عناصر الخطبة
1/خطورة نقل الخلافات الزوجية وإفشائها 2/بعض صور التدخل الأسري في حياة الزوجين 3/مساوئ التدخل الأسري في الخلافات الزوجية 4/متى يكون التدخل الأسري بين الزوجين محمودا وما ضوابطه 5/نصائح للزوجين في كيفية التعامل مع الخلافات وسبل معالجتها.اقتباس
إِنَّ لِلتَّدَخُّلِ الْأُسَرِيِّ فِي حَيَاةِ الزَّوْجَيْنِ أَلْفَ صُورَةٍ وَطَرِيقَةٍ، وَرُبَّمَا بَدَأَ ذَلِكَ التَّدَخُّلُ مِنْ حِينِ دُخُولِهِ عَلَيْهَا فِي لَيْلَةِ الزِّفَافِ؛ وَمِنْ صُوَرِ التَّدَخُّلِ الْمَرْفُوضِ أَنْ يَسْأَلَ أَهْلُ الزَّوْجَةِ ابْنَتَهُمْ عَمَّا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ، وَعَنْ مَنَامِ الزَّوْجِ وَيَقَظَتِهِ، وَعَنْ مَا يَدَّخِرُونَ فِي بَيْتِهِمْ وَمَا يُنْفِقُونَ!...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
عِبَادَ اللَّهِ: مَا عَاشَ بَشَرٌ فِي مَكَانٍ، إِلَّا وَقَعَ بَيْنَهُمْ بَعْضُ التَّشَاحُنِ وَالْخِصَامِ، سَوَاءٌ كَانُوا شُرَكَاءَ أَوْ إِخْوَةً أَوْ جِيرَانًا أَوْ حَتَّى أَزْوَاجًا؛ ذَلِكَ أَنَّ الْخِلَافَ طَبِيعَةُ الْبَشَرِ، وَلَطَالَمَا اخْتَلَفَ الصِّدِّيقُ أَبُو بَكْرٍ مَعَ الْفَارُوقِ عُمَرَ، بَيْنَ يَدَيْ خَيْرِ الْأَنَامِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَاخْتَلَفَ كَذَلِكَ مَنْ دُونَهُمَا.
مِنْ هُنَا نُدْرِكُ -مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ- أَنَّ الْخِلَافَاتِ الَّتِي تَنْشَأُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ هِيَ شَيْءٌ طَبِيعِيٌّ، وَجِبِلَّةٌ مَرْكُوزَةٌ فِي الْبَشَرِيَّةِ: (وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ)[هُودٍ:118]، وَهِيَ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ، بَلْ مِنْ سُنَنِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الَّتِي بُنِيَتْ عَلَى الْمَشَقَّةِ وَالنَّصَبِ وَالْكَدَرِ:
طُبِعَتْ عَلَى كَدَرٍ وَأَنْتَ تُرِيدُهَا *** صَفْوًا مِنَ الْأَقْذَارِ وَالْأَكْدَارِ
وَمُكَلِّفُ الْأَيَّامِ ضِدَّ طِبَاعِهَا *** مُتَطَلِّبٌ فِي الْمَاءِ جَذْوَةَ نَارِ
عِبَادَ اللَّهِ: وَمَعَ طَبِيعَةِ الْخِلَافِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ إِلَّا إِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمُرُوءَةِ وَلَا الْوَفَاءِ، إِذَاعَةُ الْمَشَاكِلِ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَ الْأَهْلِ وَالْأَخِلَّاءِ؛ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ [فَتْحًا] لِلْبَابِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَدَخَّلَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، فَالْفُضُولُ أَيْضًا مِنْ طَبِيعَةِ الْبَشَرِ.
وَحِينَئِذٍ تَضِيقُ فُرَصُ التَّصَالُحِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ؛ فَإِنَّ الْمُشْكِلَةَ مَا دَامَتْ بَيْنَ الزَّوْجِ وَزَوْجَتِهِ لَمْ تَتَجَاوَزْهُمَا فَحَرِيٌّ بِهَا أَنْ تُحَلَّ فِي أَيِّ لَحْظَةٍ بِكَلِمَةٍ، أَوْ بِلَفْتَةٍ، أَوْ بِابْتِسَامَةٍ، أَوْ هَدِيَّةٍ، فَتَخْمُدَ نَارُ الْخِلَافِ وَتَصِيرَ جَذْوَتُهُ رَمَادًا، وَتَحِلَّ الْمَوَدَّةُ وَالْوِئَامُ مَكَانَ الْخِلَافِ وَالْخِصَامِ.
وَمِنَ الزَّوْجَاتِ مَنْ هِيَ كَثِيرَةُ التَّشَكِّي مِنْ زَوْجِهَا حَتَّى تَكْشِفَ جَمِيعَ أَسْرَارِهِ، فَتَقُولَ عَنْهُ: كَثِيرُ الطَّلَبَاتِ، أَوْ سَلِيطُ اللِّسَانِ، أَوْ ذُو رَائِحَةٍ كَرِيهَةٍ... وَمِنَ الْأَزْوَاجِ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ فَيَقُولُ: زَوْجَتِي لَا تُجِيدُ الطَّهْيَ وَلَا التَّنْظِيفَ، وَلَا تَرْبِيَةَ الْأَطْفَالِ...
وَلَقَدْ جَاءَ النَّهْيُ النَّبَوِيُّ الصَّرِيحُ عَنْ إِفْشَاءِ الْأَسْرَارِ الزَّوْجِيَّةِ، خَاصَّةً مَا كَانَ مِنْهَا ذَا خُصُوصِيَّةٍ، يَقُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الرَّجُلَ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ، وَتُفْضِي إِلَيْهِ، ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
وَإِنَّ مِنَ الْأَزْوَاجِ مَنْ إِذَا وَقَعَ بَيْنَهُمْ خِلَافٌ أَوْ خِصَامٌ، هَتَكَ الْأَسْتَارَ وَنَشَرَ الْأَسْرَارَ، وَتِلْكَ -بِلَا رَيْبٍ- خِيَانَةٌ لِلْأَمَانَةِ؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ بِالْحَدِيثِ ثُمَّ الْتَفَتَ فَهِيَ أَمَانَةٌ"(رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ).
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ لِلتَّدَخُّلِ الْأُسَرِيِّ فِي حَيَاةِ الزَّوْجَيْنِ أَلْفَ صُورَةٍ وَطَرِيقَةٍ، وَرُبَّمَا بَدَأَ ذَلِكَ التَّدَخُّلُ مِنْ حِينِ دُخُولِهِ عَلَيْهَا فِي لَيْلَةِ الزِّفَافِ؛ وَمِنْ صُوَرِ التَّدَخُّلِ الْمَرْفُوضِ أَنْ يَسْأَلَ أَهْلُ الزَّوْجَةِ ابْنَتَهُمْ عَمَّا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ، وَعَنْ مَنَامِ الزَّوْجِ وَيَقَظَتِهِ، وَعَنْ مَا يَدَّخِرُونَ فِي بَيْتِهِمْ وَمَا يُنْفِقُونَ! وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ"(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ).
وَمِنْهَا أَيْضًا: أَنْ يَتَجَسَّسَ الْأَهْلُ عَلَى الزَّوْجَيْنِ، فَإِنْ عَلِمُوا شَيْئًا جَاؤُوا فَتَدَخَّلُوا بَيْنَهُمَا بِلَا تَبَصُّرٍ، فَأَفْسَدُوا وَمَا أَصْلَحُوا... وَاللَّهُ -تَعَالَى- يَقُولُ: (وَلَا تَجَسَّسُوا)[الْحُجُرَاتِ:12].
وَمِنْهَا: النَّصَائِحُ الْخَاطِئَةُ مِنْ أَهْلِ الزَّوْجَةِ؛ كَأَنْ يَقُولُوا لَهَا: "لَا تُطَاوِعِيهِ فِي كُلِّ أَمْرٍ فَيَسْتَخِفَّ بِكِ، وَإِذَا أَسَاءَ إِلَيْكِ فَاتْرُكِي لَهُ بَيْتَهُ!"... أَوْ يَقُولَ أَهْلُ الزَّوْجِ لَهُ: "كُنْ مَعَهَا شَدِيدًا، وَإِيَّاكَ أَنْ تَلِينَ فَتَظُنَّكَ ضَعِيفًا!"...
وَهَذَا قُدْوَتُنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعْلَمُ بِخِلَافٍ وَقَعَ بَيْنَ زَوْجَيْنِ، فَلَا يَتَدَخَّلُ فِيهِ، بَلْ يَتَجَاهَلُهُ كَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُهُ، ثُمَّ يَمْضِي وَكَأَنَّ الْأَمْرَ لَا يَعْنِيهِ، مَعَ أَنَّ هَذَيْنِ الزَّوْجَيْنِ: ابْنَتُهُ وَابْنُ عَمِّهِ؛ فَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْتَ فَاطِمَةَ فَلَمْ يَجِدْ عَلِيًّا فِي الْبَيْتِ، فَقَالَ: "أَيْنَ ابْنُ عَمِّكِ؟" قَالَتْ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيْءٌ فَغَاضَبَنِي فَخَرَجَ، فَلَمْ يَقِلْ عِنْدِي، فَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِإِنْسَانٍ: "انْظُرْ أَيْنَ هُوَ؟" فَجَاءَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هُوَ فِي الْمَسْجِدِ رَاقِدٌ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ مُضْطَجِعٌ، قَدْ سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ شِقِّهِ، وَأَصَابَهُ تُرَابٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَمْسَحُهُ عَنْهُ، وَيَقُولُ: "قُمْ أَبَا تُرَابٍ، قُمْ أَبَا تُرَابٍ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، فَدَاعَبَهُ، وَلَمْ يُعَاتِبْهُ فِي شَيْءٍ، وَسَمَّاهُ بِاسْمٍ صَارَ مِنْ أَحَبِّ الْأَسْمَاءِ إِلَيْهِ.
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ التَّدَخُّلَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَزَوْجَتِهِ يُفْسِدُ وَلَا يُصْلِحُ؛ فَفِيهِ فَضْحٌ لِمَا هُوَ مَسْتُورٌ بَيْنَهُمَا مِنْ أَسْرَارٍ، وَإِيغَارُ صُدُورِ أَهْلِ الزَّوْجَيْنِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَإِيقَاعُ الْعَدَاوَةِ بَيْنَهُمْ، حَتَّى وَإِنِ اصْطَلَحَ الزَّوْجَانِ فَإِنَّ الْأَهْلَ يَتَذَاكَرُونَ مَا وَقَعَ بَيْنَهُمْ مِنْ أَلْفَاظٍ نَابِيَةٍ وَعَصَبِيَّةٍ زَائِدَةٍ وَأَفْعَالٍ خَارِجَةٍ.
وَمِنْ مَسَاوِئِ التَّدَخُّلِ الْأُسَرِيِّ أَيْضًا أَنَّهُ يُسَبِّبُ تَفَاقُمَ الْمُشْكِلَاتِ، وَاشْتِعَالَ الْأَزَمَاتِ، وَاتِّسَاعَ الْخَرْقِ عَلَى الرَّاقِعِ، حَتَّى يَصِلَ إِلَى حَدِّ الطَّلَاقِ، وَكَمْ مِنْ أَزْوَاجٍ طَرَقُوا أَبْوَابَ الْمَحَاكِمِ سَنَوَاتٍ؛ بِسَبَبِ تَدَخُّلِ الْأَهْلِ بَيْنَهُمْ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ يُصِيبُ الْأَوْلَادَ بِالْمُشْكِلَاتِ النَّفْسِيَّةِ؛ حِينَمَا يَجِدُونَ النَّارَ تَتَأَجَّجُ بَيْنَ أَجْدَادِهِمْ، وَالْكَرَاهِيَةَ تَشْتَعِلُ بَيْنَ أَعْمَامِهِمْ وَأَخْوَالِهِمْ، وَعَمَّاتِهِمْ وَخَالَاتِهِمْ، وَكُلُّ طَرَفٍ يَسْتَعْدِيهِمْ عَلَى الطَّرَفِ الْآخَرِ وَيُشَوِّهُهُ فِي أَعْيُنِهِمْ، فَيَنْشَئُونَ نَشْأَةً غَيْرَ سَوِيَّةٍ وَلَا طَبِيعِيَّةٍ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: لَيْسَ مَعْنَى هَذَا أَنَّ كُلَّ تَدَخُّلٍ مِنَ الْأَهْلِ مَذْمُومٌ مَرْفُوضٌ، كَلَّا، بَلْ إِنَّ مِنْهَا مَا يَكُونُ مَحْمُودًا وَمَطْلُوبًا؛ وَذَلِكَ مَا كَانَ بِالْحُسْنَى وَالْمَعْرُوفِ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ التَّدَخُّلُ طَرِيقًا لِإِصْلَاحِ خَطَأٍ مَا أَوْ لِتَفَادِيهِ، تَمَامًا مِثْلَمَا فَعَلَ رَسُولُنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي وَاقِعَةٍ أُخْرَى؛ فَعَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ: أَنَّ عَلِيًّا خَطَبَ بِنْتَ أَبِي جَهْلٍ، فَلَمَّا سَمِعَتْ بِذَلِكَ فَاطِمَةُ أَتَتِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَتْ لَهُ: إِنَّ قَوْمَكَ يَتَحَدَّثُونَ أَنَّكَ لَا تَغْضَبُ لِبَنَاتِكَ، وَهَذَا عَلِيٌّ نَاكِحًا ابْنَةَ أَبِي جَهْلٍ، فَقَامَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "... فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ مُضْغَةٌ مِنِّي، وَإِنَّمَا أَكْرَهُ أَنْ يَفْتِنُوهَا، وَإِنَّهَا -وَاللَّهِ- لَا تَجْتَمِعُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ وَبِنْتُ عَدُوِّ اللَّهِ عِنْدَ رَجُلٍ وَاحِدٍ أَبَدًا"، فَتَرَكَ عَلِيٌّ الْخِطْبَةَ.(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
فَلَمْ يَتَدَخَّلْ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَهُمَا إِلَّا حِينَ تَحَتَّمَ عَلَيْهِ التَّدَخُّلُ وَلَمْ يَعُدْ غَيْرُهُ سَبِيلًا؛ فَهَذِهِ ابْنَتُهُ تَسْتَغِيثُ بِهِ، وَهُوَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَخَافُ عَلَيْهَا أَنْ تُفْتَنَ فِي دِينِهَا، وَالنَّاسُ يَتَكَلَّمُونَ أَنَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَا يَغْضَبُ لِبَنَاتِهِ... فَعِنْدَئِذٍ تَدَخَّلَ.
وَمِنْ ضَوَابِطِ التَّدَخُّلِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ أَيْضًا: أَلَّا يَتَعَصَّبَ لِقَرِيبِهِ، بَلْ يُعَاتِبُهُ إِنْ كَانَ هُوَ الْمُخْطِئَ، فَقَدْ تَدَخَّلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- هُوَ الْآخَرُ، لَمَّا رَأَى خَطَأً جَسِيمًا تَرْتَكِبُهُ ابْنَتُهُ مَعَ زَوْجِهَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذْ تَهْجُرُهُ وَتُغَاضِبُهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا قَائِلًا: "أَيْ حَفْصَةُ، أَتُغَاضِبُ إِحْدَاكُنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْيَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، فَقُلْتُ: خَابَتْ وَخَسِرَتْ؛ أَفَتَأْمَنُ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ لِغَضَبِ رَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَتَهْلِكِينَ! لَا تَسْتَكْثِرِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَلَا تُرَاجِعِيهِ فِي شَيْءٍ، وَلَا تَهْجُرِيهِ، وَاسْأَلِينِي مَا بَدَا لَكِ..."(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
وَسَمِعَ أَبُو بَكْرٍ ابْنَتَهُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَعَنْ أَبِيهَا- تَرْفَعُ صَوْتَهَا أَمَامَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَلَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنْ أَنْ يَتَدَخَّلَ، صَائِحًا فِيهَا: "يَا ابْنَةَ أُمِّ رُومَانَ"، وَتَنَاوَلَهَا، أَتَرْفَعِينَ صَوْتَكِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟! قَالَ: فَحَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، فَلَمَّا خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ جَعَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ لَهَا يَتَرَضَّاهَا: "أَلَا تَرَيْنَ أَنِّي قَدْ حُلْتُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَكِ"، قَالَ: ثُمَّ جَاءَ أَبُو بَكْرٍ، فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ، فَوَجَدَهُ يُضَاحِكُهَا، قَالَ: فَأَذِنَ لَهُ، فَدَخَلَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَشْرِكَانِي فِي سِلْمِكُمَا، كَمَا أَشْرَكْتُمَانِي فِي حَرْبِكُمَا.(رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ).
فَهَكَذَا يَكُونُ التَّدَخُّلُ الْمَحْمُودُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ؛ يُصْلِحُ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَقِفُ مَعَ الْحَقِّ بِحِكْمَةٍ، وَيُعَنِّفُ قَرِيبَهُ الْمُخْطِئَ، وَيَكُونُ بَلْسَمًا يُوضَعُ عَلَى الْجُرْحِ فَيَنْدَمِلُ، وَمَاءً تُسْكَبُ عَلَى النَّارِ فَتَنْطَفِئُ.
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، أَمَّا بَعْدُ:
وَالسُّؤَالُ الْآنَ -عِبَادَ اللَّهِ-: كَيْفَ نَتَجَنَّبُ وُقُوعَ الْخِلَافَاتِ، وَكَيْفَ نَحْتَوِيهَا إِذَا وَقَعَتْ؟ وَنُجِيبُ: أَنَّ لِذَلِكَ أَسْبَابًا نُجْمِلُهَا فِي النَّصَائِحِ التَّالِيَةِ:
أَوَّلًا: أَدَاءُ الْوَاجِبَاتِ وَعَدَمُ اسْتِقْصَاءِ الْحُقُوقِ: فَلْيَعْرِفْ كُلُّ طَرَفٍ وَاجِبَاتِهِ، فَيُحْسِنُ أَدَاءَهَا: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ)[الْبَقَرَةِ:228]، فَيُؤَدِّي الَّذِي عَلَيْهِ، وَلَا يَسْتَقْصِي الَّذِي لَهُ.
ثَانِيًا: التَّجَاوُزُ عَنِ الْهَفَوَاتِ، وَالنَّظَرُ إِلَى الْمَحَاسِنِ: فَبِهَذَا أُمِرْنَا: "لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ)، وَفِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا)[النِّسَاءِ:19].
ثَالِثًا: تَقْدِيرُ الْمَشَاعِرِ وَمُرَاعَاتُهَا: فَهَا هُوَ سَيِّدُ الْخَلْقِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُقَدِّرُ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- وَيَرْقُبُ رِضَاهَا وَغَضَبَهَا، فَيَقُولُ لَهَا: "إِنِّي لَأَعْلَمُ إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً، وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى"، فَقَالَتْ: مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: "أَمَّا إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً، فَإِنَّكِ تَقُولِينَ: لَا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ، وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى، قُلْتِ: لَا وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ"، قَالَتْ: أَجَلْ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَهْجُرُ إِلَّا اسْمَكَ.(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
رَابِعًا: كَتْمُ الْمُشْكِلَاتِ وَعَدَمُ إِشَاعَتِهَا: فَإِنَّ فِي ذَلِكَ سَدًّا لِبَابِ تَدَخُّلِ الْآخَرِينَ مِنَ الْأَصْلِ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: سَمِعْتُمْ مَا يَنْتُجُ عَنِ التَّدَخُّلِ الْأُسَرِيِّ فِي الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ بِالزَّوْجَيْنِ، وَعَرَفْتُمْ بَعْضَ صُوَرِهِ وَمَسَاوِئِهِ، فَعَلَى الزَّوْجَيْنِ أَلَّا يُفْشِيَا مَشَاكِلَهُمَا إِلَى خَارِجِ أَسْوَارِ الزَّوْجِيَّةِ، وَأَنْ يَسْعَيَا إِلَى حِلِّهَا قَبْلَ تَفَاقُمِهَا، وَعَلَيْهِمَا أَنْ يُدْرِكَا أَنَّ الْخِلَافَ وَالنِّزَاعَ طَبِيعَةُ الْحَيَاةِ الْبَشَرِيَّةِ، فَلَا اتِّفَاقَ كُلِّيٌّ، وَلَا اخْتِلَافَ كُلِّيٌّ، وَإِذَا مَا أَدْرَكَا ذَلِكَ تَجَاوَزَا عَنِ الْهَفَوَاتِ، وَحَرِصَا عَلَى زَوَالِ أَسْبَابِ الشِّقَاقِ، وَعَاشَا حَيَاةً هَانِئَةً يَسُودُهَا الْحُبُّ وَالْقُرْبُ وَالِاتِّفَاقُ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ:56].
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم