عناصر الخطبة
1/مكانة وفضل العلماء 2/ حب الناس للعلماء 3/ زاد الداعية وطالب العلم 4/ الاتعاظ بقصر العمر 5/ وسيلتان معينتان للعلم وحفظ الصحةاهداف الخطبة
تنبيه الناس لقدر العلماء ومكانتهم وفضلهم / ترغيب الناس في طلب العلماقتباس
إن محبة الناس لا تشترى بالمال، ولا بالتدين الأجوف الذي لا ينطلق من مبادئ راسخة وقيم ثابتة، وإن الأضواء والشاشات والشهرة لن تجبر الناس على الوقوف تحت أشعة الشمس الحارقة للصلاة واتباع الجنازة ما لم يسخرها فاطر الأرض والسموات لذلك
عباد الله: كان الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري في درسه، وطلابه من حوله، فورد عليه كتاب فيه نعي عبدالله بن عبدالرحمن الدارمي فنكس البخاري رأسه، ثم رفع واسترجع ودموعه تسيل على خديه ثم أنشأ يقول:
عزاءٌ فما يصنـع الجـازع *** ودمع الأسى أبداً ضائـعُ
بكـى الناس من قبل أحبابهم *** فهل منهم أحدٌ راجـعُ
تدلى ابن عشرين في قبـره *** وتسعون صاحبها رافـعُ
وللمرء لو كان يُنجي الفرار *** في الأرض مضطرب واسعُ
يُسلِّم مهجتــه سامحـاً *** كما مـدّ راحته البائـعُ
وكيف يوقّى الفتى ما يخاف *** إذا كان حاصده الزارع
عباد الله: إن فقد العالم ليس فقداً لشخصه ولا لصورته، وليس فقداً للحمه ودمه، ولكنه َفقْدٌ لجزء من ميراث النبوة، وهو العلم، وذلك مؤذنٌ بقرب الساعة وفشوِّ الضلالة، عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: " إِنَّ اللَّهَ لا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رؤوسًا جُهَّالاً، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا " رواه البخاري ومسلم، وقال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله جل وعلا: ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ) [الرعد:41]، قال: " خراب الأرض بموت علمائها وفقهائها وأهل الخير منها ".
الأرض تحيا إذا مـا عاش عالمهـا *** متى يمت عالم منها يمت طرفُ
كالأرض تحيا إذا ما الغيث حلّ بها *** وإن أبى عاد في أكنافها التلف
أيها المسلمون: لما كان للحوادث المؤلمة آثار بليغة في النفوس كان لابد من وقفات وتأملات، نخفف من خلالها الحدث، وننشر البشرى، ونحث أنفسنا أولاً والناس جميعاً إلى ضرورة الاستفادة من حياة أولئك العظماء والاقتداء بهم.
عباد الله: إن مما يحمد لمجتمعنا حَبه للعلماء الراسخين والدعاة الصادقين، والأخذ بأقوالهم والاستنارة برأيهم، وإذا حل بأحد العظماء أجله المقدر وانطوت صحيفته وانتقل عن هذه الدنيا، فإن الجموع تحزن والعيون تدمع، وكأنها فقدت أباً أو أماً أو قريباً لصيقاً، وقد قال أيوب رحمه الله: "إني أخبر بموت الرجل من أهل السنة فكأني أفقد بعض أعضائي" فإذا كان هذا شعورهم عند موت الرجل من عامة أهل السنة، فكيف تكون حالهم عند موت أحد علماء السنة أو الدعاة إليها؟ قال عبدالوهاب الوراق " أظهر الناس في جنازة أحمد بن حنبل السنة، والطعن على أهل البدع فسَر الله المسلمين بذلك على ما عندهم من المصيبة لما رأوا من العز وعلو الإسلام وكبت أهل الزيغ".
أيها المسلمون: إن محبة الناس لا تشترى بالمال، ولا بالتدين الأجوف الذي لا ينطلق من مبادئ راسخة وقيم ثابتة، وإن الأضواء والشاشات والشهرة لن تجبر الناس على الوقوف تحت أشعة الشمس الحارقة للصلاة وإتباع الجنازة ما لم يسخرها فاطر الأرض والسموات لذلك، فهي إذاً منحة إلهية ومنة ربانية تذكرنا بالحديث المتفق على صحته: " إذا أحب الله تعالى العبد نادى جبريل: إن الله يحب فلاناً فأحببه، فيحبه جبريل فينادي في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض ".
وبالحديث الآخر في الصحيح المروي عن أنس بن مالك قال: مروا بجنازة فأثنوا عليها خيرا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " وجبت ". ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرا، فقال: " وجبت " فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما وجبت؟ قال: " هذا أثنيتم عليه خيرا، فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرا، فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض ".
أيها المسلمون: ليعلم كل ساع في الحياة الدنيا سواء أكان مقصده الله والدار الآخرة أو مناه الحياة الفانية؛ ليعلم أولئك كلهم أن الساعي لابد له في سعيه من زاد يتقوى به على مشاق الطريق ولوائها، وزاد طالب العلم والداعية إلى الله هو العبادة لله وحده والتقرب إليه في السر والخفاء؛ كالصلاة في آخر الليل، وكصدقة السر، وكذكر الله تعالى ودعائه بظهر الغيب، وقد نَصحَنَا النبي-صلى الله عليه وسلم- بالخبيئة الصالحة - وهي العمل الصالح الخفي الذي لا يعلم به إلا الله تعالى- فقال: " مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ لَهُ خَبْءٌ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ فَلْيَفْعَلْ " رواه أحمد في الزهد وصححه الألباني.
وجاء عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " ثلاثة يحبهم الله عز وجل، ويضحك إليهم، ويستبشر بهم: الذي إذا انكشفت فئة قاتل وراءها بنفسه لله عز وجل؛ فإما أن يقتل، وإما أن ينصره الله ويكفيه، فيقول الله: انظروا إلى عبدي كيف صبر لي نفسه؟! والذي له امرأة حسناء، وفراش لين حسن، فيقوم من الليل، فيقول: يذر شهوته، فيذكرني ويناجيني، ولو شاء رقد! والذي يكون في سفر، وكان معه ركب؛ فسهروا ونصبوا، ثم هجعوا، فقام من السحر في سراء أو ضراء " رواه الطبراني بإسناد حسن.
وما أجمل قول أحدهم: " كن مثل فريد الدين العطار في المعرفة، ومثل الغزالي في الذكاء والعلم، وكن كما تشاء، إلا أنه لا شيء ينفعك ولا شيء يجديك ما لم يكن لك أنة لله تعالى في السحر ( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) [النحل:97].
عباد الله: إن فوق أديم الأرض من العلماء والصلحاء والعباد والزهاد من يفوق في مجاله كثيراً ممن تعرفون من العلماء ومن تفقدون من الفقهاء والصلحاء، وما برز من برز على طول الأرض وعرضها في قديم الأيام وحديثها إلا بتوفيق من الله تعالى وإكرام منه لأولئك القوم الذين امتلأت قلوبهم صدقاً وإخلاصاً وخوفاً وخشية منه سبحانه-هكذا نحسبهم- وهذا طريقهم لمن أراد اللحاق بهم والاحتذاء حذوهم؛ فالمعول عليه -بعد توفيق الله ومنته- صلاح القلب واستقامته؛ لأن صلاح الجسَد مرتبِط بصلاحِ القلب؛ كما في الحديثِ الصّحيح: " ألا وإنَّ في الجسد مضغةً، إذا صلَحت صلَح الجسد كلّه، وإذا فسَدت فسد الجسد كلّه، ألا وهي القلب ".
يقول ابن رجب رحمه الله في شرح هذا الحديث: " فيه إشارة إلى أن صلاح حركات العبد بجوارحه واجتنابه للمحرمات واتقاءه للشبهات بحسب صلاح حركة قلبه، فإن كان قلبه سليمًا ليس فيه إلا محبة الله ومحبة ما يحبه الله وخشية الله وخشية الوقوع فيما يكرهه؛ صلحت حركات الجوارح كلها، ونشأ عن ذلك اجتناب المحرمات كلها، وتوقي الشبهات حذرًا من الوقوع في المحرمات "، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ".
فيا لله العجب من أقوام صرفوا جلّ اهتمامهم في تحسين ظواهرهم، وغفلوا عن قلوبهم وأفئدتهم، فلنلجأ عباد الله إلى الله ولنتضرع إليه ونسأله سبحانه القلب السليم فقد قال تعالى مخبرًا عن دعاء الراسخين في العلم: ( رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ) [آل عمران: 8]، وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: " اللهم مصرف القلوب، صرف قلوبنا على طاعتك " رواه مسلم، وكان من دعائه أيضًا: " وأسألك قلبًا سليمًا ".
أيها المسلمون: أعمار أمة محمد صلى الله عليه وسلم ما بين الستين إلى السبعين وأقلهم من يجوز ذلك كما ثبت عند الترمذي وغيره بسند صحيح، ومن بلغ الستين من عمره فقد وصل إلى مرحلة الضعف والشيبة حيث تضعف الهمة والحركة والبطش، ويسوء الحفظ ويقل العلم وتتغير الصفات الظاهرة والباطنة; لكن فئاماً من أمة محمد صلى الله عليه وسلم اصطفاهم الرحمن فجعلهم من القلة الذين يجوزون الستين والسبعين فأمدهم المولى بصحة في أجسامهم وقوة في هممهم ونشاط في حركاتهم قصرت همم الشباب عن مجاراتهم واللحاق بهم وما نال أولئك الأصفياء ما نالوا إلا بإيمانهم وعملهم الصالح، وقد قال بعض العلماء تعليقاً على قوله تعالى: ( ثم رددناه أسفل سافلين * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) [التين:5-6] : " إن العلماء العاملين لا ينالهم هذا الخرف وضياع العلم والعقل من شدة الكبر " بل يكافئهم الله على ما قدموه في شبابهم وقوتهم من عمل صالح، فجعل لهم الأجر غير الممنون على أعمالهم التي كانوا يعملونها وهم أقوياء على العمل. (بتصرف يسير من تفسير الطبري وأضواء البيان).
فيا عباد الله ويا معاشر الشباب: من أراد منكم التمتع بقواه وعلمه وحفظ عقله في حال قوته وضعفه فعليه بهاتين الوسيلتين:
الأولى: الإيمان والعمل الصالح، وشاهد هذا قوله تعالى ( ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) أتى الإمام الطبري -أحد علماء الإسلام- إلى سفينة فركبها، فلما اقتربت من الشاطئ، وهو في السبعين من عمره أراد أن ينزل إلى الشاطئ، فقفز، فأراد الشباب -وهم معه- أن يقفزوا، فما استطاعوا، فقالوا له: كيف استطعت وأنت شيخ، وما استطعنا ونحن شباب؟
قال: هذه أعضاء حفظناها في الصغر، فحفظها الله لنا في الكبر. ( فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) [يوسف:64] .
الوسيلة الثانية: سؤال المولى والإلحاح عليه بحفظ الجوارح، ولنا في سنة محمد صلى الله عليه وسلم قدوة؛ فقد روى البخاري -عند تفسير قوله تعالى: ( وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) [النحل:470] عن أنس بن مالك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - كان يدعو: " أعوذ بك من البخل والكسل، والهرم وأرذل العمر، وعذاب القبر، وفتنة الدجال، وفتنة المحيا والممات ".
يروى عن العلامة الألباني رحمه الله أن لما قرئ عليه قوله صلى الله عليه وسلم " أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك " قال: أنا من ذلك الأقل، فقد جاوزت الرابعة والثمانين، سائلاً المولى سبحانه وتعالى أن أكون ممن طال عمره وحسن عمله ومع ذلك فإني أكاد أن أتمنى الموت؛ لما أصاب المسلمين من الانحراف عن الدين والذل الذي نزل بهم حتى من الأذلين، ولكن حاشا أن أتمنى وحديث أنس ماثل أمامي منذ نعومة أظفاري، فليس لي إلا أن أقول كما أمرني نبيي صلى الله عليه وسلم " اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي " وداعيا بما علمنيه عليه الصلاة والسلام " اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعلها الوارث منا " أ.هـ.
عبد الله:
لياليك تفنى والذنوبُ تزيـدُ *** وعمرك يَبْلَى والزمانُ جديـدُ
وتحسبُ أنّ النقصَ فيك زيادةٌ *** وأنتَ إلى النقصان لست تزيدُ
ففكِّر ودبِّر كيف أنت فربّما *** تذكَّرَ فاستدعى الرّشادَ رشيـدُ
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية
أيها المسلمون: إن تعليق الناس بذوات الأشخاص ليس منهجاً ربانياً، ولا سنة نبوية؛ فالأشخاص يمرضون ويموتون، ويهرمون ويتغيرون، ويُفْتَنُونَ وَيُبَدِّلُون، ويَثْبُتون ويُحْسِنُون؛ فالغيب مجهول، والخاتمة لا تُعلم، يقول الله تعالى: ( وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) [لقمان:34]. وهذا مصداق لما قاله عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه-: " من كان مستناً فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة ".
عباد الله: كم مات من عالم؟ وكم دفن من إمام؟ بل قد مات النبي صلى الله عليه وسلم ودين الله باق، وأعلامه باقية بعده مرفوعة على يد رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه " فمن كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت " ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ ) [آل عمران:144].
عباد الله: إذا كان أهل النفاق قد راقهم موت علمائنا ورفعوا بذلك رأسًا، وفرحوا بفقدهم ولم يُبدو أسًى - فليبشروا بما يسوؤهم، فإنَّ الله وعدنا على لسان نبيِّه صلى الله عليه وسلم أنَّه يبعث على رأس كلِّ مائة سنة من يجدِّد لهذه الأمَّة أمر دينها، فلا يموت جيلٌ من العلماء حتَّى يخلفه جيل آخر-إلاَّ ما شاء الله-، ولا يزال الله يغرس في هذه الأمة من يبصّرها بأمر دينها، وينفي عن الدين تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين. " ولا تزال طائفة من الأمة على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ".
قال حمَّاد بن زيد حضرت أيُّوب السختياني وهو يغسل أحد أصحابه وهو يقول: " إنَّ الذين يتمنَّون موت أهل السنَّة يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، والله متمٌّ نوره ولو كره الكافرون ".
ألا فصلوا وسلموا على الهادي البشير.
التعليقات