عناصر الخطبة
1/ تعظيم أهل الجاهلية لشهر رجب 2/ بدع مستحدثة في رجب 3/ بيان العلماء لبطلان هذه البدع 4/ فضل شهر رجب 5/ خطورة البدع وآثارهااقتباس
وقد كان أهل الجاهلية يبالغون في تعظيمه؛ ولذلك سموه بأسماء كثيرة؛ فكثرة الأسماء تدل على عِظم المسمّى، وقد نقل بن حجر عن ابن دحية ثمانية عشر اسماً له، وكانوا يعطلون أسلحتهم فيه تعظيماً له، فعن أَبَي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيَّ -رضي الله عنه- قال: كُنَّا نَعْبُدُ الْحَجَرَ، فَإِذَا وَجَدْنَا حَجَرًا هُوَ أَخْيَرُ مِنْهُ أَلْقَيْنَاهُ وَأَخَذْنَا الْآخَرَ؛ فَإِذَا لَمْ نَجِدْ حَجَرًا جَمَعْنَا جُثْوَةً مِنْ تُرَابٍ ..
إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
أيها الإخوة: شهر رجب شهر حرام، وقد قال الله تعالى عن الأشهر الحُرُمِ في محكم التنزيل: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) [التوبة:36].
قال الشيخ السعدي: (مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) هي: رجب الفرد، وذو القَعْدة، وذو الحِجَّة، والمحرم، وسميت حُرُماً لزيادة حرمتها، وتحريم القتال فيها... قوله (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)، يحتمل أن الضمير يعود إلى الأربعة الحرم، وأن هذا نهي لهم عن الظلم فيها، خصوصا مع النهي عن الظلم في كل وقت، لزيادة تحريمها، وكون الظلم فيها أشد منه في غيرها. اهـ.
أيها الإخوة: سُمي شهر رجب بهذا الاسم؛ لأنه كان يُرَجَّبُ في الجاهلية، أي: يُعظم. كما قال ابن حجر رحمه الله. ورَجَّبْتُه: عَظَّمْتُه.
وقد كان أهل الجاهلية يبالغون في تعظيمه؛ ولذلك سموه بأسماء كثيرة؛ فكثرة الأسماء تدل على عِظم المسمّى، وقد نقل بن حجر عن ابن دحية ثمانية عشر اسماً له، وكانوا يعطلون أسلحتهم فيه تعظيماً له، فعن أَبَي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيَّ -رضي الله عنه- قال: كُنَّا نَعْبُدُ الْحَجَرَ، فَإِذَا وَجَدْنَا حَجَرًا هُوَ أَخْيَرُ مِنْهُ أَلْقَيْنَاهُ وَأَخَذْنَا الْآخَرَ؛ فَإِذَا لَمْ نَجِدْ حَجَرًا جَمَعْنَا جُثْوَةً مِنْ تُرَابٍ (جثوة: شيء من التراب يجمع حتى يصير كوما) ثُمَّ جِئْنَا بِالشَّاةِ فَحَلَبْنَاهُ عَلَيْهِ ثُمَّ طُفْنَا بِهِ، فَإِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَجَبٍ قُلْنَا مُنَصِّلُ الْأَسِنَّةِ (منصل الأسنة أي: منزع الحديد من السلاح، والأسنة جمع سنان وهو نصل الرمح) فَلَا نَدَعُ رُمْحًا فِيهِ حَدِيدَةٌ وَلَا سَهْمًا فِيهِ حَدِيدَةٌ إِلَّا نَزَعْنَاهُ وَأَلْقَيْنَاهُ شَهْرَ رَجَبٍ. رواه البخاري.
أحبتي: هذه حال أهل الجاهلية، ثم جاء الإسلام ولم يخص رجب بعبادة دون غيره من الشهور، لكن ذهب بعض الناس في هذا الزمان بتخصيص رجب ببعض العبادات والاجتهاد فيها، بل والدعوة إليها، وما فعلوا هذا إلا تقليداً؛ فهي أمور توارثوها عن الآباء والأجداد، وليس عليها أثارة من علم، أو فعلوا هذه العبادات اعتماداً على أحاديثَ موضوعةٍ أو ضعيفةٍ، ذكرها العلماء في مصنفاتهم التي خصصوها لكشف الأحاديث الموضوعة.
ومن الجدير بنا أن نتحدث عن بعض ما نسمعه من فضائل يستدل عليها من قال بها بروايات تنسب للنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فهل هذه الروايات ثابتة؟ والجواب على ذلك نقول: ليس لشهر رجب ميزة عن غيره من الأشهر الحرم، ولم يثبت في فضل العبادة فيه شيء، فلا يخص بصلوات ولا بصوم ولا بإخراج الزكاة فيه دون غيره من الشهور، ولا بعمرة خاصة، ولا غير ذلك، والفصل بذلك لأهل العلم.
قال ابن الصلاح -رحمه الله تعالى- مبيناً الحكم في ذلك: لم يثبت في صومِ رجب نهي ولا ندب، وأصلُ الصوم مندوب في رجب وغيره.
وقال النووي -رحمه الله تعالى-: لم يثبت في صوم رجب ندبٌ ولا نهيٌ بعينه، ولكن أصل الصوم مندوب.
وقال ابن رجب -رحمه الله تعالى-: لم يصح في فضل صوم رجب بخصوصه شيء عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا عن أصحابه -رضوان الله عليهم-.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- فيمن اعتقد فضلَ صيامِ رجب: وهذا الاعتقاد خطأ وضلال، ومن صامه على هذا الاعتقادِ الفاسد كان عاصيا؛ فيعزر على ذلك.
وقال -في موضع آخر-: ومن صام رجب معتقداً أنه أفضلُ من غيره من الأشهر أثم وعزر. وقال عن الأحاديث المروية في فضل صوم رجب بخصوصه: أحاديثه كلُها ضعيفة؛ بل موضوعة، لا يعتمد أهل العلم على شيء منها، وليست من الضعيف الذي يروى في الفضائل؛ بل عامتها من الموضوعات المكذوبات.
وقال: في تخصيص رجب وشعبان جميعا بالصوم أو الاعتكاف: لم يرد فيه عن النبى -صلى الله عليه وسلم- شيء ولا عن أصحابه ولا أئمة المسلمين.
وقال -رحمه الله-: صح عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه كان يضرب أيديَ الناسِ ليضعوا أيديهم فى الطعام فى رجب ويقول: لا تشبهوه برمضان، ودخل أبو بكر -رضي الله عنه- فرأى أهله قد اشتروا كيزانا للماء واستعدوا للصوم في رجب فقال: ما هذا؟ فقالوا: رجب! فقال: أتريدون ان تشبهوه برمضان؟ وكسر تلك الكيزان.
أيها الإخوة: ومما أحدثه بعض الناس في رجب حرصهم على أداء صلوات لا أصل لها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، مثل صلاة الرغائب، التي قال عنها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: صَلَاة الرَّغَائِبِ فِي أَوَّلِ جُمُعَةٍ مِنْ رَجَبٍ، وَالْأَلْفِيَّةِ فِي أَوَّلِ رَجَبٍ وَنِصْفِ شَعْبَانَ وَلَيْلَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَجَبٍ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ، فَهَذَا غَيْرُ مَشْرُوعٍ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ الْمُعْتَبَرُونَ، وَلَا يُنْشِئُ مِثْلَ هَذَا إلَّا جَاهِلٌ مُبْتَدِعٌ.
وَفَتْحُ مِثْلِ هَذَا الْبَابِ يُوجِبُ تَغْيِيرَ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، وَأَخْذِ نَصِيبٍ مِنْ حَالِ الَّذِينَ شَرَعُوا مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وقال -رحمه الله-: وأما إتخاذ موسم غير المواسم الشرعية كبعض ليالي شهر ربيع الأول التى يقال إنها ليلة المولد، أو بعض ليالي رجب، أو أول جمعة من رجب، أو ثامن شوال الذي يسميه الجهال عيد الأبرار، فإنها من البدع التى لم يستحبها السلف، ولم يفعلوها، والله سبحانه وتعالى أعلم.
أيها الإخوة: أما تـخـصـيـص رجـب بـإخـراج الـزكــاة، فقد اعتاد أهل بعض البلدان تخصيص رجب بإخراج الزكاة، وقد فَصَلَ في ذلك ابنُ رجب -رحمه الله- كما في لطائف المعارف فقال بأنه لا أصل لذلك في السنة، ولا عُرِف عن أحد من السلف، وبكل حال؛ فإنما تجب الزكاة إذا تم الحول على النصاب، فكل أحد له حول يخصه بحسب وقت ملكه للنصاب، فإذا تم حول وجب عليه إخراج زكاته في أي شهر كان.
ثم ذكر -رحمه الله- جواز تعجيل إخراج الزكاة لاغتنام زمان فاضل كرمضان، أو لاغتنام الصدقة على من لا يوجد مثله في الحاجة عند تمام الحول، ونحو ذلك.
وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: وأما إخراج الزكاة في هذا الشهر وأن في ذلك فضلاً فهذا يحتاج إلى دليل.اهـ.
وقال أهل العلم: وكذلك الصدقة مشروعة في كل وقت، واعتقاد فضيلتها في رجب بذاته دون غيره اعتقاد خاطِئ.
أيها الأحبة: ومما أحدثه بعض الناس في رجب حرصهم على أداء العمرة فيه، وهي التي يسميها بعض الناس (العمرة الرجبية) ويعتقدون فضلَها على غيرها من الشهور، وهذا لا أصل له، ففي الصحيح عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: ما اعتمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رجب قط. فعائشة أنكرت كونه اعتمر في رجب.
أيها الإخوة: قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: والأحاديث المروية في فضل رجَبٍ بخصوصه، أو فضل صيامه، أو صيام شيء منه، أو فضل صلاة مخصوصة فيه كالرغائب، كلها كَذِبٌ مُخْتَلَقٌ.
وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- في رسالة تبيين العجب بما ورد في شهر رجب: لم يرد في فضل شهر رجب، ولا في صيامه، ولا في صيام شيء منه، معين، ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه حديث صحيح يصلح للحجة، وقد سبقني إلى الجزم بذلك الإمام أبو إسماعيل الهروي الحافظ، رويناه عنه بإسناد صحيح، وكذلك رويناه عن غيره.
ولكن اشتهر أن أهل العلم يتسامحون في إيراد الأحاديث في الفضائل وإن كان فيها ضعف، ما لم تكن موضوعة، وينبغي مع ذلك اشتراط أن يعتقد العامل كون ذلك الحديث ضعيفا، وأن لا يشهر بذلك، لئلا يعمل المرء بحديث ضعيف، فيشرع ما ليس بشرع، أو يراه بعض الجهال فيظن أنه سنة صحيحة. اهـ.
وقال: قد صرح بمعنى ذلك الأستاذ أبو محمد بن عبد السلام وغيره، وليحذر المرء من دخوله تحت قوله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ حَدَّثَ عَنِّى بِحَدِيثٍ يُرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ" رواه مسلم عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ. فكيف بمن عمل به؟! ولا فرق في العمل بالحديث في الأحكام، أو في الفضائل، إذ الكل شرع. اهـ.
وقال شيخنا ابن عثيمين -رحمه الله-: ليس لشهر رجب ميزة عن سواه من الأشهر الحرم، ولا يخص بعمرة ولا بصيام ولا بصلاة ولا بقراءة قرآن؛ بل هو كغيره من الأشهر الحرم، وكل الأحاديث الواردة في فضله يعني في الصلاة فيه أو الصوم فيه فإنها ضعيفة لا يبنى عليها حكم شرعي .اهـ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الكَافِرِينَ) [آل عمران:31-32].
نفعني الله وإياكم بهدي القرآن العظيم، وجنبنا طريق البدع الذميم، وصلى الله على نبينا وسلم أفضل صلاة وتسليم.
الخطبة الثانية:
وبعد أيها الأحبة: وبهذا يتبين ضلال من ضل في هذا الباب حتى ميّزوا رجباً عن غيره من الشهور، وخصوا ليلة الإسراء المكذوبة باحتفالات وأذكار بدعية، وصلوات على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- متكلفة ومسجوعة، بعضها شرك، وبعضها غلو، وسائرُها بدعة وضلال، وكل ذلك تعبير كاذب عن محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ إذ محبته في اتباع أمره، واجتناب نهيه، والوقوف عند سنته.
أيها الإخوة: من هنا يتبين للمسلم بأن رجب ليس له عبادات مخصوصة فيه، لكن لا يعني ذلك أن نقلل من شأنه، فهو من الأشهر الحُرم، والتي قال عنها ابن عباس -رضي الله عنهما-: اختص الله من العام أربعة أشهر فجعلهن حُرما، وعَظم حُرُماتهن، وجعل الذنب فيهن أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم... وهذا يدعونا للاجتهاد في هذا الشهر، لكن نجتهد بالمشروع، ونزيد من الطاعات دون الاجتهاد في ما لم يأذن به الشرع.
أيها الأحبة: إن علينا أن نتبع ولا نبتدع، فمن شؤم البدعة والإحداث في الدين أن من فعل ذلك عمله مردود عليه، فقد أخرج البخاري ومسلم عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رد".
ويكتب الله عليه الذلة والصغار: فقد أخرج الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه-ما عن النبي قال: "بعثت بالسيف بين يدي الساعة وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على مَن خالف أمري".
ومنها الحرمان من أن يشرب من يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- شربة لا يظمأ بعدها أبداً؛ فقد أخرج البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله : "أنا فرطكم على الحوض، وليختلجن رجال دوني فأقول: يا رب أصحابي! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعد ذلك".
ولعل قائل يقول: إن ما نفعله في رجب هو خير، فإننا نصلى ونصوم، ونذبح، ونتصدق، وغير ذلك من أفعال البر، وكلها لله؛ فالجواب على هذا: إن عمل الخير والاجتهاد فيه بلا دليل شرعي مردود على صاحبه، بل يعاقب عليه.
وصلوا وسلموا على نبيكم...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم