عناصر الخطبة
1/ فضل محمد -صلى الله عليه وسلم- 2/ وجوب حب محمد -صلى الله عليه وسلم- 3/ الهجمات على نبي الرحمة 4/ موقف الأمة من السخريات السابقة 5/ العاطفة وحدها لا تكفي 6/ ضرورة دراسة المواقف 7/ تحذير كل مسلم من أن يكون مطية لتشويه الإسلام 8/ مفاهيم خاطئة لدى المسلمين 9/ ضرورة تكاتف الشعوب مع الحكومات في اتخاذ المواقفاهداف الخطبة
اقتباس
نعم، علينا -ونحن نشاهد هذه الهجمة الشرسة على الإسلام ومحمد صلى الله عليه وسلم- أن نواكب ذلك بجهود مثمرة موازية لجهود التشويه، وبأفعال إيجابية تبيّن الحق لغير المسلمين، وتبرز السماحة التي جاء بها الإسلام وبلغها محمد -صلى الله عليه وسلم-، فبدلاً من مقاطعة العُلب وما قد تؤدي إليه من إضرار بالأقليات المسلمة هناك علينا بذل المال للإنشاء ودعم المشاريع التي تهدف إلى توضيح صورة الإسلام ونبيه التي يسعى أعداء الإسلام لتشويهها.
الخطبة الأولى:
محمد هو رسول الله إلى هذه الأمة، بل إلى العالم كله، جاء بالرحمة والهداية، فأوجب الله محبته والذود عنه، عند البخاري عن أبي هريرة مرفوعًا: "فوالذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين"، وفي الحديث المتفق عليه عن أنس مرفوعًا: "ثلاث من كنّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما...". يقول ابن تيمية: "الرسول إنما يُحبّ لأجل الله، ويُطاع لأجل الله، ويُتبع لأجل الله".
وقال تعالى: (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [التوبة: 24].
وروى البخاري عن عبد الله بن هشام قال: كنا مع النبي وهو آخذ بيده عمر، فقال عمر: يا رسول الله: لأنت أحب إليّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال: "لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحبّ إليك من نفسك"، قال عمر: فإنه الآن، لأنت أحب إليّ من نفسي، فقال: "الآن يا عمر".
عباد الله: واليوم نسمع من يتوجه إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- بالسخرية والاستهانة من أهل الصليب وأعداء التوحيد، وينشرون سخريتهم وازدراءهم على مرأى من المسلمين في الصحف، معلنين بذلك استهانتهم بمحمد -صلى الله عليه وسلم- واحتقارهم لأمته، ومع أن ذلك سبب كاف لتوجيه الغضب لمن آذانا في نبينا محمد ومقاطعته والدعاء عليه وأخذ موقف منه.
عباد الله: في المرة السابقة اتحدت الجهود الإسلامية بعد أن انصبت في سلاح المقاطعة، فكانت جهودًا موفقة ومقاطعة مباركة، أثبتت للعالم أن أمة محمد ليس أمرها بالهين، وأن محمدًا خلّف بعده رجالاً يذودون بأرواحهم عن عرضه، نعم، لقد ظهرت بوادر نجاح هذه المقاطعة، وآتت ثمارها في حينها بشكل أبرد القلوب الشعبية في كل البقاع الإسلامية.
لكن ما يجب أن نضعه نصب أعيننا أنه ليس كلُّ بيضةٍ شحمة، ولا كلُّ حمراءَ تمرة، يجب أن نضع أمام أعيننا أن العاطفة وحدها لا تكفي لإنجاح عمل الأمة، والحماس وحده ليس دائمًا مثمرًا، والخوف كل الخوف أن تكون مواقفنا مجرد ردة أفعال عاطفية تبرد مع مرور الزمن، وتصبح بخارًا بل سرابًا يتطاير مع الريح.
وإنني أتساءل: كيف كانت مواقفنا عندما أُهين القرآن في غوانتنامو؟! وكيف هي مواقفنا عندما عذب المسلمون في "أبو غريب"؟! وكيف هي مواقفنا عندما احتلت أفغانستان والعراق؟! لقد كانت مشحونة ملتهبة، وانظر اليوم نسينا كل ذلك، وبردت كل مواقفنا، أتدرون لماذا؟! لأن العاطفة هي التي كانت تتحدّث، والحماس هو الذي كان يسيرنا، فلما خمد كل ذلك خمدنا نحن أيضًا؛ ولذلك كم هو مرضٍ لنا أن نسمع إشاعة قتل الرسام الذي رسم صور السخرية حرقًا، أو أن خمسين دنماركيًّا أسلموا، أو أن الدنمارك خسرت بضعة ملايين من جراء مقاطعتنا لجبنتهم وحليبهم، ثم ما نلبث أن نهدأ بل نجمد، وكأن مواقفَنا وجهودَنا كلّها تتوقف عند ذلك الحد.
إن هذه المواقف الجبارة يجب أن تتجاوز حدود العاطفة العابرة؛ لنصل إلى حدّ أن تكون مواقفنا فيه مدروسة، مبنية على استراتيجيات ومعايير يعدها أهل الاختصاص من الشرعيين والاقتصاديين والسياسيين، والغضبة الشعبية يجب أن تنطلق مما ينتج عن تلك الدراسات لتتحد الجهود وتجنى الثمار وقت نضوجها، لنعلم المثمر منها من العقيم، ولنواجه التحديات المستقبلية التي ربما تكون أقوى مما مرَّ.
وكما تساءلت في المرة السابقة التي تمت فيها المقاطعة فإنني اليوم أيضًا أتساءل: أين دراسات هيئة كبار العلماء وأقسام الاقتصاد في الجامعات ومراكز التجارة في البلاد عن شرعية وآثار ومكامن إنجاح هذه الجهود، وعن قياس مدى أثر ما تم فعله في المرة السابقة ومدى نفعه لأمة الإسلام؟! للأسف لا شيء، وكل ما ظهر مجرد تحليلات فردية لا تخلو من منطلقات حماسية ورؤى عاطفية تكون في الغالب بعيدة كثيرًا عن الأرقام الواقعية.
انظر معي: بالأمس أهين القرآن، فغاية ما تحركت به عواطفنا هو مقاطعتنا للبيبسي لأيام قلائل لم نستطع بعدها أن نستسيغ الطعام بدونه لمدة أطول، ثم ما لبث أن امتلأت محلاتنا وبيوتنا بالبيبسي والميرندا، وبالأمس القريب أهين نبينا في رسوم مشينة، فقاطعنا الجبنة الدنمركية والحليب الدنمركي، وما زاد الأمر عن بضعة أشهر، لم نحتمل بعده الصبر على فقد تلك الجبنة وذاك الحليب، واليوم يهان نبينا مرةً أخرى، وبدأنا نصرخ مرة أخرى بمقاطعة الحليب والجبنة، وربما أضفنا الزبدة والعصير، وغدًا لا ندري أي أمر عظيم من قيمنا ورموزنا بل وحقوقنا ستنتهك، كما أننا لا ندري أي نوع من الأطعمة سترشدنا عواطفنا لمقاطعته.
عباد الله: هل الأمر فقط مجرد عواطف تسيرنا وجهود لا ترقى أبدًا إلى أبعد من مقاطعة تلك العُلب، أم الأمر أعظم من ذلك كله؟!
إن تلك الأزمات تستوجب علينا تجاوز مرحلة مقاطعة العُلب إلى دراسة الأوضاع بعمق، فاليوم أصبح مدار التشويه ليس فقط شخص محمد -صلى الله عليه وسلم-، وإن كان ذلك ليس بالهين بل هو عظيم جِد عظيم، بل تجاوز الأمر إلى تشويه صورة الإسلام ومبادئه وعدم اعتباره دينًا، وإنما مجموعة من مبادئ الغوغائية والعنف والعنصرية، لينفر منه كل من يسمع عنه، والسؤال هنا: أين نحن من هذا التشويه؟! وأين جهودنا تجاه ذلك؟!
اسأل نفسك: ماذا تعرف أنت عن سماحة الإسلام؟! إذا كانت سلوكياتك مع العمالة غير المسلمة هنا تثبت لهم أن الإسلام دين عنصرية وظلم وأكل لأموال الضعيف، وماذا تتوقع من ذلك العامل أن يقول لبني جلدته إذا عاد إلى بلاده؟!
اسأل نفسك: عندما يسافر أحدنا إلى بلاد الغرب فينغمس في الملذات والشهوات، ويصحَب المومسات، ويتعامل بالنصب والاحتيال، أي صورة يرسمها بسلوكه ذلك عن الإسلام وأهله؟! وأي هدية يقدمها لمن يريد تشويه صورة الإسلام وقيمه؟!
اسأل نفسك: عندما تتعامل أمام أنظار غير المسلم بالحيل والخديعة وإخلاف المواعيد وعدم الالتزام بالكلمة، ألا يعد ذلك سلوكًا مشينًا يساعد بقوة على تقوية جهود أعداء الإسلام في تحويل سلوكك إلى دليل يستند عليه في تشويه صورة الإسلام؟!
إذًا هل نستطيع أن نقول: إن من العوامل المساعدة لتشويه سمعة نبينا وديننا هي سلوكياتنا غير المنضبطة داخل المجتمع الإسلامي، وعند خروجنا إلى المجتمعات غير المسلمة.
كل ذلك في جانب السلوك، والأمر أشد في جانب الفكر، ودعني أسألك السؤالَ نفسَه الذي يسأله النصراني واليهودي وغيرهما من عوام غير المسلمين الذين لا يعرفون عن الإسلام إلا ما يمليه عليهم أعداء الإسلام من أهل ملتهم، هذا السؤال هو: إذا انتصر الإسلام وحكم العالم فكيف سنتعامل مع غير المسلم؟! نعم سؤالٌ مهمٌ جدًّا أعتقد أنه الركيزة التي ترتكز عليها الجهود المبذولة في تشويه الإسلام.
نعم أسألك أنت: ماذا يدور في خلدك الآن لإجابة هذا السؤال؟! وما الذي تسمعه في المجالس وربما في بعض المحاضرات؟! هل ستجيب بأننا سنوقفهم في طوابير ويطال قيامهم وتجر أيديهم عند أخذها ونحن جلوس لنأخذ منهم الجزية في إذلال وامتهان لهم وصغار؟! هذا أحد المفاهيم الخاطئة التي ربما احتوتها بعض كتب الفقه، وأبرزتها جهود أعداء الإسلام لتشويه الإسلام واتهامه بأنه يريد امتهان الناس وإذلالهم.
إلا أن بعض فقهاء الإسلام نبّه على ذلك، وقرّر أنه لم ينقل أن النبي ولا أحدًا من الخلفاء الراشدين فعل شيئًا منها مع أخذهم الجزية، اسمع إلى ما قاله الإمام النووي الذي شدّد النكير على هذه التزايدات والمبتدعين لها، فقد قال في كتابه روضة الطالبين (10/315، 316) بعد أن عرض لبيان كثير من هذه المقحمات الباطلة وعزاها إلى القائلين بها ما نصه: "قلت: هذه الهيئة المذكورة أولاً لا نعلم لها على هذا الوجه أصلاً معتمدًا، وإنما ذكرها طائفة من أصحابنا الخراسانيين. وقال جمهور الأصحاب: تؤخذ الجزية برفق، كأخذ الديون. فالصواب الجزم بأن هذه الهيئة باطلة مردودة على من اخترعها، ولم ينقل أن النبي ولا أحدًا من الخلفاء الراشدين فعل شيئًا منها مع أخذهم الجزية".
وقد كرّر هذا التحذير وهذا النكير على هؤلاء المخترعين في كتابه المشهور المنهاج (4/250) مغني المحتاج.
وأورد ابن قدامة في المغني (13/253) أن عمر بن الخطاب أُتي بمال كثير من الجزية، فقال: "أظنكم قد أهلكتم الناس"، قالوا: لا والله، ما أخذنا إلا عفوًا صفوًا، قال: "بلا سوط ولا نوط؟!"، قالوا: نعم، قال: "الحمد لله الذي لم يجعل ذلك على يدي، ولا في سلطاني".
ويقول علي بن أبي طالب لعامله على الجزية: "لا تبيعن لهم في خراجهم حمارًا ولا بقرة ولا كسوة شتاء ولا صيف، وارفق بهم". أخرجه البيهقي بمعناه في الكبرى، باب: النهي عن التشدد في جباية الجزية.
وقد بوّب أبو عبيد في كتابه الأموال بابًا بعنوان: "اجتباء الجزية والخراج، وما يأمر به من الرفق بأهلها وينهى عنه من العنف عليهم فيها". وقد أكثر فيه من الأحاديث والآثار التي تتضمن بيان ضرورة اتباع الرفق في مقاضاة الجزية والخراج، منها كتاب عمر بن عبد العزيز الذي أرسله إلى عدي بن أرطاة حيث قال فيه: "وانظر من قبلك من أهل الذمة قد كبرت سنه وضعفت قوته وولت عنه المكاسب، فأجرِ عليه من بيت مال المسلمين ما يصله، وذلك أنه بلغني أن أمير المؤمنين عمر مرّ بشيخ من أهل الذمة يسأل على أبواب الناس، فقال: ما أنصفناك إن كنا قد أخذنا منك الجزية في شبيبتك ثم ضيعناك في كبرك، قال: ثم أجرى عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه".
الخطبة الثانية:
ونحن نعيش بين فترة وأخرى بعض الأزمات التي يمتهن فيها تارة نبي الإسلام -صلى الله عليه وسلم-، وأخرى يتهم فيها الإسلام بالعنصرية والهمجية، ثم ما نشاهده من غضبة شعبية إسلامية عارمة، ومنها ما شاهدناه سابقًا من المقاطعة الاقتصادية الشعبية التي كان لها أثر كبير لم نشهد مثيله من قبل، إلا أننا يجب أن نعي درسًا مهمًّا مضمونه أن كل أمر عام يؤثر على المسلمين عامة وعلى دولتهم يجب أن ينطلق من مواقف عليا مدروسة، وليس صحيحًا أن ينفرد الشعب بقرار في منأى عن قيادتهم التي بايعوها؛ لأن ذلك ربما أوقع في شرّ لم يحسب له العامة حسابًا، ومن المحسوس المشاهد أنه لم يكتب لهذه المواقف الشعبية النجاح الباهر في هذه الحادثة إلا عندما اتحدت الجهود الشعبية مع إرادة القيادة وجهودها، فلذلك كان هذا الأثر الإيجابي الكبير.
هذا مفهوم يجب أن يتعلمه أبناؤنا وتتربى عليه أجيالنا؛ حتى لا نجد منهم غدًا من يحمل السلاح علينا في عقر دارنا ويقول: اجتهدت فرأيت أن قتلي للمسلمين جهاد ينصر المسلمين، وحتى لا تأتي فئة قليلة فتخرج عن جماعة المسلمين وهي تزعم أن في قرارها الحق، وأن في فعلها نصرة الإسلام والمسلمين من دون عامتهم.
ثم علينا -ونحن نفكر في ردود أفعالنا لأي أزمة- أن تكون نظرتنا بعيده، ولنعلم أن ما من جهود تنطلق لتشوّه سمعة ديننا ونبينا إلا وهي منطلقة من تقصيرنا نحن في إبلاغ الصورة الناصعة لديننا ونبينا للعالم، وتارة نلطّخ سمعة الإسلام بأيدينا نحن بسلوكنا وفكرنا المعوج.
نعم، علينا -ونحن نشاهد هذه الهجمة الشرسة على الإسلام ومحمد صلى الله عليه وسلم- أن نواكب ذلك بجهود مثمرة موازية لجهود التشويه، وبأفعال إيجابية تبيّن الحق لغير المسلمين، وتبرز السماحة التي جاء بها الإسلام وبلغها محمد -صلى الله عليه وسلم-، فبدلاً من مقاطعة العُلب وما قد تؤدي إليه من إضرار بالأقليات المسلمة هناك علينا بذل المال للإنشاء ودعم المشاريع التي تهدف إلى توضيح صورة الإسلام ونبيه التي يسعى أعداء الإسلام لتشويهها.
ولنعلم أن ما من فعل يشوه صورة الإسلام في نظر غير المسلمين أشد من سلوكياتنا المنحرفة التي نمارسها أمامهم، وتقاعسنا عن بذل الغالي والرخيص في بيان الصورة الحقيقة للإسلام أمام غير المسلمين.
التعليقات