عناصر الخطبة
1/تأملات في قوله تعالى (وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا) 2/دقة الحساب يوم القيامة 3/الحث على التوبة والتعجيل بها 4/مما يوقظ القلب من غفلته.اقتباس
جحد نعمة الله، واتخذ آياتهِ هُزوا, وسخِر بالمواعظ، وكذّب البراهين، وألحد وغلا، وطغى، يتمنى لو كان حيوانا ينتهي مصيره إلى تلك الحالة, ويود لو كان بهيمةً لم تعِ ولم تفهم، واستُهلكت خدمة وشقاءً وسُخرة؛ حتى لا يرى عذابا، ولا يستطعم شقاءً وويلات؛ (وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا)...
الخطبة الأولى:
الحمد لله لم يخلقِ الخَلق سُدى، وجعل لهم منهجا وهدى، ودعاهم إلى المكارم والتقى، نحمده ونشكره ومن كل ذنب نستغفره، وعد عباده بالدرجات العلى، وحذرهم نارا تلظى، لا يصلاها إلا الأشقى, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه أولي الأيادي والنهى.
أما بعد: فاتقوا الله -يا مسلمون- والزموا صراطه المستقيم، وكونوا على منهاجه القويم؛ تَطِب حياتُكم، وتَدِر أرزاقكم (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)[الطلاق: 2، 3].
إخوة الإيمان: آية ترددونها في (جزء عم)، أسهل الأجزاء وأكثرها حفظا وعناية؛ (وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا)[النبأ: 40]، قلَّ من تدبرها، أو تفكر في نهايتها! رجاءٌ عجيب، وتمنٍ غريب، ونهاية حزينة، وكلمات مشفقة, من رجل كفر بالله، وسخر من الحساب، وتهكم بالأحاديث!.
عجبا له! إنسان تلذذ بالدنيا، واستمتع بشهواتها ولربما طغى في الأرض، واستكبر فيها، وأعتقد أنه يملك كل شيء, وفُجأة يَبغتُه الموت! ولم تكتمل الفرحة، ولم تدُم المتعة؛ فيوفّيه الله حسابه يوم القيامة، وتحضر محكمة العدل الأخروي، فيشاهد اليوم العَبوسَ القَمطرير، الذي هابه أهل الإيمان؛ (إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا)[الإنسان: 10].
فيرى القِصاص واجتماع الخلائق؛ حتى يُقاد للشاة الجمّاء من الشاة القرناء، ثم يفنيها المولى -تعالى- ويقال لها: "كوني ترابا", فيتمنى ذلك المقصّر الخاسر وذلك المسرف المعاند، الذي جحد نعمة الله، واتخذ آياتهِ هُزوا, وسخِر بالمواعظ، وكذّب البراهين، وألحد وغلا، وطغى، يتمنى لو كان حيوانا ينتهي مصيره إلى تلك الحالة, ويود لو كان بهيمةً لم تعِ ولم تفهم، واستُهلكت خدمة وشقاءً وسُخرة؛ حتى لا يرى عذابا، ولا يستطعم شقاءً وويلات؛ (وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا)[النبأ: 40].
ناداكَ ربُّك لم تُصغِ له بالا *** وزدتَ فيها تهاويلاً وتَغفالا
وكنتَ كالسبع في الدنيا تجمِّعها *** فما اتعظتَ ولا أبديتَ إجلالا
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو -رضي الله عنهما-: "إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ مُدَّتِ الْأَرْضُ مَدَّ الْأَدِيمِ، وَحُشِرَتِ الدَّوَابُّ وَالْبَهَائِمُ وَالْوُحُوشُ، ثُمَّ يُجْعَلُ الْقِصَاصُ بَيْنَ الْبَهَائِمِ؛ حَتَّى يُقْتَصَّ لِلشَّاةِ الْجَمَّاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ تَنْطَحُهَا، فَإِذَا فَرَغَ مِنَ الْقِصَاصِ قِيلَ لَهَا: كُونِي تُرَابًا، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ الْكَافِرُ: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا", وَمِثْلُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ.
فالآن بانت له الحقائق، وانكشفت عنه الحُجب، وعاين الآيات، وبطل السحر والتكذيب, وأيقن أن لا إله إلا الله، وأن الجنةَ حق، والنارَ حق، ومحمدا حق, والنبيين حق, ولكن هيهات هيهات! استيقظ في اللحظات الفائتة، وانتبه حيث لا ينفع انتباه، وود لو افتدى كل ذلك، بملء الأرض ذهبا؛ حتى يسلَم العقوبة، وينجو من المصير القادم المخزي، والله المستعان؛ (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ)[السجدة: 12], (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ)[النبأ: 40], كل ذلك مدوّن مرصود، (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ)[النساء: 40].
حسناتٌ مرصوده, وسيئات مكتوبة، وأفعال مثبتةٌ معروفة، (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ)[الانفطار: 10، 11]؛ لا تخفى على المولى لا خافية، يعلم السر وأخفى، وتقامُ الشهود، ويحضر الجنود، (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا)[الزلزلة: 4]؛ وقد جاء في سنن الترمذي -رحمه الله- أنه -صلى الله عليه وسلم- تلا هذه الآية فقال:" أتدرون ما أخبارها؟" قالوا: الله ورسوله أعلم! قال: "فإن أخبارها أن تشهدَ على كل عبد أو أَمَة بما عمل على ظهرها، تقول: عملتَ كذا وكذا في يوم كذا وكذا، فهذه أخبارها", لا حول ولا قوة إلا بالله! اللهم أعنا على أنفسنا، وقنا شرورها و جحودها.
(يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا)[النبأ: 40]؛ استحضروا الموقف، وتأملوا لحظاته وعيشوا ساعات المعاد، وأن لهذه الدنيا من الله طالبا، وسنصير جميعا إلى الموعد المرقوب، واليوم المشهود، (يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ)[هود: 105].
اللهم أنِرْ قلوبنا، وردَّنا إليك ردا جميلا, إنك على كل شيء قدير, أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه غفور رحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, أما بعد:
أيها الإخوة الفضلاء: حتى ننجو من ذلك المصير البائس، وتلك الساعة العصيبة، والموقف القاهر الكئيب، لابد من مراجعة أنفسنا، وتقريعها بقوارع التوبة والاستغفار؛ (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[النور: 31], توبوا إلى الله، وتذكروا نعمه، واعتبروا بمصارع الناس، وتذكروا اللحظة البئيسة.
(وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا)[النبأ: 40]؛ إنه يوم المعاد والتلاقي، والغبن وسيلان المآقي، (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا)[آل عمران: 30].
فهنيئا لمن اعتبر واتعظ، وسارع وبكّر, (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ)[آل عمران: 133], ويا خسارةَ من لها وفرط، وانشغل بدنياه، وانكب على مصالحه، ولَم يعتبر بسياط المواعظ، ولا زواجر الآيات!.
وإن مما يوقظ القلوب، وينبه البصائر، تذكر اليوم الآخر، وعودة الناس إلى ربهم، ورؤيتهم يذهبون ولا يرجعون، الطامة الكبرى، والصاخة العظمى, وهو النبأ العظيم الذي استُهلت به السورة؛ (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ)[النبأ: 1، 2], ثم خُتمت بمقولة الجاحد المنكر، والذي استهزأ دهرا، وسخر مُددا، وعاش للدنيا طمعا وفخراً, وظن أنه مخلد باق! (وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا)[النبأ: 40].
تذكّروا لحظةَ المعاد، ولحظة الموت، ولحظة الحساب, وأننا صائرون إلى الله، إنْ خيرا فخير، وإن شرا فشر, وإياكم والغفَلات، ومجالسَ الذين لا يخشون ربهم، ولا يعظّمون شرائع خالقهم, ولْنسارع جميعا بالتوبة؛ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا)[التحريم: 8].
أما تكفينا المتع والغفلات؟! وهلا اتعظنا بالذاهبين المودعين من الحياة, ولنا في المرضى والموتى والهلكى عبر وعظة؟!.
جدّد التوبة، والهج بالاستغفار، وتسلح بالإنابة والابتهال, وإياك والتسويف والتأجيل؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ! تُوبُوا إِلَى اللَّهِ، فَإِنِّي أَتُوبُ فِي الْيَوْمِ إِلَيْهِ مِائَةَ مَرَّةٍ", وقال لقمانُ -رحمهُ الله تعالى- لابنه ناصحا واعظا: "لَا تُؤَخِّرِ التَّوْبَةَ؛ فَإِنَّ المَوْتَ يَأْتِي بَغْتَةً، وَمَنْ تَرَكَ المُبَادَرَةَ إِلَى التَّوْبَةِ بِالتَّسْوِيْفِ كَانَ بَيْنَ خَطَرَيْنِ عَظِيْمَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ تَتَرَاكَمَ الظُّلْمَةُ عَلَى قَلْبِهِ مِنَ المَعَاصِي؛ حَتَّى يَصِيْرَ رَيْناً وَطَبْعَاً، فَلَا يَقْبَلَ المَحْوَ، وَالثَّانِي: أَنْ يُعَاجِلَهُ المَرَضُ أَوِ المَوْتُ؛ فَلَا يَجِدَ مُهْلَةً, لِلاشْتِغَالِ بِالمحْوِ", وقال علي -رضي الله عنه-: "العَجبُ ممن يهلِك ومعه النجاة", قيل: وما هي؟ قال: "الاستغفار".
فجدّدوا توباتِكم -يا مسلمون- إنه كان توابا، واستغفروه إنه كان غفارا، وحاسبوا أنفسكم، وخذوها بالموعظة والقرآن، وبالصحبة الطيبة والإحسان.
وصلوا وسلموا على خير الأنام، وسيد الأقوام, من علمنا التوبة والاستغفار, وذكرنا بالقيامة والقرار.
التعليقات