عناصر الخطبة
1/ أهمية الحوار الراقي وثمراته 2/ شروط الحوار الناجح 3/ آداب الحوار 4/ بعض المحاورات في كتاب الله وسنة رسوله.اقتباس
إن هذا النموذج الحضاري الذي نأخذه من سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- يعطينا معلمًا عظيمًا وهامًّا من معالم الحياة ومن معالم الاستقرار في هذه الدنيا.. إنه الحوار الذي أعلى الإسلام مناره وحثّ النبي -صلى الله عليه وسلم- عليه، إن أولئك القوم الذين أسلموا على يد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأذعنت وانقادت قلوبهم لهذا الدين إنما حمل بعضهم الارتياب لأنهم حاوروا النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- وحاوروا أتباعه حتى وصلوا إلى الحقيقة التي يريدونها.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نستغفره ونستعينه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارًا به وتوحيدًا. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُه ورسوله صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى أزواجه أمهات المؤمنين وعلى من سلك سبيلهم أو سار أو استنار بهدي المصطفى الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
أما بعد: اتقوا الله حق التقوى واستمسكوا من دينكم بالعروة الوثقى، واعلموا أن أجسادنا على النار لا تقوى.
أيها المؤمنون: من المواقف العظيمة في حياة نبينا وسيدنا -صلى الله عليه وسلم- ذلكم الموقف الكبير الذي يظهر من خلاله كيف كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتعاطى مع الناس جميعًا مسلمهم وكافرهم، برهم وفاجرهم؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- كان صاحب رسالة وصاحب مبدأ عظيم، وكان يحمل -صلى الله عليه وسلم- بين يديه الهداية والرحمة للبشرية جميعًا، ودونكم هذا الموقف لعتبة بن ربيعة يسامر أصحابه ويجلس معهم فيمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أمامهم فيقول لهم عتبة بن ربيعة: "يا قوم! ألا أقوم إلى هذا الرجل فأتحدث إليه، وأعرض عليه أمورًا لعله إن قبل بعضها أن نبذلها إليه حتى يكفّ عنا؟" قالوا: نعم.
فدنا من النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال له عتبة بن ربيعة: "يا محمد! إنك منا حيث قد علمت من الشرف والمكانة والسؤدد، وإنك قد أتيتنا بهذا الدين الذي فرّقت فيه كلمتنا وشتّت جمعنا، وتفهت أحلامنا وعبت ديننا؛ فإني أعرض عليك أمورًا لعلك إن قبلتها أو قبلت بعضها أن نبذلها إليك حتى تكفّ عنا هذا الحديث".
قال له النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يحاور إمامًا من أئمة الكفر، ويحاور رمزًا من رموز الشرك-: "قل يا أبا الوليد أسمع"، والعرب كانوا إذا كنوا عظّموا فأراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يستمع من هذا الرجل الكافر، قال له "قل يا أبا الوليد أسمع".
فقال له عتبة بن ربيعة: "إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفاً سودناك علينا، حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد به مُلكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه؛ فإنه ربما غلب التابع على الرحيل حتى يداوى منه".
عتبة بن ربيعة يعرض هذه الأمور التي فيها مساس بنية النبي -صلى الله عليه وسلم- ومساس بعقيدته، ومساس بصدقه ومكانته، وأنه إنما يدعو إلى ما يدعو إليه من أجل هذه الدنيا الفانية لم يقاطعه النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يوقف حديثه بل أصغى إليه واستمع إليه -صلى الله عليه وسلم-.
فلما فرغ عتبة من حديثه قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أقد فرغت يا أبا الوليد؟" لم يقاطعه ولم يوقف حديثه، قال: نعم، قال: "فاسمع مني"، قال: أفعل، فقال: "بسم الله الرحمن الرحيم (حم * تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ..) [فصلت: 1- 4]، حتى بلغ قول الله جل وعلا: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ) [فصلت:13].
فأخذ عتبة يده ووضعها على فم النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يعلم أنه الصادق الأمين قال: "ناشدتك اللهَ والرحمَ أن تكفَّ"، فكفَّ النبي -صلى الله عليه وسلم-.
عاد عتبة أدراجه إلى قومه الذين ينتظرون الحديث الذي دار بينهم وما تمخض عنه من نتائج، فقال بعضهم لبعض وهم يرونه قد أقبل عليهم: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به.
لا بد أن يأتي بغير الوجه الذي ذهب به، لقد استمع إلى القرآن، لقد أصغى إلى النبي الكريم -عليه الصلاة والسلام-، لقد استمع القرآن من فم من لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى عليه الصلاة والسلام.
قالوا ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: "ورائي أني سمعت قولاً -والله- ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة -يا معشر قريش- أطيعوني واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه؛ فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم؛ فإن تصبه العرب فقد كُفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فمُلكه مُلككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به".
فلم يقبلوا هذا الحديث، ولم يقبلوا هذه النصيحة التي قالها عتبة بن ربيعة.
إن هذا النموذج الحضاري الذي نأخذه من سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- يعطينا معلمًا عظيمًا وهامًّا من معالم الحياة ومن معالم الاستقرار في هذه الدنيا يعطينا معلما بتعاطينا مع الناس مع المسلم وحتى مع غير المسلم.
إنه الحوار الذي أعلى الإسلام مناره وحثّ النبي -صلى الله عليه وسلم- عليه، إن أولئك القوم الذين أسلموا على يد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأذعنت وانقادت قلوبهم لهذا الدين إنما حمل بعضهم الارتياب؛ لأنهم حاوروا النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- وحاوروا أتباعه حتى وصلوا إلى الحقيقة التي يريدونها.
وكما قال جل وعلا (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل:125].
إن الحوار ليس دليلاً دائمًا على الضعف بل قد ينطلق من مبدأ القوة، وانظروا –يا رعاكم الله- إلى كتاب ربكم بين أيديكم تجدون أن الله -جل وعلا- في كتابه قصَّ علينا قصصًا كثيرة عن الحوار بين الأمم بل جعل الله -جل وعلا- من شعار رسالات الأنبياء أنهم كانوا يحاورون أقوامهم، فقد حاور إبراهيم أباه وقومه فقد قال سبحانه وتعالى: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ) [الأنعام:76].
إن إبراهيم -عليه السلام- لا يجرّب أن يعبد ربًّا آخر، ولكن يريد أن يثبت لقومه أن الله الواحد الأحد لا بد أن يتفرد بصفة البقاء (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ) [الأنعام: 76- 78].
نعم -أيها المؤمنون- الحوار بين الأنبياء وبين أقوامهم كان من أجل أن يعبدوا الله، وأن يزيح من عقولهم ومن قلوبهم ما علق بها من شهوات ومن شبهات.
بل إن الله -جل وعلا- قصَّ علينا في كتابه حوار إبراهيم -عليه السلام- مع ربه وحوار موسى -عليه السلام- مع ربه، وبيّن الله -جل وعلا- لنا قصة موسى مع الخضر وهو يحاوره.
كل ذلك تأكيدًا وتأسيسًا لهذا المبدأ العظيم الذي يجب أن ينتشر في المجتمعات المسلمة يجب أن يكون الحوار دائمًا بين المربي وبين الطلاب، بين الأب وبين أسرته، بين الزوج وبين زوجته، وما حدثت الفتن ولا حدثت المشاكل والخلافات إلا بتصلب كل ذي رأي برأيه وابتعاد الناس أن يستمع بعضهم لبعض، وأن يقبلوا بعضهم من بعض.
تأملوا في هذا الموقف العظيم من نبينا -صلى الله عليه وسلم- يأتي سُويد بن الصامت من المدينة وكان رجلاً يطلق عليه قومه الكامل؛ لشرفه وكرمه وجلَده وقوته، فأتى إلى مكة معتمرًا أو حاجًّا فذهب إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- فعرض عليه الإسلام فقال له سُويد: "يا محمد لعل الذي معك من هذا الدين مثل الذي معي"، قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وما الذي معك؟" قال: "معي حكمة لقمان"، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أسمعني إياها".
فأسمعه فلما فرغ سويد من كلامه قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما أحسن هذا الكلام لكن الذي معي خيرا من الذي معك فأنصت إليَّ" فأنصت إليه سويد، أنصت إليه؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنصت إليه، وهكذا يأتي أدب الإنصات والاستماع إلى الآخرين وتركهم يقولون ما لديهم، ثم يعرض عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- ما لديه فتأثر سويد ثم عاد إلى قومه وهو يتحدث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعن دعوته، وعن رسالته بشيء عظيم من الكلام.
إن الحوار يهدي للتي هي أقوم إذا بذل الناس ورغبوا إلى الوصول إلى الحقيقة وحتى يكون الحوار مفيدًا، وحتى يكون الحوار بنّاءً فلا بد له من شروط.
أول هذه الشروط: إخلاص النية لله -جل وعلا- فلا يبتغي المحاور أن يظهر على الآخرين ليقال هو أعلم وهو أفقه وهو أحكم، وإنما يريد بذلك وجه الله -عز وجل-.
الشرط الثاني: أن يبتغي به الوصول إلى الحقيقة، وأن يصل إليها حتى ولو كان الحق مع غيره، وما أعظم ما قاله الإمام المبجل محمد بن إدريس الشافعي -رحمه الله- وانظر إلى هذه الكلمة وتأمل في هذه العبارة من هذا الرجل العظيم وهو يقول: "والله ما حاورت أحدًا إلا وتمنيت أن يُجري الله الحق على لسانه"، وبعضنا أثناء الحوار يتمنى أن يقع الذي أمامه في الزلل والخطأ من أجل أن ينتصر على غيره.
ليس هذا هو أدب الحوار؛ لأنه إذا وصل إلى هذا الأمر فإن المقصود ليس الوصول إلى الحقيقة، وليس المقصود نصرة الدين، وإنما المقصود أن ينتصر الإنسان بنفسه على الآخرين وأن يستقوي بعلمه الذي وهبه الله -جل وعلا-؛ فالعبد يسعى في الحوار حتى يصل إلى الحقيقة.
استمعوا إلى أبنائكم، استمعوا إلى نسائكم، استمعوا إلى تلاميذكم، استمعوا إلى جيرانكم، أشيعوا الحوار بينكم حتى تدوم المودة.
والله ما جلب الخلاف وسوء الظن بين الناس إلا إلى صدود كل واحد عن صاحبه وقد قال -صلى الله عليه وسلم عن الخصام بين الإخوة-: "يُعرض هذا، ويعرض هذا، وخيرهم الذي يبدأ بالسلام"، كان خيرهم؛ لأنه كسر حاجز النفس، وأتى من أجل أن يطيع الله وأن يطيع رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
أيها المؤمنون: إن الحوار من الأخلاق الكريمة التي دعا إليها نبينا -صلى الله عليه وسلم- فأشيعوا هذا الحوار، ادعوا الناس إلى دين الله -جل وعلا- بالحوار وببيان الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن؛ لنبتعد عن الخصام وعن الجدال وعن المراء.
ونعلم قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً".
إن المراء والجدال ورفع الصوت والخصام ليس هذا هو الحوار الذي دعا إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- تدخل إلى بعض المجالس فتطرح رؤيا، ثم بعد ذلك ترتفع الأصوات، ويبدأ الانتصار للذات، فلا يُعلم أين الحق الذي يسعى إليه الناس جميعًا، بينما لو وطّنا أنفسنا على الهدوء وعلى الروية وعلى الانتصار للدين، وعلى أن يرحم بعضنا بعضًا، وأن يكون هدفنا أن نصل إلى مرضاة الله -جل وعلا- لكان للحوار أثر عظيم في مجتمعاتنا وفي جميع المجتمعات.
نسأل الله بمنه وكرمه أن يفقّهنا في ديننا، وأن يعلمنا منه ما ينفعنا، وأن يزيدنا علما وهدى وتقى؛ إنه جواد كريم.
الخطبة الثانية:
من أعظم آداب الحوار التي نراعيها هي أن يكون هذا الحوار مبنيا على الرحمة، ومبينا على هداية الخلائق كما أمر النبي -صلى الله عليه وسلم-.
والله -جل وعلا- في كتابه قال لأفضل الخلق موسى وهارون في زمانهما -عليهما الصلاة والسلام- وهم من أنبياء الله -جل وعلا- حينما أرسلهما إلى أعدى خلق الله وهو فرعون فقال الله -جل وعلا-: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) [طه: 43- 44].
وقد أتى رجل إلى هارون الرشيد، فقال: يا أمير المؤمنين ويا خليفة المسلمين إني ناصحك ومشدد عليك في النصيحة. فقال له: والله لا أقبلها منك، قال ولِمَ؟ قال: لقد أرسل الله -جل وعلا- من هو خير منك إلى من هو شر مني، فأرسل الله موسى وهارون وهما خير منك إلى فرعون وهو شرّ مني فقال الله -جل وعلا-: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) [طه:44]، وينبغي أن لا يكون الحوار على قاعدة فرعون (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ).
يأتي شاب في مقتبل عمره إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فيقف أمام النبي -صلى الله عليه وسلم- بحضور أصحابه فيقول للنبي -صلى الله عليه وسلم- وأريدكم أن تستشعروا الموقف وأن تتخيلوا الحدث شاب في مقتبل عمره يقف أمام من؟ يقف أمام النبي -صلى الله عليه وسلم- وبحضور الصحابة الكرام الذين هم أعظم هذه الأمة غيرة على دين الله جل وعلا، فيقول الغلام للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "يا رسول الله، ائذن لي بالزنا".
الزنا لا يحتاج التدليل على حرمته ولا على بشاعته ولا على أنه كبيرة من الكبائر، بل هو معلوم في الفطرة وبالعقل وبالشرع، قال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا! فابتدره الصحابة وقالوا: مَه مه، فقال: "ادنه".
النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى أن هذا الغلام لم يرتكب الفاحشة أصلاً، ولو بيت النية على أن يرتكبها لما استأذن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولكنه عرض ما في قلبه على النبي -صلى الله عليه وسلم-.
قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ادنه"، فدنا منه قريبًا، قال: فجلس، قال: "أتحبه لأمك؟"، قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: "ولا الناس يحبونه لأمهاتهم"، قال: "أفتحبه لابنتك؟"، قال: لا واللَّه، يا رسول اللَّه جعلني اللَّه فداك، قال: "ولا الناس يحبونه لبناتهم"، قال: "أفتحبه لأختك؟" قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: "ولا الناس يحبونه لأخواتهم"، قال: "أفتحبه لعمتك؟" قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: "ولا الناس يحبونه لعماتهم"، قال: "أفتحبه لخالتك؟" قال: لا واللَّه جعلني اللَّه فداك، قال: "ولا الناس يحبونه لخالاتهم" قال: فوضع يده عليه وقال: "اللَّهمّ اغفر ذنبه وطهر قلبه، وحَصِّنْ فرْجَه" فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء.
نعم لقد أثّر النبي -صلى الله عليه وسلم- في عقله وأثّر في عاطفته ووجدانه، فاقتنع بحرمة هذه الكبيرة التي بينها الله -جل وعلا- في كتابه، وحذر منها المصطفى -صلى الله عليه وسلم-.
الحوار يوصل النتائج ويفي بالمقصود، وهؤلاء الخوارج الذي خرجوا على علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- خرج عليه أربعة آلاف يريدون قتله وإهدار دمه، فأتى ابن عباس -رضي الله عنهما- فذهب إليهم وحاورهم وجادلهم وناقشهم، وأقنعهم بالقرآن والسنة فعاد نصف هؤلاء إلى رشدهم وإلى الصواب، وإلى كتاب الله وإلى سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
فيا الله! ما أعظم ما يقدمه الحوار! وما أعظم نتائجه! إذا استُحضرت شروطه وطبقت ونشرته بين الناس حتى تكون ثقافة يتحلون بها ودين يدينون لله -جل وعلا- به.
اللهم يا رب العالمين ألف بين قلوبنا، واجمع شتاتها، اللهم إنا نسألك إيمانًا صادقًا ويقينًا راسخًا.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم