرَكْتُمَا لِي عَقِيلاً فَاصْنَعَا مَا شِئْتُمَا، فَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلِيًّا فَضَمَّهُ إِلَيْهِ، وَأَخَذَ الْعَبَّاسُ جَعْفَرًا فَضَمَّهُ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مَعَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى ابْتَعَثَهُ اللهُ نَبِيًّا، وَحَتَى زَوَّجَهُ مِنِ ابْنَتِهِ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا"(الاستيعاب في معرفة الأصحاب (1/ 13).
وَحِينَهَا تَلَقَّى تَرْبِيَتَهُ النَّقِيَّةَ فِي طُفُولَتِهِ عَلَى يَدَيْ نَبِيِّ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَيْثُ عَاشَ فِي بَيْتِهِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ وَبَعْدَهَا، وَهُنَاكَ نَشَأَتْ طُفُولَتُهُ عَلَى الزَّكَاءِ وَالطُّهْرِ وَالْخَيْرِ وَالْيُمْنِ، نَشْأَةً صَالِحَةً تُحِبُّ الْخَيْرِ وَتَمِيلُ إِلَيْهِ، وَتَكْرَهُ الشَّرَّ وَتَعْدِلُ عَنْهُ.
لَقَدْ كَانَ لِعَلِيٍّ فِي طُفُولَتِهِ إِضَاءَاتٍ مُشْرِقَةٍ فِي طَرِيقِ الطِّفْلِ الْمُسْلِمِ، وَنَافِذَةً حَسَنَةً يُرَى مِنْ خِلَالِهَا سُبُلُ الْفَهْمِ الصَّحِيحِ، وَالْعَمَلِ الْمُسْتَقِيمِ؛ فَمِنْ ذَلِكَ:
الْبِرُّ بِالْوَالِدِ، وَحُسْنُ صُحْبَةِ الْأَقَارِبِ، وَالْقَبُولُ لِلْحَقِّ بَعْدَ التَّثَبُّتِ، وَالْقُوَّةُ وَالْجَلَدُ، وَالتَّضْحِيَةُ وَالْفِدَاءُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ؛ فَقَدْ كَانَ مِنَ الْمُبَادِرِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَاعْتِنَاقِ الإِيمَانِ؛ فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ صَاحِبُ "السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ" أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَوْمَيْنِ فَوَجَدَهُمَا يُصَلِّيَانِ -يَعْنِي رَسُولَ اللهِ وَخَدِيجَةَ- فَقَالَ عَلِيٌّ: مَا هَذَا يَا مُحَمَّدُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "دِينُ اللهِ الَّذِي اصْطَفَى لِنَفْسِهِ، وَبُعِثَ بِهِ رُسُلُهُ، فَأَدْعُوكَ إِلَى اللهِ وَحْدَهُ وَإِلَى عِبَادَتِهِ، وَكُفْرٍ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى"، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: هَذَا أَمْرٌ لَمْ أَسْمَعْ بِهِ قَبْلَ الْيَوْمِ، فَلَسْتُ بِقَاضٍ أَمْرًا حَتَّى أُحَدِّثَ أَبَا طَالِبٍ، فَكَرِهَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُفْشِيَ عَلَيْهِ سِرَّهُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَعْلِنَ أَمْرُهُ، فَقَالَ لَهُ: "يَا عَلِيُّ، إِذَا لَمْ تُسْلِمْ فَاكْتُمْ"، فَمَكَثَ عَلِيٌّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، ثُمَّ إِنَّ اللهَ أَوْقَعَ فِي قَلْبِ عَلِيٍّ الإِسْلَامَ فَأَصْبَحَ غَادِيًا إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى جَاءَهُ فَقَالَ: مَا عَرَضْتَ عَلَيَّ يَا مُحَمَّدُ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَمَ-: "تَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَتَكْفُرُ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى، وَتَبْرَأُ مِنَ الْأَنْدَادِ"، فَفَعَلَ عَلِيٌّ وَأَسْلَمَ، وَمَكَثَ عَلِيٌّ يَأْتِيهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ أَبِي طَالِبٍ، وَكَتَمَ عَلِيٌّ إِسْلَامَهُ، وَلَمْ يَظْهَرْ بِهِ، وَأَسْلَمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، فَمَكَثَا قَرِيبًا مِنْ شَهْرٍ يَخْتَلِفُ عَلِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكَانَ مِمَّا أَنْعَمَ اللهُ بِهِ عَلَى عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ فِي حِجْرِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَبْلَ الإِسْلَامِ"(سيرة ابن إسحاق (2/ 118).
وَهَذَا مَوْقِفٌ عَظِيمٌ، وَمَحْمَدَةٌ كَبِيرَةٌ لِعَلِيٍّ –رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ حَيْثُ قَبِلَ الْحَقَّ وَآمَنَ بِهِ، وَسَبَقَ غَيْرَهُ مِنَ الْأَطْفَالِ إِلَيْهِ، فَتَرَعْرَعَتْ طُفُولَتُهُ فِي كَنَفِ الْإِسْلَامِ، وَبُنِيَتْ أَعْمَالُهُ عَلَى شَرِيعَةِ الْإِيمَانِ، وَقَد تَمَكَّنَ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَيُّمَا تَمَكُّنٍ، فَصَارَ يُلَازِمُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَيُرَافِقُهُ حَيْثُمَا تَوَجَّهَ، يَتَلَقَّى عَنْهُ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ الْقَوْلِيَّةَ وَالْفِعْلِيَّةَ.
وَمِنْ مَوَاقِفِهِ الْعَظِيمَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: جَهْرُهُ بِالْحَقِّ؛ فَلَمْ يُخْفِ إِيمَانَهُ طَوِيلًا عَنْ أَبِيهِ، بَلْ بَلَّغَهُ ذَلِكَ، فَأَمَرَهُ بِلُزُومِهِ. فَقَدْ "ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ خَرَجَ إلَى شِعَابِ مَكَّةَ، وَخَرَجَ مَعَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مُسْتَخْفِيًا مِنْ أَبِيهِ أَبِي طَالِبٍ. وَمِنْ جَمِيعِ أَعْمَامِهِ وَسَائِرِ قَوْمِهِ، فَيُصَلِّيَانِ الصَّلَوَاتِ فِيهَا، فَإِذَا أَمْسَيَا رَجَعَا. فَمَكَثَا كَذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَا. ثُمَّ إنَّ أَبَا طَالِبٍ عَثَرَ عَلَيْهِمَا يَوْمًا وَهُمَا يُصَلِّيَانِ، فَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: يَا ابْنَ أَخِي! مَا هَذَا الدِّينُ الَّذِي أَرَاكَ تَدِينُ بِهِ؟ قَالَ: "أَيْ عَمِّ، هَذَا دِينُ اللَّهِ، وَدِينُ مَلَائِكَتِهِ، وَدِينُ رُسُلِهِ، وَدِينُ أَبِينَا إبْرَاهِيمَ- أَوْ كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ رَسُولًا إلَى الْعِبَادِ، وَأَنْتَ أَيْ عَمِّ، أَحَقُّ مَنْ بَذَلْتُ لَهُ النَّصِيحَةَ، وَدَعَوْتُهُ إلَى الْهُدَى، وَأَحَقُّ مَنْ أَجَابَنِي إلَيْهِ وَأَعَانَنِي عَلَيْهِ، أَوْ كَمَا قَالَ، فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: أَيِ ابْنَ أَخِي، إنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُفَارِقَ دِينَ آبَائِي وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَلَكِنْ وَاللَّهِ لَا يُخْلَصُ إلَيْكَ بِشَيْءٍ تَكْرَهُهُ مَا بَقِيتُ.
وَذَكَرُوا أَنَّهُ قَالَ لِعَلِيٍّ: أَيْ بُنَيَّ، مَا هَذَا الدِّينُ الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ:
يَا أَبَتِ، آمَنْتُ باللَّه وَبِرَسُولِ اللَّهِ، وَصَدَّقْتُهُ بِمَا جَاءَ بِهِ، وَصَلَّيْتُ مَعَهُ للَّه وَاتَّبَعْتُهُ. فَزَعَمُوا أَنَّهُ قَالَ لَهُ: أَمَا إنَّهُ لَمْ يَدْعُكَ إلَّا إلَى خَيْرٍ فَالْزَمْهُ"(السيرة النبوية، لابن هشام (2/ 86).
ومِنْ هَذِهِ السِّيرَةِ الْعَطِرَةِ لِعَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي طُفُولَتِهِ نَسْتَفِيدُ: أَهَمِّيَّةَ الْعِنَايَةِ بِالْأَطْفَالِ وَتَلْقِينِهِمْ مَبَادِئَ الْحَقِّ صِغَارًا، لِيَكُونَ لِذَلِكَ أَثَرٌ حَسَنٌ حِينَمَا يَغْدُونَ كِبَارًا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَيَنْشَأُ نَاشِئُ الْفِتْيَانِ مِنَّا *** عَلَى مَا كَانَ عَوَّدَهُ أَبُوهُ
وَمَا دَانَ الْفَتَى بِحِجًا وَلَكِنْ *** يُعَلِّمُهُ التَّدَيُّنَ أَقْرَبُوهُ
(ديوان أبي العلاء المعري (ص: 1458).
وَنَسْتَفِيدُ كَذَلِكَ: أَهَمِّيَّةَ تَشْجِيعِ الْأَبْنَاءِ عَلَى الصَّوَابِ الَّذِي اخْتَارُوهُ وَسَلَكُوهُ، وَإِعَانَتَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَحَثَّهُمْ عَلَى الرَّفِيقِ الصَّالِحِ الَّذِي يَتَلَقَّوْنَ عَنْهُ الْخَيْرَ.
نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُصْلِحَ ذُرِّيَّاتِنَا، وَيَرْزُقَنَا بِرَّهُمْ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ الْأَمِينِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَإِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- ذَلِكَ الطِّفْلُ الَّذِي لَمْ يَفْرَحِ الْمُسلِمُونَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِوِلَادَةِ طِفْلٍ مِثْلَ فَرَحِهِمْ بِوِلَادَتِهِ؛ فَإِنَّهُ "لَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ، أَقَامُوا لاَ يُولَدُ لَهُم، فَقَالُوا: سَحَرَتْنَا يَهُودُ، حَتَّى كَثُرتِ القَالَةُ فِي ذَلِكَ، فَكَانَ أَوَّلَ مَولُودٍ ابْنُ الزُّبَيْرِ، فَكَبَّرَ الْمُسْلِمُونَ تَكْبِيرَةً وَاحِدَةً حَتَّى ارْتَجَّتِ المَدِيْنَةُ، وَأَمَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا بَكْرٍ، فَأَذَّنَ فِي أُذُنَيْهِ بِالصَّلاَةِ"(سير أعلام النبلاء (3/ 365).
وَمِنْ طُفُولَتِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- نَسْتَلْهِمُ دُرُوسًا عَظِيمَةً لِلْأَطْفَالِ؛ فَقَدْ عَرَفَ مُنْذُ طُفُولَتِهِ: النَّجَابَةَ وَالْقُوَّةَ وَالثِّقَةَ الْكَبِيرَةَ بِالنَّفْسِ، وَكَيْفَ لَا وَرِيقُ رَسُولِ اللهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- هُوَ أَوَّلُ مَا دَخَلَ جَوْفَهُ! فَقَدْ قَالَتْ أُمُّهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: "... فَأَتَيْتُ الْمَدِينَةَ فَنَزَلْتُ بِقُبَاءَ فَوَلَدْتُهُ، ثُمَّ أَتَيْتُ رَسُولَ اللهَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَوَضَعَهُ عَلَى حِجْرِهِ، ثُمَّ دَعَا بِتَمْرَةٍ فَمَضَغَهَا ثُمَّ تَفَلَ فِي فِيهِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا دَخَلَ فِي جَوْفِهِ رِيقُ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَتْ: ثُمَّ حَنَّكَهُ ثُمَّ دَعَا لَهُ وَتَبَرَّكَ عَلَيْهِ..."(البداية والنهاية (8/ 332).
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَمِنَ الْقِصَصِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى عَظَمَةِ طُفُولَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَتُبَيِّنُ قُوَّةَ شَخْصِيَّتِهِ وَنَجَابَتَهُ: مَا رَوَى بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كُلِّمَ فِي غِلْمَةٍ تَرَعْرَعُوا; مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَعُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ بَايَعْتَهُمْ فَتُصِيبَهُمْ بَرَكَتُكَ، وَيَكُونَ لَهُمْ ذِكْرٌ. فَأُتِيَ بِهِمْ إِلَيْهِ، فَكَأَنَّهُمْ تَكَعْكَعُوا، وَاقْتَحَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَقَالَ: "إِنَّهُ ابْنُ أَبِيهِ"، وَبَايَعَهُ"(البداية والنهاية (8/ 333).
وَقَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ -رَحِمَهُ اللهُ-: "وَكَانَ أَوَّلَ مَا عُلِمَ مِنْ أَمْرِ ابْنِ الزُّبَيْرِ: أَنَّهُ كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ وَهُوَ صَبِيٌّ، فَمَرَّ رَجُلٌ فَصَاحَ عَلَيْهِمْ، فَفَرُّوا، وَمَشَى ابْنُ الزُّبَيْرِ الْقَهْقَرَى، وَقَالَ: يَا صِبْيَانُ، اجْعَلُونِي أَمِيرَكُمْ، وَشُدُّوا بِنَا عَلَيْهِ. وَمَرَّ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَهُوَ صَبِيٌّ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ فَفَرُّوا وَوَقَفَ، وَقَالَ: مَا لَكَ لَمْ تَفِرَّ مَعَ أَصْحَابِكَ؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَمْ أَجْرُمْ فَأَخَافَكَ، وَلَمْ تَكُنِ الطَّرِيقُ ضَيِّقَةً فَأُوَسِّعَ لَكَ!"(تاريخ دمشق (28/ 165).
اللهُ أَكْبَرُ! إِنَّهَا كَلِمَاتٌ وَأَفْعَالٌ تَدُلُّ عَلَى شَخْصِيَّةٍ فَذَّةٍ مُنْذُ الصِّغَرِ!
وَنَسْتَفِيدُ مِنْ طُفُولَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: الْعِنَايَةُ بِتَرْبِيَةِ الْأَطْفَالِ عَلَى الْقِيَادَةِ، وَقُوَّةِ الشَّخْصِيَّةِ، وَالْعِنَايَةُ بِالطِّفْلِ الَّذِي يَكُونَ ذَا شَخْصِيَّةٍ قَوِيَّةٍ وَجُرْأَةِ نَفْسٍ، وَتَشْجِيعُ الْأَطْفَالِ عَلَى النَّجَابَةِ وَالْفِطْنَةِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنَ النِّعَمِ الْكَبِيرَةِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
نِعَمُ الإِلَه ِعَلَى الْعِبَادِ كَثِيرَةٌ *** وَأَجَلُّهُنَّ نَجَابَةُ الأَوْلَادِ
(زهر الأكم في الأمثال والحكم (ص: 249).
فَمَا أَحْسَنَ-يَا عِبَادَ اللهِ- لَفْتَ انْتِبَاهِ أَطْفَالِنَا إِلَى طُفُولَةِ الصَّحَابَةِ، وَحِكَايَةَ تِلْكَ الْأَخْبَارِ لَهُمْ؛ حَتَّى يَتَرَبَّوْا عَلَيْهَا، وَيَجْعَلُوهَا مِثَالاً لَهُمْ يُحْتَذَى! وَمَا أَجْمَلَ أَنْ نَعُودَ إِلَى تِلْكَ الْأَخْبَارِ، وَنَأْخُذَ مِنْهَا دُرُوسًا فِي تَرْبِيَتِنَا لِأَوْلَادِنَا، وَصَقْلِ طُفُولَتِهِمْ بِتِلْكَ الْمَوَاقِفِ الْمُنِيرَةِ!
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى خَيْرِ الْبَرِيَّةِ؛ (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم