عناصر الخطبة
1/ تضييع الصلاة من أسباب ضعف الأمة 2/ أحوال الناس إزاء الصلاة 3/ مواقف تبين حرص السلف على الصلاة 4/ وجوب صلاة الجماعةاقتباس
فالصَّلاة المفروضة، التي هي عماد الدين، وركنه الرَّكين، أصبحَت اليوم محلَّ استخفافِ البعض، واستهزائهم، وتندُّرهم؛ فهي ضائعةٌ مُهمَلةٌ لدى الكثيرين، منسيَّةٌ مؤخَّرةٌ عن وقتها لدى آخَرين، تُؤدَّى في غير الجماعة لدى الباقين؛ ما أشدَّ خوفي -والله-! ما أشدَّه من أن يكون بعضنا قد اقترب كثيراً من وعيد الجبَّار: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ..
أيها المسلمون: في أعقاب معركةِ اليرموك الشهيرة، وقف ملك الروم يسألُ فلول جيشه المهزوم، وقف يسألهم والمرارة تعتصر قلبهُ، والغيظ يملأ صدره، والحمق يكاد يُذهِب عقله؛ سألهم: ويلكم! أخبروني عن هؤلاءِ الذين يقاتلونكم؛ أليسوا بشراً مثلكم؟ قالوا: بلى، أيها الملك! قال أفأنتم أكثر أم هم؟ قالوا: بل نحن أكثر منهم في كل موطن؛ قال: فما بالكم إذاً تنهزمون؟ فأجابهُ شيخٌ من عظمائهم: إنهم يهزموننا لأنهم يقومون الليل، ويصومون النهار، ويوفون بالعهد، ويتناصفون بينهم.
صدق -والله- وهو كذُوب، فهذه السجايا العظيمة، وهذه الخصال الكريمة، كانت هي أسباب تلك العزةِ، وذلك المجد التليد؛ كانت هي الأسباب التي صنعت ملحمةَ الجهاد الكبرى، ورسمت أقواس النصرِ الباهرة، وأقامت حضارةَ الإسلامِ العالمية، ومكَّنَت القومَ من رقابِ عدوِّهم، حتى دانت لهم الأرض وأهلُها، وأتتهم الدنيا راغمة.
هذه الخصالُ الرفيعة هي التي انتقلت بأسلافنا تلك النقلة الضخمة، من عتبات اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، إلى منازلِ إياك نعبد و إياك نستعين، حيث الأرواح المتطلِّعة إلى السماء، والنفوس السابحة في العلياء.
ولكن، يا لفرحةً لم تستمر! ويا لبهجة لم تكتمل! فقد تغيرت الحالُ، وهوت الأمةُ من عليائها، لتستقر في غبرائها، وأصبحنا نحن الذين نتساءل اليوم: لماذا نهوي ويرتفع خصومنا؟ والجواب -أيها الأحبة في الله- كيف لا يكون ذلك وقد ضاعت تلك الخصال الرفيعة، والقيم السامية؟.
وليت الأمر توقف عند ذلك، ليت الأمر توقف عند قيام الليل الذي أضعناه، وصيام النهار الذي افتقدناه، إذن لهان الأمر، وما هو بِهَيِّن ورب الكعبة! لكننا أضعنا ما هو أكبر من ذلك بكثير، فالصَّلاة المفروضة، التي هي عماد الدين، وركنه الركين، أصبحَت اليوم محلَّ استخفافِ البعض، واستهزائهم، وتندُّرهم؛ فهي ضائعةٌ مُهمَلةٌ لدى الكثيرين، منسيَّةٌ مؤخَّرةٌ عن وقتها لدى آخرين، تُؤدَّى في غير الجماعة لدى الباقين؛ ما أشدَّ خوفي -والله-! ما أشدَّه من أن يكون بعضنا قد اقترب كثيراً من وعيد الجبَّار: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ، وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ، فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّا) [مريم:59].
وإذا كنا -أحبتي الكرام- جادِّين في محاولة إصلاح الأمةِ، وبعْث عزتها من جديد، فنحن مدعوون اليوم إلى بحث هذا الموضوع الشائك، ومناقشةِ هذه القضية الجلَل، ومعالجة هذه المسألة المهمة، كونها من كبريات القضايا، وأمهات المسائل؛ وكذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
أيها المسلمون: ولوا ستعرضنا أحوال الناس ومواقفهم من الصلاة لوجدناهم أصنافاً وأحزاباً، كلُّ حزب بما لديهم فرحون؛ فأما صنف من الناس فقد غرَّتهم أنفسهم، وغرتهم الحياة الدنيا، وظنوا أنهم إلى ربهم لا يرجعون؛ هؤلاء لا يعرفون للصلاة قيمة ولا وزنا، فلا يصلُّونها بالمرة، أو يصلونها أحياناً، أو عند المناسبات فقط، فهم بحاجة جدّ ماسة إلى تصحيح أصل الإيمان في قلوبهم، هم بحاجة إلى دعوتهم إلى الإسلام، ومحاولة إقناعهم به، كغيرهم من الكفار الخارجين عن دائرة الإسلام وإطاره المحدود.
ومهما كان الحكم قاسياً، فهو حقيقةٌ لا تقبلُ الجدال أو المناقشة، فالذي حكم بكفرهم هو الله ورسوله، فأما الله -جلا جلاله- فيقول: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّين) [التوبة:11]؛ ومفهوم الآية واضحٌ، فهو يعني أنهم إن لم يقيموا الصلاة فليسوا إخوةً لنا في الدين، أي: إنهم مرتدون خارجون عن الإسلام وأهله؛ أفهِمتُم يا من تتركون الصلاة؟ وتحسبونه هيناً، وهو عند الله عظيم.
وفي القرآن الكريم: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِين) [المدثر:42-48]، وما حِرمانهم من الشفاعة إلا دليل واضح على كفرهم وردتهم، وخسارتهم الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين.
أما رسولنا -صلى الله عليه وسلم- فقد أعلنها صريحةً لا تقبلُ التأويل، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "العهدُ الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر".
وينقل عبد الله بن الشّقِيق -رحمه الله- موقف صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- من تارك الصلاة فيقول: "ما كان أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ما كانوا يعدون شيئاً تركه كفر إلا الصلاة"؛ وهذا - كما ترى أخي المسلم- موقف صارم لا رجعة فيه ولا تردد، فترك الصلاة كفرٌ وردة، وسَفَهٌ وجنون.
وللذين لا يعرفون الكفر ومعناه نقول: الكفرُ جحيمٌ لا ينقضي، وعذاب لا ينتهي؛ الكفر بُؤسٌ وعناء، ودماءٌ وأشلاء؛ الكفرُ زفَراتٌ وآهات، دموعٌ وعبَرات، (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيم * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيق) [الحج:19-22]؛ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا، وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا، كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ. أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ؟ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَصِير) [فاطر:36-37].
فاتقوا الله يا من تتركون الصلاة، واعلموا أن هذا مصيركم مادمتم مُصِرِّين على تركها، متهاونين في أدائها؛ ولْيعلم تاركو الصلاة كافَّةً أنهم يرتكبون خطأً قاتلا، وتصرفاً مهلكاً، يتوقف عليه مصيرهم كله، وأنهم -إن لم يتداركوا أنفسهم، ويكفوا عن عنادهم- سيؤولون إلى تلك النهاية البائسة، وذلك الليل المظلم، وذاك العذاب الدائم المخيف؛ ولْيعلم تاركو الصلاة أنهم لو أنفقوا ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تُقُبِّل منهم، ولهم عذاب مقيم.
إننا ندعو هؤلاءِ بكل شفقةٍ وإخلاص، ندعوهم والألم يعتصر قلوبَنَا خوفاً عليهم، ورأفة بهم، ندعوهم إلى إعادة النظر في واقعهم، ومُجريات حياتهم، ندعوهم إلى مراجعة أنفسهم، وتأمل أوضاعهم، قبل فوات الأوان؛ إننا ننصحهم بأن لا تخدعهم المظاهر، ولا يغرهم ما هم فيه من الصحة والعافية، والشباب والقوة، فما هي إلا سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً، أو برق خُلَّب سرعان ما سيتلاشى وينطفئ ويزول؛ فالصحة سيعقبها السقم، والشباب يلاحقه الهرم، والقوة آيلة إلى الضعف، ولكن أكثر الناس لا يتفكرون.
وليتذكر تاركو الصلاة أنهم صائرون إلى قبورٍ موحشة، وحُفَرٍ مظلمة، وأنه لا ينفع ساعتها مالٌ ولا بنون، ولا صديقٌ ولا صاحب.
أيها المسلمون: وهناك صنف آخر من الناس يؤخرون الصلاة عن وقتها، فهم يؤدونها حسب أهوائهم، وتبعاً لأمزجتهم، ووفقاً لظروفهم؛ فإذا كانوا نائمين أدَّوها عند الاستيقاظ، وإذا كانوا مشغولين أدَّوها عند الفراغ، فالصلاة أمر ثانويٌّ في حياتهم، وشيء ساذج في أذهانهم؛ وما درى هؤلاء الواهمون أنهم المعنيون بقوله تعالى: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ) [الماعون:4-5].
قال مسروق -رحمه الله-: "أي لا يفعلون الصلاة في وقتها المشروع"؛ وعند البخاري، عن الزهري، قال: "دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي، فقلتُ: ما يُبكي؟ فقال: لا أعرف شيئاً مما أدركتُ إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضُيِّعت"، يعني أُخرت عن وقتها؛ فتأمل -رعاك الله- مشهد صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعيناه تذرفان ألماً وحسرة!.
أين المؤخرون اليوم للصلاة عن تلك القمم السابقة، والقدوات النادرة؟ بل أين هم عن غيرة عمرَ يوم الخندق، يوم جاء مغضبا حزينا مهموما مغموما، يسب المشركين، ويقول: يا رسول الله! ما كدتُ أصلي العصر حتى غربت الشمس! أين هؤلاء من غيرة عمر هذه؟ أما يسأل الواحد منهم نفسه عن الذي أهمَّه؟ وما الذي أغمَّه؟.
ما الذي ضيَّق صدر الفاروق، وكدَّرَ خاطره، وأحزن قلبه؟ ما الذي جعله يؤخر الصلاة عن وقتها؟ أهو مشغول بسقي حديقة منـزله؟ أم لأنه مشغول بإصلاح عطل في سيارته؟ أم لأنه مشغولٌ محرج بضيفٍ ثقيلٍ يتناول الشاي في مجلسه؟.
الجوابُ أنْ حاشا لله أن تحُول أمور تافهة كهذه بين الفاروق وبين أدائه الصلاة في وقتها المعتاد المشروع، ولكن شُغله الذي شغله هو الجهاد في سبيل الله، والدفاع عن مدينة رسول الله، ومع ذلك فهو مغضب محزون، مهموم مغموم، فقد كان حب الصلاة وحرصه عليها يجري في دمه، وينبض مع عروقه؛ أليس هو الذي يُطعن بخنجر أبي لؤلؤة المسموم فيُحمل إلى بيته بين الحياة والموت، فيقولون: يا أمير المؤمنين! الصلاة الصلاة؛ فيقول: نعم، الصلاة؛ إذ لاحظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة. فبالرغم من شدة الكرب، وهول الفاجعة، لم ينسها المسلمون، ولم ينسها عمر.
لقد كانوا يقدّرون الصلاة حَقَّ قدرها، ويرعَونها حق رعايتها، ويؤدونها في أوقاتها، مهما ادْلَهَمَّ الخطب، وتأزَّمت المواقف؛ ولماذا لا يؤدونها في أوقاتها وصوت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجلجل في آذانهم، ويصول في قلوبهم، وهو يقول -كما عند البخاري من حديث بريدة-: "من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله".
فرحماك يا إلهي! من ترك صلاةً واحدةً حبط عمله، فكيف بمن يؤخر صلاتين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة؟ فاتقوا الله يا من تؤخرون الصلاة عن وقتها، وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم! فاستيقظوا من سباتكم يا هؤلاء، وأفيقوا من أحلامكم، وأعتِقوا رقابكم من غضب الله وناره، وجحيمه ونكاله.
وأما النائمون عن صلاة الفجر والعصر خاصة، فعند البخاري وأحمد، من حديث سمرة، قال -عليه الصلاة والسلام- في حديث الرؤيا الطويل: "أتاني الليلة آتيان، وإنهما ابتعثاني، وإنهما قالا لي انطلق، فانطلقت معهما، وإنَّا أتينا على رجلٍ مضطجعٍ، وإذا آخرُ قائمٌ عليه بصخرة، وإذا هو يهوي بالصخرة على رأسه، فيثلغ رأسه، ثم يتبع الحجر فيأخذه، فلا يرجع إليه حتى يصح رأسه كما كان، ثم يعود إليه فيفعل به مثل ما فعل به في المرة الأولى.. وفي آخر الحديث: أُوّلَ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا الذي يُضرب رأسه بالصخرة، فقيل هو الرجل يأخذ القرآن فيرفضه، وينام عن الصلاة المكتوبة".
أرأيت؟! أرأيت يا من تنام عن صلاة الفجر، ويا من تنام عن العصر، أرأيت ما ينتظرك من العذاب وأنت غافلٌ لاهٍ، لا تدري ماذا يراد بك، وماذا يُهيَّأ لك؟ فاتَّق الله، وألْقِ عن نفسك الكسل والخمول، فالمسألةُ ليست أحاديثَ صبيان، ولا ألاعيب مراهقين، ولكنها جِدٌّ وربّ الكعبة! وإنّ غداً لـناظره قريب.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وأيَّا كم بالذكرِ الحكيم، وأستغفر الله لي ولكم، إنَّهُ هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله يُعطي ويمنع، ويخفضُ ويرفع، ويضرُ وينفع، ألا إلى اللهِ تصيرُ الأمور.
وأُصلِّي وأسلِّمُ على الرحمةِ المهداة، والنعمةِ المُسداة، وعلى آلهِ وأصحابه والتابعين.
أما بعدُ أيُّها الناس: فأما الصنف الثالث من الناس فهم أقوامٌ حريصون كل الحرص على أداء الصلاة في أوقاتها، بكل حماسٍ وإصرارٍ، لكن حماسهم يخبُو، وإصرارهم يضعف عن أداء الصلاة مع جماعة المسلمين في المساجد، فإبراءً لذمتنا، وإخلاءً لعُهدتنا أمام الله، نسوق إليهم هذه الأدلة الثابتة، والحجج الراسخة، التي تؤكدُ وجوب صلاة الجماعة في المساجد، وتؤكد أن من يظن غير هذا فهو يعيش وهماً كبيراً، ويرتكب خطأً فادحاً.
وفي مقدم تلك الأدلة، وأبلغها أثَراً، ما أوجبه الله تعالى على المجاهدين وهم يخوضون غمار المعركة في أحلك ساعاتِ النـِّزال، ما أوجبه الله عليهم من لزوم الجماعة، فهو القائل -جلَّ وعلا-: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ، فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ، وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ، وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُم) [النساء:102].
أرأيتَ، أيُّها المباركُ! أرأيتَ كيف فرض الله الجماعة في أحلك الظروف، وأحرج المواقف؟ طائفة تصلي وأخرى تحرس، ثم تتغير المواقع، فالتي كانت في الصلاة تنتقل للحراسة، والتي كانت في الحراسة تنتظم في الصلاة جماعة، كل ذلك والعدو متربص متحفز قد أقبل بخيله ورَجِله، وقَضِّه وقضيضه.
تأمل -أيها الأخ الكريم- بعين الإنصاف والتجرد، كيف أوجب الله الجماعة في تلك الظروف العصيبة، حيث تخضبت السيوف بدمائها، وتطايرت الرؤوس عن أعناقها؛ فكيف يكون الحال إذاً للآمنين في بيوتهم، المطمئنين بين أهليهم وذراريهم؟ ندَع الإجابة لك أيها اللبيب، ولا نحسبك إلا منصفاً تقول الحق، ولو على نفسك.
وفي الحديث المتفق على صحته يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "لقد همَمْتُ أن آمر بالصلاة فتُقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم أنطلق برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة -يعني لا يشهدون الجماعة- فأحرق عليهم بيوتهم في النار".
يا سبحان الله! رسول الله الذي وصفه ربه بأنه بالمؤمنين رؤوف رحيمٌ يهمّ بإحراق البيوت على أهلها حين تخلفوا عن الجماعة، فأي شيء يدل عليه ذلك؟ إلاّ على كونها واجبة متعينة في المسجد، وأن أدائها في البيوت ذنب عظيم، وجرم خطير، وخطأ فادح، بكل المقاييس.
كيف لا؟ وقد جاء في حديثِ ابنِ عبَّاسٍ -رضي الله عنهما- مرفوعاً: "من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة له، إلا مِن عذْر" رواه أبو داود وابن حبان؛ "قالوا يا رسول الله! وما العذر؟ قال: خوف أو مرض".
إذاً، فليس من العذر في ترك الجماعة حبُّ الراحة والاسترخاء، أو مطالعة الصحف والمجلات، أو استقبال الضيوف أو توديعهم؛ بل ليس من العذر في ترك الجماعةِ قراءةُ القرآن، أو الطواف بالبيت الحرام!.
وأي عذر لهؤلاء؟ وقد جاء الأعمى إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يشكو بُعد داره، ووعورة طريقه، وفقدانه لقائد يقوده، ويسأل رخصة أن يصلي في بيته، فيقول له الرؤوف الرحيم: "أتسمع النداء؟" قال: نعم، قال: "أجب؛ فإني لا أجد لك رخصة!".
أفتكون الرخصة إذاً لذوي السمع الرهيف، والبصر الحاد؟ أفتكون الرخصة لمن أحاطت بهم المساجد من كل جانب، وذُلِّلت لهم الطرق، وعُبِّدَت لهم الشوارع؟ سبحانك! هذا بهتان عظيم.
فاتقوا الله أيها الزاهدون في الجماعة، وتذَكَّروا أحوال أسلافكم، وكيف كانوا شديدي الاهتمام بها، عظيمي الخوف عليها؛ تذكروا موقف الخليفة الشهيد، عثمان -رضي الله عنه- وقد حاصره السبئيون في المدينة يطلبون دمه، ويمنعونه من إمامة الناس؛ فلا يمنعه حصارهم إياه، وظلمهم له، وخروجهم عليه، لا يمنعه من الصلاة خلفهم، حرصاً على الجماعة، وإبراءً للذمة! فعند البخاري، من حديث عبيد الله بن عدي، أنه دخل على عثمان وهو محصور، فقال لـه: يا إمام! إنك إمام عامة، ونزل بك ما نرى، ويصلي لنا إمام فتنة ونتحرج؛ فقال -رضي الله عنه-: "الصلاة أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسن الناس فأَحْسِن معهم، وإذا أساءُوا فاجتنب إساءتهم".
أيها المسلمون: لقد آن الأوان أن نعيد النظر في أوضاعنا، ونصحِّح مفاهيمنا وأخطاءنا، ونقّوم سلوكنا وتصرفاتنا، فنحن أمةٌ خُلقت لتكون قائدة، ووجدت لتكون رائدة، والقيادة والريادة لا تحصلان لأمة ما زالت تتناقش في أعظم شعائر دينها، هل هي واجبة في الجماعة أم لا؟ وهي مسألة محسومة منذ زمن طويل، محسومة في كتاب الله، وسنة نبيه، بكل إشراقةٍ ووضوح.
ألا إنها دعوةٌ إلى عمارة بيوت الله بالذكر، والتسبيح، وصلاة الجماعة؛ ألا إنها دعوةٌ إلى الجنة، فوق مراكبَ من التُّقى، والعمل الصالح، والتوبة النصوح؛ والله غالبٌ على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
اللهمَّ إنَّا نسألُك إيماناً يُباشرُ قلوبنا، ويقيناً صادقاً، وتوبةً قبلَ الموتِ، وراحةً بعد الموتِ، ونسألُكَ لذَّةَ النظرِ إلى وجهكَ الكريمِ، والشوق إلى لقائِكَ، في غيِر ضراءَ مُضرة، ولا فتنة مضلة؛ اللهمَّ زيِّنَّا بزينةِ الإيمانِ، واجعلنا هُداةً مهتدين، لا ضالِّين ولا مُضلين، بالمعروف آمرين، وعن المنكر ناهين، يا ربَّ العالمين.
ألا وصَلُّوا وسلِّموا على من أُمرتم بالصلاة عليه، إمام المتقين، وقائد الغرِّ المحجلين، وعلى آلهِ وصحابته أجمعين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم