عناصر الخطبة
1/ اسم الله القادر في الكتاب والسنة 2/معاني اسم الله القادر والمقتدر والقدير 3/كمال قدرة الله وعظمته 4/ من مظاهر قدرة الله تعالى 5/التعبد لله باسمه القادر 6/آثار الإيمان باسم الله القادر.اقتباس
والقادر -تبارك وتعالى- هو الذي له القدرة المطلقة، وله القوة التامة الكاملة، الذي لا يُعجزه شيء، ولا يفوته مطلوب، القادر على ما يشاء، الفعّال لما يريد، لا يعترضه عجزٌ، ولا ينتابه فتور، ولا يعتريه جهل ولا نسيان، أوجد الكائنات بقدرته، وخلق المخلوقات بقوته، وبقدرته دبرّها وسوّاها وأحكمها، وبقدرته أحياها وأماتها...
الخطبة الأولى:
الحمد لله القوي القادر، العزيز الحكيم، أسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، سبحانه هو الخالق القادر، وهو العليم الخبير، خلق فأبدع، وقدر فهدى، بيده ملكوت السماوات والأرض، أنزل من السماء ماء فأحيى به الأرض بعد موتها، وإليه النشور، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، بيده الملك، وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن نبينا محمدًا عبدُه ورسوله، رسول الهداية ونبي الرحمة، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- وتوبوا إليه، واخشوا ربكم، ولا تخشوا أحدًا سواه، ولا تتعلقوا في أموركم كلها بغير الله، فإنه المالك القادر الذي بيده الحياة والإماتة، وأمور الأرزاق، وبيده كل شيء -سبحانه وتعالى-.
يا عباد الله: إن من يطالع سائر المخلوقات من حوله؛ دقيقها وجليلها، ويتدبر فيها، سواء ما نبصره منها وما لا نبصره مما لا يعلمه إلا الله، لا يمكن لأحد أن يعدها أو يحصيها أو يحيط بها، يجدها كلها -في خلقها وعددها، وأحجامها، ووظائفها- دالة على كمال قدرة الله -عزَّ وجلَّ-، وصدق الملك الحق: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الزمر: 67].
أيها المسلمون: إن القلب المنوَّر بالإيمان، العامر بذكر ربه، يكاد يبصر قدرة الله تُحرِّك الأفلاك، وتُسيِّر الكرة المعتمة حول الكرة المضيئة، وتَقْلِبُ مواضع الظلمة ضياءً شيئًا فشيئًا، حتى يتحوَّل ظلام الليل إلى وضاءة النهار، ويتنفَّس الصبح متحرِّرًا من السكون والخمود؛ إنها حركة لا يمكن لإنسان عاقل أن يدَّعي أنها تمضي مصادفة من غير أن تضبطها قدرة مهيمنة لا متناهية.
فسبحان القادر العظيم كامل العظمة، القوي كامل القوة، القدير كامل القدرة، خلق ما في الوجود، وأوجد ما في الكون، وخلق الدنيا والآخرة، وكل ما خلقه الله فهو إحسان إلى عباده، ولهذا كان الله مستحقًّا للحمد على كل حال، وكل المخلوقات التي خلقها الله -عزَّ وجلَّ- هي من آلائه الدالة على ذاته المقدسة، ووحدانيته الكاملة، وقدرته المطلقة -سبحانه جل شأنه-.
أيها الناس: لا شك أن القادر -سبحانه- خلق الخلق، وأوجدهم، ودبَّر أمورهم، وأحصى عددهم، ورزقهم، وهو وحده يحيي ويميت، ويبتلي ويعافي، ويعطي ويمنع، ويفعل ما يريد في الوقت الذي يريد، يعز ويذل، يخفض ويرفع، سبحانه القادر، له في خلقه شؤون وتدبير يعجز عن فهمه اللبيب صاحب العقل والتفكير، -سبحانه وتعالى-.
والمقتدر -سبحانه- يصلح الخلائق فضلاً منه وإحسانًا، وهو الذي إن شاء فعل، وإن لم يشأ لم يفعل، وهو الذي يوجِد كل موجود، ويستغني عن أي معاونة، لا يفوته مطلوب، ولا يلحقه من وراءِ خلقهِ تعب -سبحانه- جل عن الشبيه والنظير -سبحانه-.
وإن القادر من البشر وإن استحق هذا الوصف، فإن قدرته مستعارة، وهي عنده وديعة من الله تعالى، ويجوز عليه العجز كما يجوز في حقه الضعف والنقص، أما القدير -سبحانه- فلا يتطرّق إليه العجز ولا يفوته شيء.
فسبحان الله القدير الذي لكمال قدرته يهدي من يشاء ويضل من يشاء، ويجعل المؤمن مؤمنًا والكافر كافرًا، وهو الذي جعل إبراهيم وآله أئمةً هدى يدعون إليه، ويهدون بأمره، وجعل فرعون وقومه أئمة ضلال يدعون إلى النار، بلا ظلم منه -سبحانه-، بل عدل منه وفضلٍ -سبحانه-، ولكمال قدرته لا يحيط أحدٌ بشيء من علمه إلا بما شاء أن يُعلِمه إياه، ولكمال قدرته خلق السموات والأرض، وما بينهما في ستة أيام وما مسَّه تعب ولا لغوب، ومن كماله أنه لا يُعجِزه أحدٌ من خلقه، ولا يفوته، بل هو في قبضته أين كان، فإن فرَّ منه فإنما يطوي المراحل بين يديه وإليه، كما قيل:
وكيف يفر المرء عنك بذنبه *** إذا كان يطوي بين يديك المراحلا
أيها المسلمون: هذه دعوة للتفكر في قدرة الله -سبحانه-، دعوة إلى التأمل، دعوة موجَّهة إلى القلوب الذاكرة، العابدة، الخاشعة، دعوة إلى من يتفكرون، ويسمعون، ويعقلون، ويؤمنون، ويفقهون، إلى أولي الألباب، إلى أولي الأبصار، إلى أولي الأحلام والنُّهَى، إلى من يتأملون، ويتدبرون فينتفعون، فلا عند حدود النظر المشهود للعيان يقفون، بل إلى قدرة القادر في خلقه ينظرون، ولسان حالهم ومقالهم: (لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآَخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإليه تُرْجَعُونَ)؛ ليزدادوا إيمانًا مع إيمانهم وكذلك يفعلون. دعوة إلى الغافلين، السَّاهين، اللاهين، المعْرِضين، إلى من لهم عيون بها لا يبصرون، وآذان بها لا يسمعون، وقلوب بها لا يفقهون، فتفكروا يا رعاكم الله في قدرة رب العالمين، واعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئًا.
عباد الله: لا شك أن كل صاحب فكر يقظ غير متبلد يجد في كل خَلْق من مخلوقات الله -عز وجل- آيةً ومعجزةً باهرةً تدل على قدرة الله -سبحانه-، وقهره لكل شيء، وعظمته فوق كل شيء. ولكن كثيرًا من الناس يغفلون عن هذه الآيات التي يرونها في الليل والنهار، مع أن الله -عز وجل- برحمته يُظهِر للناس بعض الخوارق التي لم يكونوا يألفونها، بل إنها قد تصادم المألوف عندهم؛ ليزداد بها الذين آمنوا إيمانًا وثباتًا، وتكون فتنة للذين كفروا ونافقوا وأعرضوا، وحجة عليهم، كنار إبراهيم، وعصا موسى، وسكين ذبح إسماعيل، وهذه أمثلة واضحة يعلمها الجميع، وإلا في الأنفس والآفاق من آيات قدرة الله ما تقف عنده النفوس مندهشة، لا تملك إلا أن تقول: لا إله إلا أنت سبحانك القادر المقتدر!!.
وكل من نظر في نفسه ومن حوله نظرةَ صدقٍ وجد آيات قدرة الله رب العالمين ظاهرةً باديةً للعيان، ولكن كثيرًا منا يغفل عن مطالعة آيات الله المنظورة في صفحة الكون، والمتلوة في الكتاب العزيز.
أيها المؤمنون: لقد أثنى الله -تبارك وتعالى- على ذاته العلية، فوصف نفسه بأنه القادر والقدير والمقتدر، وكلها من أسماء الله الحسنى، قال الله تعالى: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) [الأنعام: 65]، وقال -سبحانه-: (فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) [المعارج:40-41]، وقال جل وعلا: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الملك: 1]، وقال -تبارك وتعالى-: (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر: 55]، وقال -جل شأنه-: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) [الإسراء: 99]، وقال تعالى: (وَأَنْزَلنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ) [المؤمنون: 18].
وقال -جل وعلا-: ( وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ ) [المؤمنون: 95] وقال تعالى: (فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القَادِرُونَ) [المرسلات: 23]، وقال -سبحانه-: (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الخَلاقُ العَلِيمُ ) [يّس: 81] وقال -عز وجل: ( إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ ) [الطارق: 8]، وقال تعالى: (فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الروم:50]، وقال -سبحانه-: ( يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ العَلِيمُ القَدِيرُ ) [الروم:54]، وقال تعالى: (عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) [الممتحنة:7]. والآيات القرآنيّة الدالة على القدرة الإلهية كثيرة ومستفيضة.
أما السنة المطهرة فقد أثنى نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- على ربه، وهو أعرف الخلق به، فوصفه وسماه بالقدير، فعن مُعَاوِيَة -رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ: "لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلكُ، وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" [البخاري (844)]. وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهمَا- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ -تبارك وتعالى- يَقُولُ: مَنْ عَلِمَ مِنْكُمْ أَنِّي ذُو قُدْرَةٍ عَلَى مَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ غَفَرْتُ لَهُ، وَلَا أُبَالِي مَا لَمْ يُشْرِكْ بِي شَيْئًا" [الحاكم في المستدرك (7676) وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم 4330].
أيها المسلمون: وتدل أسماء الله القادر والقدير والمقتدر لغةً على السيطرة والتمكن والهيمنة مع الحكمة التامة والقدرة الكاملة.
والقادر -تبارك وتعالى- هو الذي له القدرة المطلقة، وله القوة التامة الكاملة، الذي لا يُعجزه شيء، ولا يفوته مطلوب، القادر على ما يشاء، الفعّال لما يريد، لا يعترضه عجزٌ، ولا ينتابه فتور، ولا يعتريه جهل ولا نسيان، أوجد الكائنات بقدرته، وخلق المخلوقات بقوته، وبقدرته دبرّها وسوّاها وأحكمها، وبقدرته أحياها وأماتها، وبقدرته يبعث العباد للجزاء، فيجازي المحسنَ بإحسانه، ويعاقب المسيءَ على إساءته، وهو الذي إذا أراد شيئًا قال له: كن فيكون.
والمقتدر -سبحانه- هو المتمكن من كل شيء بإحاطة تامة وقوة بالغة، والمهيمن عليه بإحكام كامل وقدرة مطلقة، فالمقتدر -سبحانه- هو كامل القدرة، الذي لا يمتنع عليه شيء، الذي ظهرت قدرته في كل شيء، ولا يعجزه أي شيء، قال تعالى: (وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ * كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر: 41، 42]، قال البيهقي: "المقتدر هو التام القدرة الذي لا يمتنع عليه شيء". وقال المناوي: "المقتدر من الاقتدار، وهو الاستيلاء على كل من أعطاه حظًّا من قدرته". والمقتدر أبلغ من القادر، إذ الزيادة في المبنى (لفظ الكلمة) تفيد الزيادة في المعنى.
والقدير -سبحانه- هو المُصلح للخلائق على وجهٍ لا يقدر عليه أحدٌ إلا هو، وهو -جل جلاله- الذي عظمت قدرته على خلق أعظم المخلوقات: العرش والكرسي، والسموات والأرض، والكواكب والنجوم، والشمس والقمر، والملائكة والروح، والتراب والجبال، والبحار والرياح، والماء والنار، والنبات والحيوان، والإنس والجان، وما من شيء تسمع به أو تراه أو تشعر بوجوده إلا والله الذي خلقه فقدَّره تقديرًا، فسبحان القدير -جل وعلا-.
يا عباد الله: إن أهل الملل السماوية كلهم لم يختلفوا في أن الله -جل وعلا- على كل شيء قدير، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، حتى ما يقع في كتابه من نسخ الآيات والأحكام فهو ناتج عن قدرته المطلقة، قال ربنا- جل وعلا-: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة: 106]، ولو لاحظت -أيها المبارك- كيف أن الله ختم الآية بقوله: ( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) بينما صدَّرها بقوله: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا) والنسخ لغة الإزالة والتغيير، وهذا يستلزم القدرة الكاملة، فلا يبدّل الأحكام ولا يغيّرها، ولا يُلزم عباده بها، ويفرضها عليهم إلا الله القادر --سبحانه وتعالى-.
أيها المسلمون: يقول الله -سبحانه-: (كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر: 42]، ولعلنا من خلال النظر في هذه الآية الكريمة، وفي جولة سريعة مع مضمونها سنستعرض بعضًا من الوقائع التي حدثت في الكون والحياة من حولنا تتجلى فيها قدرة القادر المقتدر -جل وعلا-، ومن ذلك ما حدث في تسونامي اليابان -وهو سُنَّة كونية قدرية-، في الوقت نفسه الذي حدثت فيه ثورات في الدول العربية- تونس ومصر- وغيرها -سُنّة اجتماعية-، كل هذا يستوقف أولي الألباب، لماذا حدث ذلك في وقت متقارب؟!.
إن الذي حدث ليدل دلالةً أكيدةً على قدرة الله المطلقة المتصرفة في شؤون الناس، كما هي قدرته في تصريفه شؤون كونه، وأن كل أقداره خير وبركة، وإن ظن بعض الناس أنها شر. فكما أمر البحر أن يثور ليغيّر وجه الحياة -بعدله وحكمته- في اليابان، ويجرف بعض مظاهر الحضارة الحديثة مثل أفخم السيارات وغيرها, إلى جوف البحر، فهو الذي نفخ في روح الشباب ليثوروا ضد الظلم والاستبداد، في وقت كان الظالمون يظنون أنهم مخلدون؛ فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، وقذف في قلوبهم الرعب، إنها قدرة الملك الحق المبين -سبحانه وتعالى- رب العالمين.
ومن مظاهر قدرة الملك -سبحانه- الرماد البركاني الذي يمنع الطائرات من التحليق في الفضاء، فأعجزهم -سبحانه- بعد إذ ظنوا العلو والتقدم، وهناك أمر أعجب فقد كانت هناك مدينة في إيطاليا يسكنها الرومان مُحيت حينما كانوا في أوج قوّتهم وسيطرتهم على العالم، تقع بالقرب من سفح أحد جبال إيطاليا اسمه فيزوف يطل على هذه المدينة، ثار في سفح الجبل بركان، أرسل رمادًا بركانيًّا حرارته ثمانمائة درجة، وسُمْكه ثمانية أمتار غطى المدينة بأكملها بمن فيها، كما غطى شوارعها وبيوتها، وقصورها وحمّاماتها، بدأ هذا البركان يثور بعد الظهيرة والطعام على الموائد، وعندما غطَّى هذا الرماد البركاني هذه المدينة، مات كل شيء فيها، ولكن بعد حين أصبح هذا الرماد صخريًّا.
وبعد مائة عام جاء العلماء إلى هذه الصخور وثقبوها فوجدوا في داخلها فراغات فحقنوها بالجبس السائل، ولما جفّ هذا الجبس وجدوا أشكال الناس فيه، فأمٌ مثلاً تنحني على ابنها، كما وجدوا أنواع الطعام الموضوعة على الموائد، أناسٌ دفنهم البركان، وآثار الهلع على وجوههم، استطاع العلماء بهذه الوسيلة أن يروا حالة مدينةٍ أهلكها الله دفعةً واحدة، حتى إن بعض النساء يأخذن الْحُلِيّ ليضعنه على صدورهن حفاظًا عليه؛ ظنًّا منهن أنهن سيبقين على قيد الحياة، فقدرة الله -عز وجل- لا نهاية لها، إنه الله المقتدر عظيم القدرة المسيطر بقدرته البالغة على خلقه، المتمكّن بسلطانه --سبحانه- وتعالى-.
إخواني في الله: ومن مظاهر قدرة القدير -سبحانه- ما يحدث في مجال الزلازل من رجّ الأرض كلها أو جزءًا كبيرًا منها، وتهدم مساكن، وموت أناس، وغيرها من مظاهر هدم الحضارات العامرة، ما يحرّك الإنسان إلى أن يشهد بقدرة القادر -سبحانه-, هل تعلم أن مدينة بأكملها ابتلعتها الأرض بفعل الزلزال في أربع ثوان؟! فمدينة بالمغرب اسمها أغادير، وهي مدينة سياحية وساحليّة جميلة جدًّا، وفيها من الفسق والفجور ما لا يوصف كنوادي العراة، وغير ذلك من الموبقات، أصابها زلزالٌ وفي خلال أربع ثوانٍ أصبحت تحت الأرض، وأبرز بناء فيها فندقٌ من أضخم الفنادق في العالم مؤلّف من ثلاثين طابقًا، أصبح الفندق بأكمله تحت الأرض، وبقي اسمه الذي على الطابق الأخير كشاهد على هذا الفندق، فسبحان القوي القدير، فبينما مدينة استغرق بناؤها خمسين عامًا يبتلعها الزلزال فيما يشبه لمح البصر في ثانية واحدة، ألا فلتعلم البشرية أنّ الله قدير، وأن قدرته غير متناهية ولا محدودة.
ومن مظاهر قدرة فاطر السموات والأرض ما يحدث عند مثلث برمودا، فإن سفنًا عملاقة دخلت إليه فاختفت، ولم يعد لها أثراً، وكذلك الطائرات دخلت في محيطه فسقطت وليس لها أثر، وحتى الآن يصعب على البشر وعلمائهم تفسير ذلك، ولا أحد يعلم ما سر هذا المثلث الواقع في المحيط الأطلسي -شمال شرق جزر الأنتيل- هناك أشياء يتحدّى الله بها عباده، ألم يقل الله تعالى في القرآن الكريم: (أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ) [الزخرف: 42].
اللهم إنا نعوذ بك من غضبك وعقابك وشر عبادك، اجعلنا نخشاك كأننا نراك، وأسعدنا بتقواك.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبسنة سيد المرسلين، إنه جواد كريم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله مُعزّ من أطاعه واتقاه، ومذل من خالف أمره وعصاه، فتح أبواب الخيرات لمن أراد رضاه، وأغلق باب السوء عمن أقبل عليه وتولاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا إله سواه، وأشهد أن نبينا محمدًا عبدُه ورسوله ومصطفاه، صلى الله وسلم عليه ، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
عباد الله: اذكروا ربكم، وأكثروا من الثناء عليه، واحمدوه على نعمه، واسألوه من فضله، فإنه لا ينبغي للعبد الموفق أن يغفل عن دعاء الله باسمه القادر، فقد حث النبي -صلى الله عليه وسلم- العبد الموفق على التوسل إلى الله -تبارك وتعالى- وسؤاله بقدرته عند رغبته وإقدامه على أمر مستقبلي لا دراية له بعاقبته؛ كأن يرغب في أمرٍ ما: سفرٍ أو زواجٍ أو عملٍ أو غير ذلك، حثَّه على أن يستخير الله، ويرجوه ويدعوه ويتوسل إليه بقدرته وعلمه واطلاعه على ما كان وما سيكون، ويلحّ عليه ويرجوه؛ لأنه الأعلم والأحكم والأقدر، أن يتخير له بعلمه ما ينفعه.
قال جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-: كان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يُعَلِّمنا الاستخارةَ في الأمورِ كلِّها، كما يعلِّمنا السورةَ من القرآن، يَقُولُ: "إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ؛ فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ..."[البخاري (1162)]. ففي هذا الدعاء ركون العبد إلى قدرة الله، مع إظهار ضعفه وجهله وقلة علمه.
وذكر الله بالوحدانية والقدرة فيه أجر كبير، فعَنْ أَبِي عَيَّاشٍ -رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ قَالَ إِذَا أَصْبَحَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، كَانَ لَهُ عِدْلَ رَقَبَةٍ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَكُتِبَ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَحُطَّ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ، وَرُفِعَ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ، وَكَانَ فِي حِرْزٍ مِنَ الشَّيْطَانِ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِنْ قَالَهَا إِذَا أَمْسَى كَانَ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ حَتَّى يُصْبِحَ" [أبو داود (5077) وصححه الألباني].
وعَنِ ابْنِ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَبِيهِ -رضي الله عنهما-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ: "رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي، وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي كُلِّهِ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطَايَايَ، وَعَمْدِي وَجَهْلِي وَهَزْلِي، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ المُقَدِّمُ وَأَنْتَ المُؤَخِّرُ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" [البخاري (6398)].
فهذه أدعية نبوية بأسماء الله الدالة على كمال القدرة والقوة، فينبغي للعبد أن يدعو الله بها؛ إذ هو القادر -سبحانه- على كل شيء، فلا يعجزه شيء -سبحانه وتعالى-.
أيها المؤمنون: كل من وحّد الله في اسمه القدير عليه أن يؤمن بأن الله -عز وجل- فوق عرشه يدبّر الأمور في خلقه بقدرته، يفعل ما يشاء، بيده أحكام التدبير والقضاء، وهذا يجعل المسلم في ثقة دائمة بربه، يعترف له بنعمته وفضله، وأنه مهما حدث له فإنه متمسك بدينه وشرعه، موقن في وعده ونصره، مطمئن إلى قدرته، واثق بعدله، طامع في رحمته، مطيعٌ لأمره.
وصدق القائل:
فَوَاعَجَبا كَيْف يُعْصَى الْإِلَه *** أَم كَيْف يَجْحَدُه الْجَاحِدُ
وَفِي كُل شَيْء لَه آَيــةٌ *** تَدُل عَلَى أَنَّه الْوَاحـدُ
عباد الله: متعوا آذانكم ونفوسكم بقوله تعالى: (قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ المُلكِ تُؤْتِي المُلكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) [آل عمران:26] فوا عجبًا! إلهٌ هذا خلقُه، وهذه قدرتُه، وهذا إحسانه كيف يُعصى؟! وكيف لا يُشكر وهذا فضله وإنعامه وإحسانه لعموم عباده؟! وكيف لا يُعبَد ويُطاع وهو الخالق الرازق؟! وكيف لا يُتذلل له ويُخاف منه وهو القاهر فوقهم، العليم بهم، الكبير الذي بيده الملك، وله الكمال والجلال والجمال، وله الكبرياء في السموات والأرض؟! وصدق الله: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الزمر: 67].
إخواني في الله: إن اسم الله القدير يملأ النفس ثقةً بنصر الله -عز وجل-، وأمانًا معه وطمأنينةً وأُنسًا به، فإذا كان الله معك فمن عليك؟! وإذا كان عليك فمن معك؟! وصدق القائل: يا رب، ماذا فقَد مَن وجدك؟ وماذا وجد مَن فقدك؟ ويلزم من هذا أن يطمع المؤمن في نصر الله وقوته وتدبيره، ويلجأ لقدرته وقوته، ثم يأخذ بأسباب القوة والقدرة المشروعة، ونعمل ونجد لكي يعود للمسلمين مجدهم وقوتهم.
ولا ينبغي للمؤمن أن يذل لقويّ ويخضع له، ويطمع في عطائه، وهو عبدٌ لربٍّ قوي قادر قاهر على كل شيء قدير، فليأخذ كلّ منا بأسباب القوة والقدرة البشرية، وما أجمل أن نتدبر في هذا الحديث، ونتعلم من دُرَره وفوائده، فهو من كلام الذي لا ينطق عن الهوى، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلاَ تَعْجِزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلاَ تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا. وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ؛ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ" [مسلم 2664].
فهذه مفاتيح القوة والقدرة بين يديك -أخي- أن تركن إلى القادر وتذل بين يديه، وتشكو له ضعفك، وتستعينه على أمرك، وتسأله بقوته مع ضعفك، وبعلمه مع جهلك، وبحلمه مع طيشك، أن يعينك ويأخذ بيدك، وكن على يقين أن الخير بيده، وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وهو على كل شيء قدير.
أسأل الله أن يلهمنا رشدنا، ويقيَنا شر أنفسنا، ويهديَنا سبل السلام، ويجنبَنا الفواحش والفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأعمال، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئ الأخلاق والأعمال لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
التعليقات