ولقد مكناكم في الأرض

الشيخ راشد بن عبدالرحمن البداح

2024-05-01 - 1445/10/22
التصنيفات: أحوال القلوب
عناصر الخطبة
1/كثرة نعم الله علينا 2/ما فضلنا به على غيرنا من النعم 3/التحذير من ملل النعم 4/من أعظم النعم على بلادنا

اقتباس

لنحذرْ من داءٍ دويٍ اسمهُ المللُ من النعمِ، فبعضُ الناسِ قليلٌ شكرُه، كثيرٌ ذمُه، يمَلُ النعمَ ولا يَقْدُرُها، يملُّ سيارتَه وبيتَه، يَمَلُ معيشتَه ووظيفتَه، فإن كان معلمًا أو طالبًا ملَّ مدرستَه، وإن انقضتْ إجازتُه تثاقَلَ انقضاءَها، وإن جاءَ بَرْدٌ تذمَرَ، وإنْ جاءَ حَرٌ تَذَمّرَ...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

الحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، غَيْرَ مَكْفِيٍّ وَلاَ مُوَدَّعٍ وَلاَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ رَبَّنَا، فلكَ الحمدُ كلُه، أولُه وآخرُه، سرُه وعلانيتُه، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا أنتَ وحدَك لا شريكَ لكَ، وأشهدُ أن محمدًا عبدُك ورسولُك، أرسلتَه محجةً للسالكينَ وحُجةً على العبادِ أجمعينَ.

 

أما بعدُ: فاتقوا ربَكم واحمدُوهُ فقد رزقَكُم؛ (وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)[إبراهيم: 34].

 

بل -يا ربَنا- أعطيتَنا ما لم نسألْهُ، فقد مكنْتَنَا في الأرضِ، حتى صرنا كأنَنا ملوكاً بين العالَمِ، وصارَ الأمرُ كما قلتَ يا مولانا: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ)[الأعراف: 10]، نَعَمْ ربَّنا مكّنْتَنا من الانتفاعِ بهذهِ الحضارةِ الباذخةِ، وبهذهِ الرفاهيةِ المريحةِ، فواللهِ إننا في زِحامٍ من النِّعَم، حتى أدركْنا ما لم تدركْهُ الأممُ منذ خَلْقِ آدمَ، فنسألُ اللهَ ألا يجعلَه استدراجاً.

 

فلنُعَدِدِ الآنَ النعمَ التي لم يُدركِها مَن ماتَ قبلَ أربعينَ سنةً:

فبلمسةٍ واحدةٍ في الجدارِ يُصبحُ الليلُ في المكانِ كالنهارِ!، وبلمسةٍ أخرى يَخرجُ لك ماءٌ عذبٌ لا تجذبُه من الآبارِ!، وتكونُ في مجلسِك فتتكلمُ بكلمةٍ واحدةٍ مبرمَجَةٍ، فيُصبحُ الشتاءُ دافئاً، والصيفُ بارداً، والبابُ المغلقُ مفتوحاً، وبلمساتٍ في الجوال تقضِي حاجتَك من أقاصِي الدنيا.

 

يقومُ جهازٌ بعجنِ خبزتِكَ، وآخرُ بتحضيرِ إدامِكَ، وثالثٌ بالترتيبِ والتغليفِ، ورابعٌ بالتوصيلِ والتقديمِ؛ فيأتيْكَ بطعامِكَ قبلَ أن تقومَ من مقامِكَ!.

 

وقد سخَر اللهُ بلدانَ العالمِ لخدمتِنا؛ يصنعونَ مراكبَنا وملابسَنا وأثاثَنا، ويطبخونَ طعامَنا، ونحنُ نعطِيهِم من مالِ اللهِ الذي آتانا.

 

وفي بلادِنا بركاتٌ وخيراتٌ؛ ففيها تُنتجُ أفضلُ التمورِ، وتتوفرُ أطيبُ اللحومِ، وتُزرعُ ألذُّ الخضرواتِ، وتُجبى إلى بلادِنا كلُّ الثمراتِ.

 

معاشرَ المؤمنينَ: تأمَلُوا وقارِنوا بين حالِنا القريبةِ منذُ أربعينَ سنةً، ثم تطوراتُ النعمِ التي يسخرُها اللهُ لنا طيلةَ هذهِ العقودِ الأربعةِ؛ مراوحُ ثم مكيفاتٌ صحراويةٌ، ثم مكيفاتٌ الشبكِ، ثم مكيفاتٌ أهدأُ صوتاً، ثم مكيفاتٌ مركزيةٌ.

 

وأما الماءُ فقد نقَلَنا ربُنا من القِرَبِ إلى الأزيارِ، ثم إلى البراداتِ، ثم لهذِه القواريرِ الصحيةِ المعبأةِ، التي ملأتِ المساجدَ.

 

والمواصلاتُ من بعيرٍ وحمارٍ أو المشيِ حافياً إلى دراجاتٍ ناريةٍ، ثم سيارةٍ في كلِ بيتٍ، ثم سياراتٍ بعددِ أهلِ البيتِ؛ (وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ)[النحل: 8].

 

وفي اللباسِ كنا لا نَلبسُ الجديدَ إلا بالعيدِ، فإذا قصُرَ ثوب أحدِنا فُتِقَ وخُبِنَ، ثم تداوَلَه الأخِ لأخيهِ الأصغرِ، ثم صارَ الكثيرُ الآنَ يُفَصّلونَ في كل صيفٍ وشتاءٍ!.

 

وفي العلاجِ والطبِ تطورٌ هائلٌ، فقد كانَ الناسُ يضربونَ فِجاجَ الأرضِ لطلبِ علاجٍ أو مستشفىً، وأما الآنَ فقد وفرتِ الدولةُ -وفقَها اللهُ- ما لا يتوفرُ في العالمِ، وصارَ علاجُك يأتيْكَ في بيتِك، وتُعيدُ صرْفَه الكترونياً، فيأتيْك عند بابِ بيتِك.

 

ألا فلنكثرْ من شكرِ ربِنا، فشكرُ هذه النعمِ واجبٌ علينا؛ بالثناءِ على اللهِ وذكرِه وشكرِه، وبطاعتِه وامتثالِ أمرِه، واجتنابِ نهيهِ، ولنَحُثَ أبناءَنا وبناتَنا وطلابَنا وطالباتِنا على ذلكَ، ولنُذكّرْهم بهِ.

 

فاللهم أعِنَّا على ذِكرِك وشكرِك وحُسنِ عبادتِك.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ للهِ على لطفهِ الخفيِ، وفضلِه وإحسانِه الجليِ، والصلاةُ والسلامُ على النبيِ الأميِ.

 

أما بعدُ: فنَعَم نِعَمٌ؛ (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا)[النحل: 18]، لكن لنحذرْ من داءٍ دويٍ اسمهُ المللُ من النعمِ، فبعضُ الناسِ قليلٌ شكرُه، كثيرٌ ذمُه، يمَلُ النعمَ ولا يَقْدُرُها، يملُّ سيارتَه وبيتَه، يَمَلُ معيشتَه ووظيفتَه، فإن كان معلمًا أو طالبًا ملَّ مدرستَه، وإن انقضتْ إجازتُه تثاقَلَ انقضاءَها، وإن جاءَ بَرْدٌ تذمَرَ، وإنْ جاءَ حَرٌ تَذَمّرَ:

 

يشتهيْ الإِنسانُ في الصيفِ الشتا *** فإذا جاءَ الشتا أنكرَهُ

فهو لا يـَـرضَى بحــــالٍ أبداً *** قُتِلَ الإنسانُ ما أكـفرَهُ

 

كانَ عمرو بنُ العاصِ -رضيَ اللهُ عنهُ- أميرًا على مصرِ، فعوتِبَ وقد ركبَ بغلةً هزيلةً، فقالَ: "لا ملَلَ عندي لدابتيْ ما حمَلَتْ رَحْلِي؛ فإن المَللَ من كواذِبِ الأخلاقِ".

 

ومن النعمِ الظاهرةِ الحاضرةِ في هذهِ البلادِ المباركةِ، احتضانِها للبيتِ الحرامِ وللمسجدِ النبويِ، حيث إنها محضنِ الحرمينِ، ومهوَى أفئدةِ المسلمينَ، وحيثُ الأمنُ والرغدُ، وإننا إذا رأينا هذهِ المظاهراتِ والانقلاباتِ، وموجاتِ الهرجِ والتخطفاتِ، فلنذْكرْ ولنتذاكرْ نعمةِ ربِنا في قولِه -سبحانَه-: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ)[العنكبوت: 67].

 

ومن المهمُ أن نعرّفَه أنّ بلدَنا هذا مستهدفٌ من الحاسدينَ والماكرينَ، ويحومُ حولَهَا ذئابُ الخارجِ يريدونَ اختراقِها، ويجولُ داخلَها ذئابُ الداخلِ يريدونَ إغراقَها، لكنّ ربَنا حافظُها ورازقُها وأهلَها، وهو القائلُ -سبحانَه-: (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)[القصص: 57].

 

فاللهمَ أعنّا على ذكرِكَ وشكرِكَ وحسنِ عبادتِكَ، اللهم ارحمْ إخوانَنا المستضعفينَ والمحرومينَ،

اللهم آمِنَّا في أوطانِنا ودُورنِا، وأصلحْ أئمتَنا وولاةَ أمورنِا، اللهم وافرجْ لهم في المضائقِ، واكشفْ لهم وجوهَ الحقائقِ، اللهم احفظْ جنودَنا في حدودِنا، واخلفْ عليهم كلَ غائبةٍ بخيرٍ، اللهم يَا كَثيْرَ النَّوَال، يا حَسنَ الفِعَالِ: نسألك أن ترفعَ ذكرَنا، وتضعَ وزرَنا، وتُصلحَ أمرنا، وتحصِّنَ فروجَنا، وتُنوِّرَ قلوبَنا، وتغفرَ ذنوبَنا، ونسألكَ الدرجاتِ العلَى من الجنةِ.

 

اللهم صلِّ وسلِّمْ على عبدِكَ ورسولِكَ محمدٍ.

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life