عناصر الخطبة
1/ مكر الكبراء بالضعفاء 2/ املاء الله للمستكبرين وامتحانه للمستضعفين 3/ من أخبار الأنبياء مع مستكبري قومهم 4/ عواقب المكر وخيمة على أهله 5/ مكر الله بالماكرين وإذلاله للمستكبرين.اقتباس
وَأَمَّا سُنَّتُهُ بِإِهلاكِ الظَّالِمِينَ؛ فَإِنَّهَا لا تَتَخَلَّفُ وَلا تَتَغَيَّرُ، يَجِبُ أَن يُوقِنَ المُؤمِنُونَ بِذَلِكَ تَمَامَ اليَقِينِ وَلا يَشكُّوا فِيهِ، فَإِنْ رَأَوا مِنهُ طَرَفًا فَذَاكَ مِمَّا يُثَبِّتُ القُلُوبَ وَيَزِيدُهَا يَقِينًا، وَإِلاَّ فَالإِيمَانُ بِمَا قَالَ اللهُ وَقَرَّرَهُ في كِتَابِهِ وَاجِبٌ، وَقَد ذَكَرَ -سُبحَانَهُ- أَنَّهُ قَد يُزَيِّنُ لِلكَافِرِينَ مَكرَهُم في الدُّنيَا، وَقَد يُذِيقُهُم بَعضَ العَذَابِ فِيهَا بِمَا...
الخطبة الأولى:
أَمَّا بَعدُ: فَـ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 21].
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: يَعِيشُ العَالَمُ اليَومَ وَعَلَى مُستَوَيَاتٍ كَثِيرَةٍ وَفي جِهَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ مَكرًا كُبَّارًا، حَيثُ يَمكُرُ الكُبَرَاءُ بِمَن دُونَهُم، وَيَحِيكُ الأَقوِيَاءُ المُؤَامَرَاتِ لِلضُّعَفَاءِ، وَيَبغُونَ عَلَيهِم وَيَنكُثُونَ العُهُودَ، وَيُرَوِّجُونَ لِبَاطِلِهِم وَيُكثِرُونَ في الأَرضِ الفَسَادَ، وَيَرَى المُؤمِنُونَ ذَلِكَ وَيَعِيشُونَهُ، وَيَنَالُهُم وَبُلدَانَهُم مِنهُ مَا يَنَالُهُم، وَقَد تَضِيقُ لِذَلِكَ مِنهُم صُدُورٌ وَتَضطَرِبُ نُفُوسٌ، وَتَكَادُ قُلُوبٌ تَيأَسُ وَتَفقِدُ الأَمَلَ في حُصُولِ مَا تَرغَبُهُ وَالنَّجَاةِ مِمَّا تَخَافُهُ وَتَرهَبُهُ، (وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) [إبراهيم:46]؛ وَهُنَا تَأتي الطَّمأَنَةُ مِنَ اللهِ -تَعَالى- لِعِبَادِهِ، وَيُقَرِّرُ لَهُم سُنَّةً مِنَ السُّنَنِ الثَّابِتَةِ وَنَامُوسًا مِنَ النَّوَامِيسِ المُحكَمَةِ، الَّتِي تَحكُمُ هَذَا الكَونَ بِأَمرِهِ -تَعَالى- وَحِكمَتِهِ؛ فَيَقُولُ -سُبحَانَهُ- وَهُوَ أَصدَقُ القَائِلِينَ: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) [الأنعام: 123].
أَجَلْ -أَيُّهَا المُسلِمُونَ- إِنَّ مِنِ ابتِلاءِ اللهِ لِعِبَادِهِ أَن يَجعَلَ في كُلِّ بَلَدٍ مُجرِمِينَ مِنَ الأَكَابِرِ وَالعُظَمَاءِ، لَهُم مِنَ القُدرَةِ عَلَى الإِفسَادِ مَا لَيسَ لِغَيرِهِم، وَتَرَاهُم يُخَطِّطُونَ لِبَاطِلِهِم وَيُفسِدُونَ لَيلَهُم وَنَهَارَهُم، بَل وَيَحمِلُونَ النَّاسَ عَلَى اتِّبَاعِهِم في بَاطِلِهِم وَيُجبِرُونَهُم عَلَى السَّيرِ وَرَاءَهُم في فَسَادِهِم، وَقَد يَقُولُ قَائِلٌ: وَلِمَ يُسَلَّطُ المُجرِمُونَ المُفسِدُونَ في كُلِّ بَلَدٍ عَلَى المُؤمِنِينَ الصَّالِحِينَ وَالمُصلِحِينَ ؟ وَلِمَ تَكُونُ لَهُمُ الرِّيَاسَةُ وَالأَمرُ وَالنَّهيُ ؟! فَيُقَالُ: إِنَّهُ لم يَكُنِ اللهُ -تَعَالى- لِيَجعَلَ لِلكَافِرِينَ عَلَى المُؤمِنِينَ سَبِيلاً، وَمَا كَانَتِ العَاقِبَةُ الحَسَنَةُ لِتَحصُلَ لِغَيرِ المُتَّقِينَ، وَلا أَن يَرِثَ الأَرضَ؛ إِلاَّ عِبَادُ اللهِ الصَّالِحُونَ، وَلَكِنَّ أَهلَ الحَقِّ قَد تُصِيبُهُم في وَقتٍ مِنَ الأَوقَاتِ غَفلَةٌ مُطبِقَةٌ، أَو يَمُرُّ بِهِم في زَمَنٍ مِنَ الأَزمَانِ جَهلٌ ذَرِيعٌ؛ فَيُمنَونَ بِضَعفٍ وَتَفَرُّقٍ وَاختِلافٍ وَتَشَرذُمٍ، وَحِينَهَا يَتَجَرَّأُ أَهلُ البَاطِلِ عَلَيهِم، وَيُمسِكُونَ بِزِمَامِ الأُمُورِ في بِلادِهِم، وَيَتَزَعَّمُونَ المُجتَمَعَ كُلَّهُ وَيَقُودُونَهُ، وَقَد مَضَت سُنَّةُ اللهِ أَنَّ المُجتَمَعَاتِ الَّتي يَتَفَرَّقُ فِيهَا أَهلُ الحَقِّ وَيَجبُنُونَ عَن مُوَاجَهَةِ مَن فِيهَا مِنَ المُجرِمِين، يُسَلَّطُ عَلَيهَا أُولَئِكَ المُجرِمُونَ السَّاقِطُونَ، وَيَعزِلُونَ أَهلَ الحَقِّ المُتَفَرِّقِينَ عَن مُجتَمَعِهِم، وَيَحُولُونَ بَينَهُم وَبَينَ التَّأثِيرِ فِيهِ.
وَيَقُولُ قَائِلٌ -أَيضًا-: وَلِمَاذَا يَمكُرُ المُجرِمُونَ بِالنَّاسِ وَيَصرِفُونَهُم عَنِ الحَقِّ ؟! وَلِمَاذَا يَدفَعُونَهُم إِلى البَاطِلِ وَيُوقِعُونَهُم في الضَّلالِ وَالفَسَادِ ؟! وَلِمَ لا يَترُكُونَهُم وَشَأنَهُم؟! فَيُقَالُ: إِنَّ أُولَئِكَ المُجرِمِينَ يَخَافُونَ ظُهُورَ الحَقِّ في المُجتَمَعِ، وَيَخشَونَ أَن يَجتَمِعَ النَّاسُ كُلُّهُم حَولَهُ؛ فَيَنكَشِفَ بِذَلِكَ إِجرَامُهُم وَبَاطِلُهُم، وَيَفقِدُوا رِيَاسَتَهُم وَزَعَامَتَهُم، وَلِهَذَا كَانَ مِنَ السُّنَنِ المَاضِيَةِ وَالثَّابِتَةِ أَن يُعَادِيَ المُجرِمُونَ المُؤمِنِينَ في كُلِّ مَكَانٍ وَزَمَانٍ وَيَمكُرُوا بِهِم، وَقَد أَشَارَ القُرآنُ الكَرِيمُ إِلى أَنوَاعٍ مِنَ المَكرِ السَّيِّئِ الَّذِي مَارَسَهُ المُجرِمُونَ الظَّالِمُونَ مَعَ أَهلِ الحَقِّ، بَدءًا بِمُحَاوَلَةِ قَتلِ أَنبِيَاءِ اللهِ وَرُسُلِهِ وَأَتبَاعِهِم، مُرُورًا بِإِخرَاجِهِم مِن دِيَارِهِم أَو سَجنِهِم، وَإِيذَائِهِم وَالتَّحرِيشِ عَلَيهِم، أَو صَدِّهِم عَنِ الدَّعوَةِ بِزُخرُفِ القَولِ وَإِشَاعَةِ الأَبَاطِيلِ وَنَشرِ الافتِرَاءَاتِ، قَالَ -تَعَالى- عَن قَومِ نُوحٍ -عَلَيهِ السَّلامُ-: (وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا) [نوح: 22]، وَقَالَ -تَعَالى-: (بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ) [الرعد: 33].
وَثَمُودُ اتَّفَقَ رَهطٌ مِنهُم أَن يَقتُلُوا نَبِيَّ اللهِ صَالِحًا -عَلَيهِ السَّلامُ-، قَالَ -تَعَالى-: (وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ * قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) [النمل: 48 - 51].
وَاليَهُودُ حَاوَلُوا قَتلَ عِيسَى بنِ مَريَمَ -عَلَيهِ السَّلامُ-، (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [آل عمران: 54]، وَكُفَّارُ قَرَيشٍ حَاوَلُوا أَن يَمكُرُوا بِرَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- وَدَبَّرُوا لِقَتلِهِ أَو حَبسِهِ أَو إِخرَاجِهِ مِن مَكَّةَ، قَالَ -تَعَالى-: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الأنفال: 30].
وَهَكَذَا يَمكُرُ أَهلُ الرِّيَاسَةِ وَالقِيَادَةِ بِالضُّعَفَاءِ لِيَصُدُّوهُم عَنِ الحَقِّ وَيَصرِفُوهُم عَنهُ بِزُخرُفٍ مِنَ المَقَالِ وَالفِعَالِ، وَيَخفَى عَلَى أُولَئِكَ المُجرِمِينَ أَنَّهُم إِنَّمَا يَمكُرُونَ بِأَنفُسِهِم، وَيَحفِرُونَ حُفَرًا لِيَقعُوا فِيهَا بَعدَ حِينٍ، وَأَنَّهُ سَيَأتي يَومٌ يَتَبَادَلُونَ فِيهِ اللَّومَ وَالعِتَابَ وَالاتِّهَامَاتِ، فَلا يَنفَعُهُم ذَلِكَ المَكرُ شَيئًا وَلا يُفِيدُهُم، إِذْ سَيَخسَرُونَ كُلُّهُم وَيَندَمُونَ، وَيَنَالُونَ العِقَابَ الشَّدِيدَ، المُستَكبِرُونَ عَلَى ضَلالِهِم وَإِضلالِهِم، وَالمُستَضعَفُونَ عَلَى طَاعتِهِم كُبَرَاءَهُم في الضَّلالِ، قَالَ -تَعَالى-: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [سبأ: 31-33].
أَجَلْ -أَيُّهَا المُسلِمُونَ- إِنَّ عِقَابَ أَهلِ المَكرِ السَّيِّئِ حَاصِلٌ وَلا مَحَالَةَ، وَلَن يُفلِتُوا مِنَ العِقَابِ مَهمَا كَادُوا أَو مَكَرُوا أَو نَكَثُوا، وَالأُمُورُ بِعَوَاقِبِهَا وَخَوَاتِيمِهَا، وَإِنَّمَا تَتَبَيَّنُ حَقَائِقُهَا عِندَ نِهَايَاتِهَا، وَاللهُ يُمهِلُ وَلا يُهمِلُ، وَيُملِي وَلا يَنسَى، وَمَن ظَنَّ غَيرَ ذَلِكَ فَهُوَ وَاهِمٌ وَخَاسِرٌ، قَالَ -تَعَالى-: (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) [الأعراف: 99]، وَقَالَ -جَلَّ وَعَلا-: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا * اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا) [فاطر: 42-43]، وَلا يَقُولَنَّ قَائِلٌ: هَا نَحنُ نَرَى المَاكِرِينَ يَمكُرُونَ وَيَمكُرُونَ، وَيُعَاهِدُونَ وَيَغدِرُونَ، وَيَعقِدُونَ المُعَاهَدَاتِ وَيَنكُثُونَ، وَيَعِيثُونَ في الأَرضِ وَيُفسِدُونَ، وَمَعَ ذَلِكَ لا يَزِيدُونَ إِلاَّ قُوَّةً وَغَلَبَةً وَعُلُوًّا وَانتِصَارًا.
نَعَم -أَيُّهَا الإِخوَةُ- لا يَغتَرَّنَّ مُغتَرٌّ أَو يَيأَسَنَّ يَائِسٌ؛ فَإِنَّ قَولَهُ -تَعَالى-: (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) [فاطر:43]؛ قَانُونٌ عَامٌّ وَسُنَّةٌ ثَابِتَةٌ مِن سُنَنِ اللهِ في حَيَاةِ البَشَرِ وَعِلاقَاتِهِم فِيمَا بَينَهُم، وَهِيَ لا تَتَخَلَّفُ أَبَدًا وَلا تَتَبَدَّلُ وَلا تَتَحَوَّلُ، وَلَكِنَّ حُصُولَهَا يَستَلزِمُ تَحَقُّقَ أَسبَابِهَا وَشُرُوطِهَا وَانتِفَاءَ مَوَانِعِهَا، كَمَا أَنَّ لِنَفَاذِهَا أَوجُهًا مُتَعَدِّدَةً قَد تَخفَى عَلَى النَّاسِ، الَّذِينَ يُرَكِّزُونَ عَلَى وَجهٍ وَاحِدٍ مِنَ أَوجُهِ نَصرِ المُؤمِنِينَ، أَو لا يَستَحضِرُونَ إِلاَّ صُورَةً وَاحِدَةً مِن إِحَاطَةِ المَكرِ السَّيِّئِ بِأَهلِهِ المُجرِمِينَ، نَعَم، قَد يَكُونُ حَالُ النَّاسِ مَا ذُكِرَ، وَلَكِنَّ اللهَ -تَعَالى- يُرِيدُ بِحِكمَتِهِ نَفَاذَ سُنَّتِهِ في وَجهٍ آخَرَ وَبِصُورَةٍ أُخرَى، وَقَد يَكُونُ في عِلمِهِ -تَعَالى- أَنَّهُ لم يَحِنِ الوَقتُ المُنَاسِبُ لِتَحَقُّقِهَا، فَيَتَأَخَّرُ إِلى وَقتٍ يَعلَمُهُ -تَعَالى- وَلا يَعلَمُهُ العِبَادُ.
وَأَمَّا سُنَّتُهُ بِإِهلاكِ الظَّالِمِينَ فَإِنَّهَا لا تَتَخَلَّفُ وَلا تَتَغَيَّرُ، يَجِبُ أَن يُوقِنَ المُؤمِنُونَ بِذَلِكَ تَمَامَ اليَقِينِ وَلا يَشكُّوا فِيهِ، فَإِنْ رَأَوا مِنهُ طَرَفًا فَذَاكَ مِمَّا يُثَبِّتُ القُلُوبَ وَيَزِيدُهَا يَقِينًا، وَإِلاَّ فَالإِيمَانُ بِمَا قَالَ اللهُ وَقَرَّرَهُ في كِتَابِهِ وَاجِبٌ، وَقَد ذَكَرَ -سُبحَانَهُ- أَنَّهُ قَد يُزَيِّنُ لِلكَافِرِينَ مَكرَهُم في الدُّنيَا، وَقَد يُذِيقُهُم بَعضَ العَذَابِ فِيهَا بِمَا يَنَالُهُم مِنَ القَتلِ أَوِ الأَسرِ، أَو سَائِرِ المِحَنِ الَّتي تُصِيبُهُم وَهُم لم يَحسِبُوا لَهَا حِسَابًا، أَوِ القَوَارِعِ الَّتي تَحُلُّ بِهِم مِن حَيثُ لا يَتَوَقَّعُونَ، وَلَكِنَّهُ -تَعَالى- بِحِكمَتِهِ يُؤَخِّرُ لَهُم عَذَابًا آخَرَ في الآخِرَةِ؛ يَشُقُّ بِهِم كَمَا شَقُّوا بِعِبَادِهِ في الدُّنيَا، قَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ* ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ * ثُمَّ يَومَ القِيَامَةِ يُخزِيهِم وَيَقُولُ أَينَ شُرَكَائيَ الَّذِينَ كُنتُم تُشَاقُّونَ فِيهِم قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلمَ إِنَّ الخِزْيَ اليَومَ وَالسُّوءَ عَلَى الكَافِرِينَ) [النحل: 26- 27].
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلا-: (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ) [الرعد: 33- 34]، وَقَالَ -سُبحَانَهُ-: (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ) [فاطر: 10].
أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ -أَيُّهَا المُسلِمُونَ- وَلا يَلحَقَنَّ بِنَا يَأسٌ وَلا قُنُوطٌ وَإِن أَسرَعَ المَاكِرُونَ وَتَعَجَّلُوا، أَو بَغَوا وَنَكَثُوا؛ فَاللهُ أَسرَعُ مَكرًا، وَلَهُ زِمَامُ الأَمرِ وَجَمِيعُ المَكرِ، وَهُوَ سُبحَانَهُ- القَائِلُ : (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ) [يونس: 21]، وَالقَائِلُ: (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد: 42]، وَقَالَ -تَعَالى-: (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) [فاطر: 43]، وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [يونس: 23]، وَقَالَ -تَبَارَكَ اسمُهُ-: (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [الفتح: 10].
اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ الجُوعِ فَإِنَّهُ بِئسَ الضَّجِيعُ، ونَعُوذُ بِكَ مِنَ الخِيَانَةِ؛ فَإِنَّهَا بِئسَتِ البِطَانَةُ، وَأَقُولُ هَذَا القَولَ وَأَستَغفِرُ اللهَ.
الخطبة الثانية:
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالى- تَنجُوا وَتَسلَمُوا؛ فَقَد قَالَ رَبُّكُم -جَلَّ وَعَلا-: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا) [مريم: 71].
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: وَقَد يَقُولُ قَائِلٌ: إِنَّ المَكرَ تَدبِيرٌ خَفِيٌّ وَاحتِيَالٌ لِبُلُوغِ المَقصُودِ بِالمَمكُورِ بِهِ، وَهَذَا المَعنى لا يَكُونُ غَالِبًا؛ إِلاَّ في الشَّرِّ وَالفَسَادِ، فَكَيفَ يُنسَبُ المَكرُ إِلى اللهِ -تَعَالى- ؟! فَيُقَالُ: إِنَّ ذَلِكَ إِمَّا أَن يَكُونَ تَسمِيَةً لِجَزَاءِ المَكرِ بِالمَكرِ كَقَولِهِ -تَعَالى-: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) [الشورى: 40].
وَإِمَّا أَن يَكُونَ عَلَى وَجهِ التَّشبِيهِ؛ لأَنَّ تَدبِيرَهُ -تَعَالى- يَخفَى عَلَى عِبَادِهِ وَلا يَعلَمُونَهُ مَهمَا بَلَغُوا مِن قُوَّةٍ وَاطِّلاعٍ، وَعَلى كُلِّ حَالٍ؛ فَإِنَّ مَكرَ اللهِ -تَعَالى- إِنَّمَا يَكُونُ إِقَامَةً لِسُنَنِهِ وَإِتمَامًا لِحُكمِهِ وَحِكمَتِهِ، وَإِيقَاعًا لِعَذَابِهِ بِأَعدَائِهِ، وَدَفعًا لَهُ عَن أَولِيَائِهِ، وَكُلُّهَا خَيرٌ في نَفسِهَا وَإِن قَصَّرَ العِبَادُ في مَعرِفَتِهَا أَو فَهمِهَا، وَمِن ثَمَّ؛ فَإِنَّ عَلَى المُسلِمِينَ أَن يَنتَبِهُوا إِلى أَنَّهُم في مُوَاجَهَةٍ مُستَمِرَّةٍ مَعَ أَهلِ المَكرِ وَخَاصَّةً أَكابِرَهُم وَسَادَتَهُم، وَلَكِنَّ مِن أَعظَمِ مَا يُطَمئِنُ المُؤمِنِينَ أَنَّ اللهَ -تَعَالى- قَد يُرِيهِم مَصَارِعَ المَاكِرِينَ فَيَشهَدُونَهَا بِأَعيُنِهِم، وَيَرَونَ عُقُوبَةَ اللهِ لأَعدَائِهِ أَمَامَهُم؛ لِتَطمَئِنَّ بِذَلِكَ قُلُوبُهُم وَيَشعُرُوا أَنَّ اللهَ مَعَهُم وَلَن يُسلِمَهُم، قَالَ -سُبحَانَهُ-: (فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) [البقرة: 50].
وَقَد قَرَأنَا في كِتَابِ اللهِ وَحَدَّثَنَا رَسُولُهُ، وَنَقَلَ إِلَينَا التَّأرِيخُ نَقلاً مُتَوَاتِرًا، وَرَأَينَا بِأَعيُنِنَا وَشَاهَدنَا، مَصَارِعَ قَومٍ طَغَوا وَبَغَوا وَأَكثَرُوا الفَسَادَ، وَجَثَمُوا عَلَى قُلُوبِ الشُّعُوبِ سِنِينَ طِوَالاً، حَتى كَادَ النَّاسُ يَيأَسُوا مِن زَوَالِهِم؛ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِن حَيثُ لم يَحتَسِبُوا، وَأَخَذَهُم عَلَى حِينِ غَفلَةٍ مِنهُم، وَحِينَ نَرَى الآنَ دُوَلاً مِمَّا يُسمَّى بِالدُّوَلِ العُظمَى، تَتَكَبَّرُ عَلَى سَائِرِ الدُّوَلِ وَتَتَبَجَّحُ بِقُوَّتِهَا، وَتُهِينُ مُقَدَّسَاتِ المُسلِمِينَ بِوَجهٍ خَاصٍّ، وَلا تَرفَعُ رَأسًا بِمَا أَخَذَتهُ عَلَى نَفسِهَا مِن عُهُودٍ مُنذُ عُقُودٍ، فَتَنقُضُهَا وَاحِدًا تِلوَ الآخَرِ، وَتُوغِلُ في الطُّغيَانِ عَامًا بَعدَ عَامٍ، فَإِنَّنَا لا نَشُكُّ طَرفَةَ عَينٍ أَنَّ لَهَا يَومًا تُؤخَذُ فِيهِ كَمَا أُخِذَ غَيرُهَا، وَتَزُولُ كَمَا زَالَ مَن عَدَاهَا، (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا) [مريم:98]، (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [يوسف: 21].
التعليقات