عناصر الخطبة
1/العزة والعلو لا يتأثران بهزيمة مرحلية 2/أنتم الأعلون 3/الطريق طويل والتضحيات كبيرة 4/الأمل والتفاؤل بنصر الأمة 5/المستقبل لهذا الدين.اقتباس
حينما يؤمن الإنسان إيماناً صادقاً، بأن وعد الله حق، فإن جواذب الإيمان ترفعه عن الالتفات إلى موطن الذلةِ والخنوع، وتدفعه إلى العمل لنصرة الحق وإعلاء شريعة الله، والصبرِ على الشدائد، فما يولد المولود إلا بعد شدائد وآلام، وما يطلع الفجر إلا بعد الظلام...
الخطبةُ الأولَى:
الحمدُ لله الذي أعزَّنا بالدين، وجعلنا خير أمةٍ أخرجت للعالمين، وأشهد ألا إله إلاَّ الله وحدهُ لا شريك له ولي المؤمنين، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسوله سيدُ الأولين والآخرين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله معشر المؤمنين، وثقوا بوعد الله ونصره؛ (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)[آل عمران: 139]؛ أتدرون -أيها المؤمنون- متى نزلت هذه الآية؟ نزلت بعد أن شُجّ وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- وكُسرت رباعيته في غزوة أُحُد؛ نزلت بعد أن قُتِلَ سبعون من خيار الصحابة.
بعد الهزيمة نزلت؛ (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)[آل عمران: 139]؛ لِيُعْلِمَ الله المؤمنين أنّ العزة والعلو لا يتأثران بهزيمة مرحلية، ولا يرتبطان بنصر مرئي، ولا يعتمدان على تمكين مشاهد.
أنتم الأعلون؛ لأن إلهكم الله الذي لا إله إلا هو -سبحانه-، (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا)[فاطر: 44].
أنتم الأعلون؛ لأن الطمأنينة في قلوبكم، واليقين يملأ صدوركم؛ (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَىَ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[الأنفال: 10].
الطريق طويل، وحمل الإسلام عظيم؛ تعب فيه آدم، وناح فيه نوح، وأُلقي في النار إبراهيم، واضطجع للذبح إسماعيل، وشُقَّ بالمنشار زكريا، وذُبِحَ السيد الحصور يحيى، وعاش في الفلاة عيسى، وقاسى الضّر أيوب..
عاش محمد -صلى الله عليه وسلم- ثلاثا وستين سنة فلم يتم له النصر الأكبر والأكمل إلا قبل وفاته بعامين (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا)[سورة النصر: 1- 3].
لا تيأسنَّ إذا الكروبُ ترادفت *** فلعلَها ولعلَها ولعلَها
واصبر فإن الصبرَ يُبلغك المُنى *** حتى ترى قهرَ العدوِ أقلَها
والزم تُقى اللهِ العظيمِ ففي التُقى *** عزُّ النفوسِ فلا يجامع ذلَها
(حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)[يوسف: 110]؛ تمر الأيامُ والرسلُ يَدْعون ويستغيثون، وتكرُّ الأعوامُ والباطلُ والطغيانُ يُهيمن في الفضاء، والرسل تنتظرُ سُحبَ النصرِ فلا يغشاها إلا ضُلَل البطشِ والقهر، ضيق وكرب ما يطيقه بشر.
يأتي الجوابُ لأبي الأنبياء بعد ما دعوة دامت ألف سنةٍ إلا خمسين عامًا؛ (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ)[الشعراء: 116]، يُسَاوم الأنبياء على دينهم ومبادئهم؛ (لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا)[إبراهيم: 13].
قالت الصديقةُ -رضي الله عنها-: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ فَقَالَ: "لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ".
فيدخُلُ بعدها مكةَ مهمومًا مكروبًا، فيتوسد بظل الكعبةِ، ويلتف حوله المستضعفون ويشكون له الظلم والطغيان.. ألا تستَنْصِر لنا، ألا تدعُو اللهَ لنا؟ في هذه اللحظةِ التي يستحكُم فيها الكرب، ويأخذُ الضيقُ بمخانقِ الرسل، ولا تبقى ذرةُ من الطاقة المدخرة؛ في هذه اللحظة يجيئُ النصرُ كاملًا حاسمًا فاصلًا (جَاءَهُمْ نَصْرُنَا)[يوسف: 110].
جاءهم بعد مناشدةٍ وابتهال (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ)[القمر: 10]، ونَبِيُّ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: "اللهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي"، فيتكلم الله -سبحانه- من فوق سمواته ويستجيب لنبيه؛ (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ)[الأنفال: 9]؛ فيَفيقُ رسول الله ويقول: "هَذَا جِبْرِيلُ آخِذٌ بِرَأْسِ فَرَسِهِ، كَأَنَّي أَنْظُرُ إِلَى مَصَارِعِ الْقَوْمِ عَشِيَّةً".
(فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)[يوسف: 110]، (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)[هود: 102]، (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ)[الأنفال: 59].
فلا يقفُ أمامَ دعوةِ الحقِ وشريعةِ ربِ العالمين أحدُ إلا أذله اللهُ وقصمه؛ فقد (أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى)[النجم: 50- 52]، وللظالمين أمثالُها؛ لقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَة؛ عِبْرَةٌ لمن يعقل ويتفكر، عِبْرَةٌ لمن يصبر ويدّكر. (وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)[الحج: 40].
أستغفر الله لي ولكم وللمسلمين والمسلمات، فاستغفروا ربكم وتوبوا إليه، إنه كان للاوابين غفورًا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين؛ نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أخرج الترمذي بسند صحيح َعَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ، وَلَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ، وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَلَاثُونَ مِنْ بَيْنِ لَيْلَةٍ وَيَوْمٍ، وَمَا لِي وَلِبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ، إِلَّا شَيْءٌ يُوَارِيهِ إِبْطُ بِلَالٍ".
هذه حِكَايَةُ حَالٍ لَا شِكَايَةُ بَالٍ، بَلْ تَحَدُّثٌ بِالنِّعْمَةِ، وَتَوْفِيقٍ بِالصَّبْرِ عَلَى الْمِحْنَةِ، وَتَسْلِيَةٌ لِلْأَمَةِ لِإِزَالَةِ مَا قَدْ يُصِيبُهُمْ مِنَ الْغُمَّةِ.
لن تهتدي أمةُ في غير منهجه *** مهما ارتضت من بديع الرأي والنُظمِ
حينما يؤمن الإنسان إيماناً صادقاً، بأن وعد الله حق، فإن جواذب الإيمان ترفعه عن الالتفات إلى موطن الذلةِ والخنوع، وتدفعه إلى العمل لنصرة الحق وإعلاء شريعة الله، والصبرِ على الشدائد، فما يولد المولود إلا بعد شدائد وآلام، وما يطلع الفجر إلا بعد الظلام.
فما يسبح الإنسان في لُج غَمرةٍ *** من العز إلا بعد خوض الشدائدِ
وما يصيب المؤمنين في أرض المقدس إنما هي سَحابةُ صَيفٍ عن قليل تقشع، وعروقُ باطلٍ لا تمهل أن تَقطَعَ، لا يهولنكَم عدتهم، ولا تخشوا عددهم؛ (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ)[الحشر: ١٤].
فاستيقنوا مع الدعاء والصبرِ بوعد الله، فإن النصر لا يأتي إلا بيقين.. يقين لا يساوره شك.. ولا تخالطه ريب (مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ)[الحج: 15].
المستقبل للدين.. والعاقبة للمتقين؛ (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)[يوسف: 21].
اللهم اهدنا للحق وارزقنا الثبات عليه، وأعذنا من مضلات الفتن.
اللهم أنجِ المسلمين المستضعفين في كل مكان من فراعنة هذا الزمان، يا قوي يا جبار.
اللهم آمنا في دورنا وأصلح ولاة أمورنا.
التعليقات