عناصر الخطبة
1/ مغادرة منزل الزوجية.2/الخلط بين أنواع العدة.3/التصريح بالخطبة أثناء العدة.4/عضل أولياء المرأة لئلا يراجعها زوجها.5/تزين المعتدة من موت زوجها وتطيبها.اقتباس
هَذِي -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ- جُمْلَةٌ مِنَ الْمُخَالَفَاتِ الَّتِي تَقَعُ فِي عِدَّةِ الْمُطَلَّقَاتِ فَاجْتَنِبُوهَا، فَلَا تُخْرِجُوا الرَّجْعِيَّةَ مِنْ بَيْتِهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، وَاعْرِفُوا لِكُلِّ مُعْتَدَّةٍ مِقْدَارَ عِدَّتِهَا، وَلَا تُصَرِّحُوا بِخُطْبَتِهَا، وَلَا تَعْضُلُوا الْمُطَلَّقَةَ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى زَوْجِهَا مَا تَرَاضَيَا، وَمُرُوا الْمُعْتَدَّةَ مِنْ وَفَاةٍ بِالْحِدَادِ عَلَى زَوْجِهَا، وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
فَيَا عِبَادَ اللَّهِ: إِذَا مَا وَقَعَ الطَّلَاقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، فَقَدْ قَضَى -عَزَّ وَجَلَّ- بِلُطْفِهِ وَحِكْمَتِهِ أَنَّ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ عِدَّةً مَعْلُومَةً تَمْكُثُهَا بِدُونِ زَوَاجٍ؛ تَعَبُّدًا وَامْتِثَالًا لِحُكْمِ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَإِعْطَاءَ فُرْصَةٍ لِلزَّوْجِ لَعَلَّهُ يُرَاجِعُهَا إِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا، وَلِمَعْرِفَةِ بَرَاءَةِ رَحِمِهَا، وَاحْتِرَامًا لِمِيثَاقِ الزَّوَاجِ الْغَلِيظِ، وَوَفَاءً لِزَوْجِهَا إِنْ كَانَتْ فِي عِدَّةِ وَفَاةٍ، لَكِنْ قَدْ تَصْدُرُ بَعْضُ الْمُخَالَفَاتِ وَالْمُمَارَسَاتِ الْمُحَرَّمَةِ مِنَ الْمُعْتَدَّاتِ، فَتَعَالَوْا نَسْتَعْرِضُ بَعْضَهَا.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ مِنَ الْمُمَارَسَاتِ الْمُحَرَّمَةِ فِي فَتْرَةِ الْعِدَّةِ أَنْ تُغَادِرَ الْمُطَلَّقَةُ الرَّجْعِيَّةُ بَيْتَ الزَّوْجِيَّةِ، فَمَا أَنْ يَقَعَ الطَّلَاقُ حَتَّى تَجْمَعَ الْمَرْأَةُ مَتَاعَهَا، ثُمَّ تَقْصِدَ بَيْتَ أَهْلِهَا، أَوْ يَطْرُدَهَا زَوْجُهَا مِنْ بَيْتِهَا! وَهَذَا مُخَالِفٌ لِأَمْرِ اللَّهِ -تَعَالَى- الْقَائِلِ: (لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ)[الطَّلَاقِ: 1]، وَبِخُرُوجِهَا مِنْ بَيْتِهَا تَتَفَاقَمُ الْمُشْكِلَاتُ وَيَتَعَسَّرُ حَلُّهَا، وَرُبَّمَا قَطَعَتِ الزَّوْجَةُ بِخُرُوجِهَا طَرِيقَ الرَّجْعَةِ بَيْنَهُمَا.
فَأَهَمُّ مَا شُرِعَتْ لَهُ عِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ أَنْ يُرَاجِعَهَا زَوْجُهَا مَا دَامَتْ فِي بَيْتِهِ، لِذَا قَالَ -تَعَالَى- فِي ذَيْلِ نَفْسِ الْآيَةِ: (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا)[الطَّلَاقِ: 1]؛ "أَيْ: إِنَّمَا أَبْقَيْنَا الْمُطَلَّقَةَ فِي مَنْزِلِ الزَّوْجِ فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ، لَعَلَّ الزَّوْجَ يَنْدَمُ عَلَى طَلَاقِهَا، وَيَخْلُقُ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ رَجْعَتَهَا، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَيْسَرَ وَأَسْهَلَ"(تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ)، فَإِنَّ "الْأَمْرَ الَّذِي يُحْدِثُهُ اللَّهُ: أَنْ يُقَلِّبَ قَلْبَهُ مِنْ بُغْضِهَا إِلَى مَحَبَّتِهَا، وَمِنَ الرَّغْبَةِ عَنْهَا إِلَى الرَّغْبَةِ فِيهَا، وَمِنْ عَزِيمَةِ الطَّلَاقِ إِلَى النَّدَمِ عَلَيْهِ، فَيُرَاجِعُهَا"(تَفْسِيرُ الْقُرْطُبِيِّ).
أَمَّا الْمُعْتَدَّةُ مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ فَلَهَا أَنْ تُغَادِرَ بَيْتَ مُطَلِّقِهَا، وَتَعْتَدَّ فِي مَكَانٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ الْعَلَاقَةَ الزَّوْجِيَّةَ بَيْنَهُمَا قَدِ انْتَهَتْ، فَلَمْ يَعُودَا زَوْجَيْنِ، وَلَا تَحِلُّ لَهُمَا خَلْوَةٌ، وَلَا أَمَلَ فِي الْمُرَاجَعَةِ، فَعَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَنَّ زَوْجَهَا أَبَا عَمْرِو بْنَ حَفْصٍ طَلَّقَهَا الْبَتَّةَ... فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ، ثُمَّ قَالَ: "تِلْكَ امْرَأَةٌ يَغْشَاهَا أَصْحَابِي، اعْتَدِّي عِنْدَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَإِنَّهُ رَجُلٌ أَعْمَى تَضَعِينَ ثِيَابَكِ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ)، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ أَنَّهَا قَالَتْ: "طَلَّقَنِي زَوْجِي ثَلَاثًا، فَلَمْ يَجْعَلْ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سُكْنَى، وَلَا نَفَقَةً".
فَإِذَا دَخَلَتِ الْبَائِنَةُ الْمَنْزِلَ الَّذِي سَتَعْتَدُّ فِيهِ حَرُمَ عَلَيْهَا الْخُرُوجُ مِنْهُ، اللَّهُمَّ إِلَّا لِحَاجَةٍ أَوْ ضَرُورَةٍ، فَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: طُلِّقَتْ خَالَتِي، فَأَرَادَتْ أَنْ تَجُدَّ نَخْلَهَا، فَزَجَرَهَا رَجُلٌ أَنْ تَخْرُجَ، فَأَتَتِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "بَلَى فَجُدِّي نَخْلَكِ، فَإِنَّكِ عَسَى أَنْ تَصَدَّقِي، أَوْ تَفْعَلِي مَعْرُوفًا"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ)، قَالَ النَّوَوِيُّ: "هَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ لِخُرُوجِ الْمُعْتَدَّةِ الْبَائِنِ لِلْحَاجَةِ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَاللَّيْثِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَآخَرِينَ جَوَازُ خُرُوجِهَا فِي النَّهَارِ لِلْحَاجَةِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ يَجُوزُ لَهَا الْخُرُوجُ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ، وَوَافَقَهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ"(شَرْحُ النَّوَوِيِّ عَلَى مُسْلِمٍ).
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ مِنَ الْأَخْطَاءِ الَّتِي تَقَعُ فِيهَا الْمُعْتَدَّاتُ الْخَلْطَ بَيْنَ أَنْوَاعِ الْعِدَّةِ، فَتَكُونُ الْمَرْأَةُ مِنْ ذَوَاتِ الْحَيْضِ ثُمَّ تَعْتَدُّ بِالْأَشْهُرِ بَدَلًا مِنَ الْأَقْرَاءِ! وَقَدْ قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ)[الْبَقَرَةِ: 228]، إِمَّا حَيْضَاتٍ أَوْ أَطْهَارًا، أَمَّا الِاعْتِدَادُ بِالْأَشْهُرِ فَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ -تَعَالَى- لِلْيَائِسَةِ مِنَ الْحَيْضِ أَوِ الَّتِي لَمْ تَحِضْ بَعْدُ لِصِغَرِهَا: (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ)[الطَّلَاقِ: 4].
وَأَمَّا الْمُعْتَدَّةُ الْحَامِلُ فَإِنَّ عِدَّتَهَا هِيَ وَضْعُ حَمْلِهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ رَجْعِيَّةً أَوْ بَائِنَةً أَوْ مِنْ وَفَاةِ زَوْجِهَا، فَقَدْ قَالَ -تَعَالَى-: (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ)[الطَّلَاقِ: 4]، وَلَمَّا سُئِلَتْ سُبَيْعَةُ الْأَسْلَمِيَّةُ: كَيْفَ أَفْتَاهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ قُتِلَ زَوْجُهَا وَهِيَ حُبْلَى؟ قَالَتْ: "أَفْتَانِي إِذَا وَضَعْتُ أَنْ أَنْكِحَ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، نَعَمْ، إِنْ وَلَدَتْ وَلَوْ بَعْدَ لَحْظَةٍ مِنْ طَلَاقِهَا أَوْ مِنْ مَوْتِ زَوْجِهَا فَقَدْ حَلَّتْ لِلْخُطَّابِ، يَقُولُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "لَوْ وَضَعَتْ وَزَوْجُهَا عَلَى سَرِيرِهِ لَمْ يُدْفَنْ بَعْدُ، لَحَلَّتْ"(مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ).
فَمَا دَامَتْ حَامِلًا فَإِنَّ عِدَّتَهَا وَضْعُ حَمْلِهَا، مَهْمَا كَانَ حَالُهَا، وَلَيْسَ كَمَا يَصْنَعُ بَعْضُ النَّاسِ؛ فَتَضَعُ حَمْلَهَا بَعْدَ شَهْرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ، ثُمَّ تُتِمُّ الْعِدَّةَ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ، أَوْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا!
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ مِنَ الْمُمَارَسَاتِ الْمُحَرَّمَةِ فِي أَثْنَاءِ الْعِدَّةِ التَّصْرِيحَ بِخُطْبَةِ الْمُعْتَدَّةِ، فَأَمَّا الرَّجْعِيَّةُ فَهِيَ مَا زَالَتْ زَوْجَةً؛ فَلِزَوْجِهَا أَنْ يُرَاجِعَهَا فِي أَيِّ وَقْتٍ مَا دَامَتْ عِدَّتُهَا لَمْ تَنْتَهِ: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا)[الْبَقَرَةِ: 228]، وَأَمَّا الْبَائِنَةُ وَمَنْ مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا فَاحْتِرَامًا لِلزَّوْجِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ قَائِمَةً، فَيَحْرُمُ التَّصْرِيحُ بِخُطْبَةِ الْمُعْتَدَّةِ مُطْلَقًا.
أَمَّا مُجَرَّدُ التَّعْرِيضِ وَالتَّلْمِيحِ بِالْخُطْبَةِ لِغَيْرِ الرَّجْعِيَّةِ فَلَا حَرَجَ فِيهِ، قَالَ -تَعَالَى-: (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ)[الْبَقَرَةِ: 235]، وَيَكُونُ التَّعْرِيضُ كَمَا جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنْ يَقُولَ: "إِنِّي أُرِيدُ التَّزْوِيجَ، وَلَوَدِدْتُ أَنَّهُ تَيَسَّرَ لِي امْرَأَةٌ صَالِحَةٌ"، وَقَالَ الْقَاسِمُ: "يَقُولُ: إِنَّكِ عَلَيَّ كَرِيمَةٌ، وَإِنِّي فِيكِ لَرَاغِبٌ، وَإِنَّ اللَّهَ لَسَائِقٌ إِلَيْكِ خَيْرًا"، وَقَالَ عَطَاءٌ: "يُعَرِّضُ وَلَا يَبُوحُ، يَقُولُ: إِنَّ لِي حَاجَةً، وَأَبْشِرِي، وَأَنْتِ -بِحَمْدِ اللَّهِ- نَافِقَةٌ"(رَوَاهَا الْبُخَارِيُّ).
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ الْقَبِيحَةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا أَوْلِيَاءُ الْمُطَلَّقَةِ هُوَ مَنْعُهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَى زَوْجِهَا إِذَا تَوَافَقَا عَلَى ذَلِكَ، أَوْ مَنْعُهَا مِنَ التَّزَوُّجِ مِنْ كُفْءٍ لَهَا، إِذَا تَرَاضَيَا، يَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ: "وَمَعْنَى الْعَضْلِ: مَنْعُ الْمَرْأَةِ مِنَ التَّزْوِيجِ بِكُفْئِهَا إِذَا طَلَبَتْ ذَلِكَ، وَرَغِبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي صَاحِبِهِ"(الْمُغْنِي، لِابْنِ قُدَامَةَ).
وَهُوَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ لِقَوْلِهِ -تَعَالَى-: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ)[الْبَقَرَةِ: 232]، وَفِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ يَقُولُ الْحَسَنُ: حَدَّثَنِي مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ، قَالَ: زَوَّجْتُ أُخْتًا لِي مِنْ رَجُلٍ فَطَلَّقَهَا، حَتَّى إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا جَاءَ يَخْطُبُهَا، فَقُلْتُ لَهُ: زَوَّجْتُكَ وَفَرَشْتُكَ وَأَكْرَمْتُكَ، فَطَلَّقْتَهَا، ثُمَّ جِئْتَ تَخْطُبُهَا، لَا وَاللَّهِ لَا تَعُودُ إِلَيْكَ أَبَدًا، وَكَانَ رَجُلًا لَا بَأْسَ بِهِ، وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تُرِيدُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ: (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ)[الْبَقَرَةِ: 232]، فَقُلْتُ: الْآنَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "فَزَوَّجَهَا إِيَّاهُ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).
وَإِنْ لَمْ يَرْجِعِ الْوَلِيُّ الْعَاضِلُ عَنْ ظُلْمِهِ، وَيُزَوِّجُ مُوَلِّيَتَهُ مِنْ كُفْئِهَا انْتَقَلَتْ وِلَايَتُهَا مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، يَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ أَيْضًا: "إِذَا عَضَلَهَا وَلِيُّهَا الْأَقْرَبُ، انْتَقَلَتِ الْوِلَايَةُ إِلَى الْأَبْعَدِ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى: تَنْتَقِلُ إِلَى السُّلْطَانِ"(الْمُغْنِي، لِابْنِ قُدَامَةَ).
وَالْأَجْدَرُ بِالْوَلِيِّ أَنْ يَمْتَلِكَ تَمَامَ الشَّفَقَةِ عَلَى مُوَلِّيَتِهِ، وَأَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ فِيهَا، وَلَا يَحْجُبَ عَنْهَا خَيْرًا أَوْ يُوقِعَهَا فِي الْعَنَتِ، وَذَاكَ الْمُؤَمَّلُ مِنْ كُلِّ وَلِيٍّ.
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، أَمَّا بَعْدُ:
فَيَا عِبَادَ اللَّهِ: وَمِنَ الْمُمَارَسَاتِ الْمُحَرَّمَةِ الَّتِي تَرْتَكِبُهَا بَعْضُ الْمُعْتَدَّاتِ مِنْ وَفَاةِ أَزْوَاجِهِنَّ أَنْ تَتَزَيَّنَ وَتَخْتَضِبَ وَتَتَطَيَّبَ، بَلِ الْوَاجِبُ عَلَيْهَا هُوَ الْإِحْدَادُ بِتَرْكِ مَا تَتَزَيَّنُ بِهِ الْمَرْأَةُ مِنَ الْحُلِيِّ وَالْحَرِيرِ وَالْكُحْلِ وَالْخِضَابِ وَالطِّيبِ؛ وَفَاءً وَحُزْنًا عَلَى زَوْجِهَا، وَيَجِبُ عَلَيْهَا ذَلِكَ طَوَالَ مُدَّةِ عِدَّتِهَا الَّتِي هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ قَمَرِيَّةٍ وَعَشَرَةُ أَيَّامٍ، فَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: "كُنَّا نُنْهَى أَنْ نَحُدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَلَا نَكْتَحِلَ وَلَا نَتَطَيَّبَ وَلَا نَلْبَسَ ثَوْبًا مَصْبُوغًا، إِلَّا ثَوْبَ عَصْبٍ (نَوْعٌ مِنْ بُرُودِ الْيَمَنِ)، وَقَدْ رُخِّصَ لَنَا عِنْدَ الطُّهْرِ إِذَا اغْتَسَلَتْ إِحْدَانَا مِنْ مَحِيضِهَا فِي نُبْذَةٍ مِنْ كُسْتِ أَظْفَارٍ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، أَيْ: رُخِّصَ لَهُنَّ فِي "قِطْعَةٍ صَغِيرَةٍ مِنْ "كُسْتِ أَظْفَارٍ"؛ وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْعِطْرِ وَالطِّيبِ، الْقِطْعَةُ مِنْهُ عَلَى شَكْلِ الظُّفْرِ".
وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا لَا تَلْبَسُ الْمُعَصْفَرَ مِنَ الثِّيَابِ، وَلَا الْمُمَشَّقَةَ، وَلَا الْحُلِيَّ، وَلَا تَخْتَضِبُ، وَلَا تَكْتَحِلُ"(رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ)، وَالْمُمَشَّقَةُ هُوَ الثَّوْبُ الْمَصْبُوغُ بِطِينٍ أَحْمَرَ يُسَمَّى مَشْقًا.
وَلَقَدْ بَلَغَ الْأَمْرُ أَنْ رَفَضَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ تَكْتَحِلَ الْمُعْتَدَّةُ مِنْ مَوْتِ زَوْجِهَا حَتَّى لِمَرَضٍ فِي عَيْنَيْهَا؛ فَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَيْضًا أَنَّهَا قَالَتْ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ ابْنَتِي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا، وَقَدِ اشْتَكَتْ عَيْنُهَا، أَفَنَكْحِلُهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا" مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: "لَا"، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، وَقَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، أَيْ: تَعْتَدُّ عَامًا كَامِلًا، لَا تَخْرُجُ إِلَّا بَعْدَ تَمَامِهِ، فَتُعْطَى بَعْرَةً فَتَرْمِي بِهَا، ثُمَّ تَتَطَيَّبُ؛ كَعَادَتِهِنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
فَهَذِي -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ- جُمْلَةٌ مِنَ الْمُخَالَفَاتِ الَّتِي تَقَعُ فِي عِدَّةِ الْمُطَلَّقَاتِ فَاجْتَنِبُوهَا، فَلَا تُخْرِجُوا الرَّجْعِيَّةَ مِنْ بَيْتِهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، وَاعْرِفُوا لِكُلِّ مُعْتَدَّةٍ مِقْدَارَ عِدَّتِهَا، وَلَا تُصَرِّحُوا بِخُطْبَتِهَا، وَلَا تَعْضُلُوا الْمُطَلَّقَةَ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى زَوْجِهَا مَا تَرَاضَيَا، وَمُرُوا الْمُعْتَدَّةَ مِنْ وَفَاةٍ بِالْحِدَادِ عَلَى زَوْجِهَا، وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا، فَإِنْ فَعَلْتُمْ، أَفْلَحْتُمْ وَأَنْجَحْتُمْ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم