عناصر الخطبة
1/هداية القرآن للبشرية 2/أبرز موضوعات سورة الإنسان 3/خلق الله للإنسان من العدم 4/ابتلاء الله للإنسان والحكمة من ذلك 5/منح الله للإنسان القدرات المعينة على الابتلاء 6/جزاء الأبرار والفجار في الآخرة 7/بعض صفات الأبرار الناجين يوم القيامةاهداف الخطبة
اقتباس
سورة الإنسان سورة عظيمة، فيها عبرة وفكرة، فيها ذكر خلق الإنسان، وفيها أحوال الناس وتمايزهم لكافرٍ ومؤمن، وفيها صفات الكفار والمؤمنين، وفيها أمر المعاد وحشر العباد، وفيها التثبيت للمؤمنين، سورة في مجموعها هتاف إلى الطاعة والإيمان وترك الكفر والخسران. ولهذا ولغيره كان يقرأها عليه الصلاة والسلام في فـ..
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله ...
أما بعد:
يقول الله -تعالى-: (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)[الزمر: 27-28].
ويقول: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا)[الإسراء: 41].
أنزل الله القرآن لسعادة النفس وطمأنينتها، ولم ينزله لشقائها: (طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى)[طه: 1-2].
أنزله الله لتهتدي نفس الإنسان.
قال سبحانه: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)[الإسراء: 9-10].
وافترق الناس في اتباع هذا القرآن؛ فمنهم من آمن به، وصدق بما فيه، وعمل به، ومنهم من كفر به، وكذب ما فيه وجحد.
المؤمنون آمنوا به، فكان لهم شفاءً، قال سبحانه: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ)[الإسراء: 82].
والكافرون كفروا به: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)[فصلت: 26].
(وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ)[الإنشقاق: 21].
أيها الإخوة: المؤمنون في هذه الدنيا لهم أحوال وأحوال مع هذا القرآن العظيم؛ لهم منال عالية، وأحوال زاكية، زكوا أنفسهم بتلاوته، وعطروا أفواههم بقراءته، نظروا فيه فتدبروا وعملوا بما فيه، وتفكروا وقد نهى الله على من لم يتدبر فيه، فقال: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)[محمد: 24].
وكم من قلب عليه قفل لا يفتح إلى يوم القيامة؟ وكم من قلبٍ امتلأ بالتدبر فيه، والتأمل في آياته والاعتبار بعظاته؟
(أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)[الزمر: 22-23].
أيها الإخوة: لنا وقفات مع سورة عظيمة، فيها لفتات وعظات، وتذكير بآيات، سورة مكية نزلت على فؤاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فحركت قلبه، وربطة جأشه.
سورة اهتمت بشأن الإنسان من حيث هو: إنسان، ولهذا لم يكن لها اسم إلا: "سورة الإنسان".
سورة الإنسان سورة عظيمة، فيها عبرة وفكرة، فيها ذكر خلق الإنسان، وفيها أحوال الناس وتمايزهم لكافرٍ ومؤمن، وفيها صفات الكفار والمؤمنين، وفيها أمر المعاد وحشر العباد، وفيها التثبيت للمؤمنين، سورة في مجموعها هتاف إلى الطاعة والإيمان وترك الكفر والخسران.
أيها الإنسان: لهذا ولغيره كان يقرأها عليه الصلاة والسلام في فجر الجمعة لما فيها من هذا التذكير، ولما فيها من ربط القلب بأحوال اليوم الآخر، وما يجري فيه للمؤمنين والكافرين.
وما ألذ سماع هذه السورة من لسان المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، ما أعظم الأثر الذي يحصل على قلوب الصحب الكرام، وهم يستمعون في كل فجر جمعة إلى هذه السورة، وهو يرتلها ويتغنى بها، تخرج الآيات من قلبٍ امتلأ بالإيمان واليقين، تخرج الآيات من قلب نزل عليه القرآن المبين، كانوا يسمعون لصوته أزيز كأزيز المرجل والقدر إذا استجمعت غلياناً، يقرأها في صلاة فجر الجمعة والملائكة شهود: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا)[الإسراء: 78].
ومع هذا الجو الإيماني العظيم، ترتفع أحوال الصحب وكأنهم يرون الجنة عياناً، ينظرون ما فيها، ويتأملون كيف أمرها وشأنها.
فيا أيها الإنسان: لهذا ستكون لنا وقفات مع سورة الإنسان؛ ففيها تذكير وعظات، وتخويف وذكر للجنات، يقول الله -تعالى-: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)[الإنسان: 1-3].
هذه السورة شأنها الإنسان تذكر حاله ومآله، وكيف كان وأين كان، يقول سبحانه: (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ).
أجاء هذا الوقت، أكان الإنسان في وقتٍ من الأوقات معدوماً، غير مذكور، كان عدماً محضاً، ليس بشيء، أجاء هذا الوقت عليه، نعم جاء فلقد كان الله ولا شيء معه، كان الله ولم يكن قبله شيء، هو الأول والآخر.
وأنت أيها الإنسان كنت عدماً في ذلك الوقت، لم تكن شيئاً مذكوراً، ولهذا الاستفهام ههنا: (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ).
قال العلماء: هل ههنا بمعنى قد، يعني أنه قد أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً، قل لي بربك أنت؟!
أنت أيها الإنسان الذي أمامي الآن إذا كنت عدماًً ولم تكن شيئاً في ذلك الزمن، فقل لي: من شفع لك عند الله في ذلك الزمن؟
قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، عندما كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم ويوجدهم.
قل لي بربك: من شفع لك في ذلك الزمن حتى يكتبك الله في أهل الإيمان والإسلام؟! ولم يقدر عليك الكفر والضلال، وفقك للسنة وأبعدك عن البدعة، جعلك من أهل التوحيد ولم تكن من أهل الشرك، أيها الإنسان.
يا من كنت عدماً، من شفع لك وأنت غير مذكور ولم تكن بعد شيئاً؟!
إنها رحمة الله بعبده، قال صلى الله عليه وسلم: "وإن الله خلق خلقه في ظلمة، فألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور يومئذٍ اهتدى، ومن أخطأه ضل"[رواه الحاكم وسنده صحيح].
وهذا لعلمه بهم سبحانه وتعالى وقدرته بخلقه، ثم بعد ذلك خلقك؟ وبم خلقك؟ ولماذا خلقك؟ وماذا جعل لك من الأدوات حتى تحقق غاية الخلق؟ قال: (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا).
خلقك من نطفة، وكثيراً ما يذكر الله الإنسان بأنه خلقه من نطفة بعد أن لم يكن شيئاً، حتى يتذكر ويعلم لماذا خلق ولماذا أوجده الله: (أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى)[القيامة: 36-39].
وهل من نطفة فحسب؟
لا، بل من نطفةٍ أمشاج، يعني أخلاط، من نطفة الذكر والأنثى، ولماذا هذا الخلق: (مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ).
قال: (نَّبْتَلِيهِ).
إذن خلقك وأوجدك ليبتليك بالعبادة والطاعة والمعصية.
ليس للابتلاء بهموم المعاش وهموم وغموم الدنيا، لا، فإن هذا تشترك فيه كل المخلوقات، أمَّا الإنس والجن فخلقهم الله للابتلاء بعبادته، ليعلم من يعبده ممن لا يعبده.
(نَّبْتَلِيهِ) نختبره، ولهذا قال: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)[الملك: 2].
وبين الغاية من الخلق ووضحها، وأنها للعبادة، فقال: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[الذاريات: 56].
قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ)[الإنفطار: 6-8].
(كَلَّا) -يعني: حقاً- (بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ)[الإنفطار: 9].
فيا أيها الإنسان: لمَّا خلق الله الخلق لغاية كان لا بد أن يرسل إليهم رسلاً وأنبياء، لا بد من نزول الوحي، ولا بد من تفصيل الشرائع والأحكام!! وكيف يعلم الإنسان هذه الأمور؟
إنه عدم محض، ليس شيء ولا شيء ولا فيه ولا منه شيء، لهذا قال الله: (نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا).
جعل له السمع والبصر حتى يهتدي بهما، حتى يعبد الله بهما لا يعبد الشيطان والهوى بهما، فمن الناس من سخر هذه الأدوات: السمع والبصر، الأيدي والأرجل، التفكير والعقل، الأحاسيس والمشاعر، منهم من سخرها لعبادة هواه لا لعبادة الله، فلا يقرأ القرآن، وتجده يتلو قرآن الشيطان الغناء، ولا ينظر في المصحف ببصره، وينظر في الحرام ببصره، ولا يسمع الهدى وكلام الرحمن، ويسمع مزمار الشيطان.
فيا أيها الإنسان: أنت أنت يا من تسمع وتبصر، في ماذا تستخدم سمعك وبصرك في يومك وليلتك، هل انتبهت لماذا أعطاك الله السمع والبصر؟! هل عبدت هواك بهما أم عبدت الله بهما؟!
فيا أيها الإنسان: الذي حرم الآخرين من السمع والبصر أليس هو قادراً أن يحرمك أنت أيضاً وتحاربه، فاتق الله -يا عبد الله-.
ثم يقول سبحانه عن هذا الإنسان: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)[الإنسان: 3].
هديناه هداية الدلالة والارتقاء والتبين، وضح له من حيث هو إنسان، فلم يمنع الله الإنسان من الهداية، هداية الدلالة والتبيين والتوضيح، وضح له السبيل، وطريق الجنة والنار: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ).
إما شقي وإما سعيد، إما شكور وإما كفور، فقال صلى الله عليه وسلم: "كل الناس يغدو، فبايع نفسه فموبقها أو معتقها".
كل الناس -وأنت منهم- أيها الإنسان، يغدو في دنياه يحيى ويعيش ويتمتع ويلهو، يغدون ويروحون ولكن هم قسمين:
فبايع نفسه فموبقها -يعني مهلكها- بأن يختار الضلال على الهدى.
وقسم يغدو، ولكن يعتق نفسه، يعتق نفسه من عبادة هواه، ويعبدها لله، ويختار الهدى على الضلال، فهو يرى الرسل قد أرسلت، والجنة والنار قد خلقت، والجحيم سعرت والجنة أزلفت، والناس درجات في الجنة أو دركات في النار، فيتأمل في غدوه ورواحه فلا يختار إلاّ الهدى والإيمان.
أيها الإنسان: وبعد هذه اللفتات في أول السورة، يبدأ في بيان أحوال الشاكرين المؤمنين من الناس، ويبين أحوال الكافرين الضالين.
ويبين الله ما لكل فريق من الناس من الجزاء، ومن النعيم أو العذاب، فهم ما بين درجات الفردوس الأعلى، ودركات في النار السفلى، يقول بعد ذلك سبحانه: (إِنَّا أَعْتَدْنَا)[الإنسان: 4] -أي أعددنا- (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَا وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا)[الإنسان: 4].
وبعد هذا يذكر حال ذلك الإنسان الذي آمن واهتدى وأعتق نفسه من رق العبودية لغير الله، فيقول سبحانه: (إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا * وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا * وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا * قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا * عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا * وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا * عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا * إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا)[الإنسان: 5-22].
شتان بين مصير ذلك الإنسان الذي اختار الضلال، وبين ذلك الإنسان الذي اختار الهدى.
شتان بين من اتبع الهوى، وختم الله على قلبه وسمعه وبصره، وبين من كان على نور من ربه، بربه يسمع وبه يبصر، وإليه يسعى ويحفد يرجو رحمته، ويخشى عذابه.
أيها الإنسان: انظر إلى عذاب الكافر: (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَا وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا)[الإنسان: 4].
أعد الله لهم سلاسلاً يسحبون بها في النار: (إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ)[غافر: 71-72].
قال تعالى: (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ)[الحاقة: 25-32] -إن هذا الإنسان- (لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ)[الحاقة: 33].
قال تعالى: (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ)[الحج: 19-22].
ذق -أيها الإنسان- يا من كفرت وتجبرت، يا من لا تصدقت ولا صليت، ولا حججت ولا تزكيت.
ذق -أيها الإنسان- يا من سمعت بالهدى فاستحببت العمى، الأمر كأنه لا يعنيك، وترى حالك التي أنت فيها أنها تكفيك، ويلك آمن -أيها الإنسان- فإن الأمر إما جنة نعيم أو نارٌ وجحيم.
اللهم اجعلنا ممن تبع هداك، وآمن بك، وقدم لنفسه وأخير، وممن تعلم وتعبد وسعى وأحفد.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله ...
أما بعد:
فهذا هو حال الإنسان الكافر، جحيم ونار من حميم، وسلاسل وأغلال وعذاب ووبال.
وأمَّا حالُ الإنسان المؤمن، فهو فيما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر: (إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا) [الإنسان: 5].
يشربون من كأس خمر لذةٍ للشاربين.
هل تعلمون ما معنى: (يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا)؟
عجب وأي عجب!! -يعني يفجرونها إلى حيث يريدون وينتفعون بها كما يشاؤون، ويتبعهم ماؤها إلى كل مكانٍ يريدون وصوله إليه-.
قال مجاهد: (يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا) يعني يقودونها حيث شاؤوا حيث مالوا مالت معهم.
هذا شيء من نعيم الأبرار، شيء من نعيم ذلك الإنسان الذي سمع الهدى فاهتدى والتزم به وترك الضلال، هذا شيء من نعيم ذلك الإنسان الذي علم لم خلق؟ وما هي الغاية من ذلك؟
فالتزم واهتدى بهدى الله ونوره، ويهدي الله لنوره من يشاء.
ما هي صفات هؤلاء الأبرار؟ ما هي صفات هؤلاء الناس في الدنيا التي بها فازوا حيث خسر بقية الناس يوم القيامة؟
تعال وردد الآيات، واستمع لها، حتى تعلم -أيها الإنسان- أأنت منهم، أم أنك مخدوع في نفسك؟
يقول سبحانه: (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) -هذه واحدة- (وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا) -هذه الثانية- (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًاً) -هذه الثالثة- يوفون بالنذر مع أن النذر هم أوجبوه على أنفسهم، النذر ليس واجباً عليهم، ولكنهم إذا نذروا وفوا، وإذا كان هذا في الواجبات التي ألزموا أنفسهم بها فكيف بالواجبات التي افترضها عليهم؟! كيف بالصلوات! كيف بالأوامر الشرعية! كيف امتثالهم للآمر والناهي -سبحانه وتعالى- هذا من باب أولى أنه عظيم، بل إنهم ليجيئون بهذه الأوامر، ويتركون النواهي، وهم يخشون ألا يقبل الله منهم شيئاً، لم يحسنوا الظن أبداً في أنفسهم، قال سبحانه: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ)[المؤمنون: 60].
قالت عائشة: "يا رسول الله: (الَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر، وهو يخاف الله -عز وجل-؟" قال: "لا يا بنت أبي بكر يا بنت الصديق، ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق، ويخاف ألا يقبل الله منه".
ومن صفاتهم المذكورة في الآيات: (وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا) شره منتشر مستطير، لا يسلم منه أحد: (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ * يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ * إِلَّا مَن رَّحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)[الدخان: 40-42].
فمن رحمة الله في ذلك اليوم: وقاه الله شر ذلك اليوم، ولهذا قال الله عن المؤمنين لما خافوا ذلك وأصابتهم الخشية والوجل منه: (فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا).
بينما ذلك الإنسان الذي لم يتبع الهدى يوم يرى الملائكة: (لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا * وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا * أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا ) (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ) -بالسحاب- (وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلًا * الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا * وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا)[الفرقان: 24-29].
(يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا)[الإنشقاق: 7-13].
ألهته الدنيا فعبد نفسه وهواه، وترك عبادة الله.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى.
اللهم اهدنا واهد بنا.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال.
اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، يا ذا الجلال والإكرام.
ربنا تقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، وأجب دعوتنا، وثبت حجتنا، واهد قلوبنا، وسدد ألسنتنا.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[البقرة:201].
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات ...
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
التعليقات